ما زالت فلسطين مرتبطة في ذاكرة كل منا بتلك الصورة التى عرفناها في نشرات الأخبار من جنازات الشهداء، وأخبار الأسرى وحكايات القرى الفلسطينية التي تعرضت للتطهير العرقي والمدن التي هُجر أهلها وبقي من بقي، وانقسموا إلى من عاش داخل السور يحمل جنسية الاحتلال الإسرائيلي؛ ليستطيع البقاء على أرضه ولا يفارقها، ومنهم من رفض الجنسية وعاش خارج السور يعاني القصف من وقت لآخر وانقطاع الخدمات الآدمية.
ترى ما هي صورة تلك المدن الآن، وكيف حال من هاجر من أهلها، وكيف يعيش من رفض الهجرة؟
اليوم وبعد مرور 69 عاماً على النكبة، يأتي الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون، برواية "مصائر" الصادرة عام 2015 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والتي حصلت على الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر عام 2016؛ ليُعرف الكاتب فيما بعد بأنه أول كاتب فلسطيني يحصل على تلك الجائزة. ويحدثنا عن صورة تلك المدن في الوقت الحالي، ومصير من رحل ومن بقي من الفلسطينيين.
جمعت الرواية بين مجموعة من الأبطال لكل منهم حكاية، تجعلهم مجموعة قصص متنوعة في إطار واحد، لكن تجمعهم قضية واحدة وانتماء واحد مهما اختلفوا، هو فلسطين.
تبدأ أحداث الرواية بـ وليد دهمان المواطن الفلسطيني الذي هاجرت عائلته عقب أحداث النكبة، يعود بعد 60 عاماً ترافقه جولى، زوجته التي عادت؛ لتواري الباقي من جسد والدتها، أرض فلسطين، تلك الأرض التي ولدت وعاشت بها الأم الأرمنية الأصل، وغادرتها قبل سنوات النكبة بقليل.
يصل وليد إلى أرض فلسطين، فتبدأ حكايته من مطار اللد بتلك التحكمات الأمنية التي يواجهها؛ كي يستطيع العبور، فهناك احتمالان للزيارة؛ إما أن يذهب إلى حيفا ليستمتع برحلة سياحية وزيارة قصيرة إلى مدينة المجدل عسقلان التي ولد بها، أو إلى القدس ليزور الأماكن المقدسة، ثم يذهب إلى الأطلال التى شهدت بعض المذابح، مثل قرية دير ياسين، التي تحولت إلى نصب تذكاري ومتحف يحمل أسماء من ماتوا في المذبحة وأسماء من فُقدوا من الإسرائيليين وفق ادعائهم.
وينتقل الكاتب إلى جنين، كاتبة وصحفية فلسطينية تحمل الجنسية الإسرائيلية؛ مقابل أن تعيش بمدينة يافا وتحصل على مسكن وفرصة للعمل. تعيش جنين بصحبة زوجها باسم، وهو محاسب فلسطيني ينتمي إلى بيت لحم، ويعانى الحرمان من العمل وكافة حقوق المواطنة؛ لأنه لا يحمل الجنسية الإسرائيلية.
وبين جنين وباسم نقف أمام أحد أهداف الرواية، وهي أن من تعايش وحمل جنسية الاحتلال؛ عاش يعاني نقصاً في حقوقه، ومن رفض الجنسية؛ عاش بلا حقوق، فما هو الحل وما هو شكل حياتهم اليومية ومصيرهم؟
تعمل جنين على كتابة قصة عن أحد المواطنين الفلسطينيين الذين رفضوا الهجرة من فلسطين عقب النكبة، ليعرفوا فيما بعد بعرب 1948 وهم من حملوا الجنسية الإسرائيلية.
لتأخذنا الرواية إلى قصة محمود دهمان الذي رفض التهجير بعد النكبة، مستنداً إلى أن التعايش أفضل من ترك البلاد والحياة في الملاجئ، وقد تخلى عن أسرته الصغيرة وبقي وكون أسرة جديدة.
وصم محمود دهمان بالخيانة، لكن في الوقت نفسه يحسد من الأقارب؛ لمجرد بقائه على أرض الوطن، أطلقوا عليه اسم يدل على بقائه في الأرض، وهو "باق هناك"، لنجد أنفسنا بصدد حكايتين لشخص واحد، حكاية ترويها جنين عن بطلها "باقي هناك"، ثم يأخذنا السرد بعيداً عن خيال جنين، وهي قصة والدها محمود دهمان المعروف في روايتها وفي الحقيقة أيضاً بلقب واحد هو "باق هناك".
يربط بين جنين ووليد، صاحب الحكاية الأولى، انتماءهما إلى عائلة واحدة، وكانت جنين ترسل له فصول روايتها لتستمع إلى ملاحظاته عليها كعمل أدبي، كذلك كانت فرصة وليد ليتعرف إلى سيرة أحد أقاربه الذي سمع عنه حكايات عديدة، ومشاهدة البلاد من خلال مقارنة بين الماضي والحاضر، وهنا يظهر حرص الكاتب على أن تكون صورة الماضي حاضرة وبقوة، بكل ما حدث فيه من قتل ومذابح وانتهاك للحقوق، وكيف بدأ التعايش بين الفلسطيني والإسرائيلي على أرض واحدة.
لا تضعنا حكايات الأبطال داخل الرواية أمام شخصيات متعددة فقط، بل تضعنا أمام سرد مختلف هو أهم ما يميز الرواية؛ فكل قصة يتحول أبطالها إلى أبطال ثانويين فى حياة أبطال القصة والحكاية التي تليها، مع أنهم داخل حكاية واحدة.
كذلك وضع الكاتب لنهاية كل حكاية أكثر من احتمال، ومن هنا يتضح معنى عنوان الرواية "مصائر"؛ فقد تعددت مصائر الأبطال وفقاً لاحتمالات وضعت تبعاً لما يمليه الواقع.
بقدر اهتمامه بمناقشة الشتات الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، اهتم أيضاً بتسليط الضوء على الشتات الفكري لأبناء وطنه؛ شتات بين الأمر الواقع، وما نتمناه ونسعى إليه، وبين التعايش مع فقدان بعض الحقوق، والرفض والتعامل مثل غريب على أرض هي أرضك بالتاريخ والدم.
وأشار إلى تمزق القضية الفلسطينية بين الانتماءات لحركتي فتح وحماس، وهذا شتات آخر. وعرض أيضاً بعض جرائم النازية التي اتخذها الاحتلال الإسرائيلي تجارة لتبرير اغتصابهم للأرض والحقوق.
حرص الكاتب على ذكر أسماء المدن وبعض القرى التى طهرت عرقياً بالتاريخ محدد بالسنة واليوم، وأسماء بعض العائلات التي هاجرت وتاريخ هجرتها بالتحديد.
ووصف المدن الفلسطينية التي تحدثت عنها الرواية بمنتهى الدقة، وهي حيفا، ويافا، والقدس، وعكا، والمجدل عسقلان، وكأننا في رحلة على أرض فلسطين، للوقوف على أهم المعالم التي تميزها، وتعبر عن العادات والتقاليد العربية التي تؤكد بقائنا، حتى لو لم نكن هناك.
وحرص أن يطعم السرد باللكنة الفلسطينية المحببة ببساطة لم يرهق بها القارئ.
من أهم النقاط التي تستوقف القارئ، أن الكاتب لم يجعل نفسه بعيداً عما يرويه، فقد جاء باسمه وصفته المهنية كاتباً داخل الأحداث، وهو في الواقع وبقليل من البحث جزء مما يرويه؛ فالكاتب ربعي المدهون ولد في مدينة المجدل عسقلان الفلسطينية عام 1945، ونشأ في مخيم للاجئين في خان يونس بقطاع غزة، وتلقى تعليمه بجامعة الإسكندرية في مصر، ثم عمل بالصحافة منذ عام 1973، ويقيم في لندن حيث يعمل محرراً بجريدة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى إصداراته الأدبية المتميزة.
تنتهي أحداث الرواية باقتراح جولي زوجة وليد أن يبتاع منزلاً في فلسطين، وينهي التزاماته في لندن، ويعودا للحياة على أرض فلسطين. هل ينفذ الاقتراح أم لا؟ وماذا يفعل باسم وجنين في حياتهم الممزقة والمهددة بعدم الاستقرار؟ تكمن إجابات هذه الأسئلة في مزيد من القراءة للرواية.
جدير بالذكر، أن الكاتب طرح وناقش عديداً من القضايا المهمة، ثم تركها بدون حلول مباشرة وواضحة، وقد أخبرنا الكاتب عن سبب هذه النهايات، حين حل ضيفاً على برنامج "مع ابراهيم عيسى" على فضائية القاهرة والناس بتاريخ 30 مايو/أيار 2016، قائلاً: "من عادتي أن أترك النهايات مفتوحة لاعتبارات أساسية؛ أن الواقع نفسه لم يجب على أسئلتنا الكثيرة، فما زالت المشكلة مستمرة وما زال الفلسطينيون يقاتلون ويناضلون من أجل الحصول على حقوقهم. المسألة الأخرى أنني أطرح العديد من الأسئلة في هذه الرواية، وبالتالي فأنا أرغب أن يشاركني القارئ نفسه في البحث عن إجابات لهذه الأسئلة".