"بمجرد أن تطأ أرضَ مدينة تغدو جزءاً من ترابها، وهوائها، ووجدانها. وحين تتعفر قدماك بشوائب طُرقاتها المُغبرة، وأمكنتها العتيقة، تُصبح حينئذ بعضاً من روحها الحميمة، ودواخلها المسيَّجة بالغموض".
يأخذنا نواف القديمي في كتابه "جداريات بيروتية ولوحات قاهرية" إلى رحلة ممتعة عبر الزمان والمكان. الكتاب الصادر عن دار وهج الحياة للإعلام، يستعرض فيه الكاتب، الذي يتولى الآن إدارة الشبكة العربية للأبحاث والنشر يوميات رحلته بين القاهرة وبيروت، التي سمَّاها "يوميات صحفي في أزمنة التحول".
لن يُكلفك الأمر في هذا الكتاب سوى التنقل بين الصفحات لعبور الحدود الفاصلة بين السعودية، وبيروت، والقاهرة. لم يقتصر الأمر على تجاوز الأراضي الشاسعة التي تفصل بين هذه البلدان، بل تعداه ليشمل الغوص في تفاصيل مجتمعات يأبى الاختلاف إلا أن يجمعها، وأضحت الرحلة أشبه بعلاقة تربط البلدان الثلاثة ببعضها، دون إرادة أو علم من القارئ للنقطة التي حدث عندها هذا.
جداريات بيروت.. تتصل معارك إخوة الأرض والانتماء
يدور الكتاب حول يوميات كاتبه في زيارات متعددة لكل من بيروت والقاهرة، وبين هذين البلدين، وموطن الكاتب "السعودية"، حيث تصل رسائله اليومية للأصدقاء، التي تكوّن منها فيما بعد الكتاب الذي بين أيدينا، يغوص الكاتب في أعماق التفاصيل اليومية لهذه الزيارات.
اختيرت بيروت للبداية، ليأخذنا نواف القديمي في تنقلاته داخل مناطق بيروت بتنوع جغرافيتها وأيديولوجيتها كذلك. يحكي لنا عن التفاوت بين السنة والشيعة والدروز والمسيحيين، وكيف تتشكل الانتماءات داخل كل منطقة تبعاً لساكنيها، وبالتبعية، كيف يؤثر هذا في صناعة السياسات واتخاذ القرارات داخل لبنان.
يُسجل الكاتب تلك الاختلافات في زياراته المتنوعة لأماكن مختلفة داخل لبنان، كي ينزع عن البلد مُلصق الاختلاف والشتات، ويربط أجزاءه ببعضها البعض.
وبين جبل لبنان، حيث الأغلبية المسيحية، وجبال الأرز وكسوة الجليد تمسح عن المدينة جدار عزلتها، وخيام "حزب الله" الشيعي في ذكرى اغتيال رفيق الحريري بساحة الشهداء في بيروت، استطاع الكاتب أن يخلق مزيجه الخاص من الوحدة اللبنانية؛ لتتعرف إلى الفصائل المختلفة في ساحات السياسة، بينما تشهد بعينيك الواقع يُخبرك أنه على أعتاب حرب أهلية غير البعيدة عن الذكرى، فيمكن للبشر على اختلاف انتماءاتهم أن يعيشوا جنباً إلى جنب، فقط إن كان للإنسانية أن تتذكر قيمها الأصيلة ومعانيها السامية.
لم يخلُ الكتاب أيضاً من الحديث عن المخيمات الفلسطينية في لبنان، فالبلد الذي لم يكتفِ بتعدديته الداخلية المنقسمة على ذاتها، يضم بحدوده عدة مخيمات للفلسطينيين الهاربين من أتون حرب متواصلة في بلدهم، تجمعهم مشكلاتهم الخاصة في الغربة، ما بين نقص الإمدادات اللازمة لبناء المنازل والمرافق الأساسية، والمشكلات السياسية التي لحقت بهؤلاء من فلسطين إلى لبنان؛ لتبقى الصراعات مشتعلة، ينتج منها بين الحين والآخر عدة قتلى في تبادل لإطلاق النيران بين أطراف النزاع القائم.
ألقى كل هذا بظلاله على تفاصيل الكتاب عن لبنان وأهلها، وجعل من الصعب الفصل بين انقساماتها الداخلية الاجتماعية الناتجة من التنوع الديني، وبين النزاعات السياسية التي شكلّتها تلك الاختلافات؛ لتتراكم يوماً بعد يوم، تاركة هذا البلد في حرب باردة لا تلبث أن تتجدد وتستمد شعلتها من داخلها.
وفي مصر..
"عندما تقضي في مدينة بضعة أيام، أنت تستحوذ على شيء من ذاكرة تاريخها بمقدار ما أهدرته من زمن في متاهات أزقتها القديمة، ليظل بعضك فيها، ويبقى أثر خطاك محفوراً على أرصفة شوارعها ودروبها".
اختلفت حكايا القاهرة عن لبنان بعض الشيء، فغلبت عليها حكايا الصحبة التي رافقت الكاتب إلى القاهرة، فكان أحد أعمدتها الرئيسة هو معرض القاهرة الدولي الذي ترافقه سنوياً زيارة الكاتب للقاهرة، وأحاديث ومؤتمرات وندوات تُقام إثر الزيارة أو تكون سبباً فيها.
نرى معاً كيف يكون لكل من يوسف وأحمد، "صديقَي الكاتب"، جزء خاص من الحكايات، بينما يستعرض الجزء الآخر تلك الزيارات المتوالية لصديق قديم أو مؤسس حزب ما أو صاحب دار نشر أو غيرهم، ونشهد على خلفية الزيارات صراعات فكرية لا تهدأ، يكون لكاتبنا النصيب الأكبر في إشعال ثورتها منذ البداية.
لم تقتصر مشاكسات الكاتب كذلك على الأحاديث السياسية والفكرية، فالحوارات مع سائقي التاكسي في شوارع القاهرة وأزقتها كان لها نصيبها الخاص من مزاح الكاتب، واعتراضاته أحياناً. فتارة يأخذ سائق على عاتقه مهمة شرح مشكلاته الخاصة دون سؤال من صاحبنا، وتارة أخرى يتولى السائق مهمة توضيح أسباب المشكلات التي تضيق بها صدور الناس.
وفي تلك الحكايا، يمزج الكاتب فكاهته وصاحبيه مع محاولات جدية أحياناً وهزلية كثيراً للكتابة عما قد يمثل مشكلات خاصة بالحياة القاهرية، وما يصاحبها من تبعات وآثار في الناس.
في "حكايات ما قبل الرحيل" عن القاهرة، وختاماً للكتاب كذلك، خصص الكاتب هذه الفقرة للحديث عما أسماه "كرامات" صاحبه يوسف، ومغامراته الخاصة، لكنه كذلك يأخذنا إلى نهاية هادئة لملامح رحلات متتالية بين مدن ثلاث تُشكل جزءاً من عالمنا العربي، بكل ما تحويه من قصص ونماذج تشرح لنا مشكلات هذه المجتمعات من وجهة نظر الكاتب، ومن رؤية تُصاحب زياراته المستمرة ورحلاته بين البلدان، لينقل لنا في النهاية فكرته عنها، وملامحها الخاصة، في أرض الواقع.