انطباعات قارئ حول القراءة

ليس الإشكال في عدم المطالعة بحد ذاتها، بل الإشكال في مرونة العقل وكيفية استخدامه، العقل لا بد له من المعطيات والبيانات لتشكيله وتنميته، وهذه المعطيات قد تكون كاسدة عفا عليها الزمن، أو مغلوطة لم تثبت صحتها، فالدماغ يمارس وظيفته بهذه المعطيات ويتعاطى مع هذه البيانات التي تلج لحماه، كالرحى تدمغ كل ما يحشى ويحشر فيها، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، فإذا كانت غير صحيحة أنتج الجهل ومعاداة الحقائق

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/28 الساعة 02:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/28 الساعة 02:14 بتوقيت غرينتش

مدخل:

"اعملوا واكدحوا إلى الله بطلب العلم وليس بتربية اللِّحى، وتقصير الجلابيب، ولبس القباقيب والتمسكك بالمظهريات والثانويات، فإن أول أية أنزلت في كتابكم هي: اقرأ". د. مصطفى محمود (وهو من النابغين الأفذاذ بمعيار زمانه، الذين كرَّسوا أوقاتهم وأنفقوها للعلم والإيمان).

الله يدري كم كان وقْع هذه الكلمات عليَّ، التي صدع بها صاحبها بعد ما رأى من الجهل ما رأى، وضاق ذرعاً بقلَّة الوعي المخيّم على السواد الأعظم من المسلمين، وتشبثهم بتلابيب اللاشيء، وانتشار الأمية على كافة الطبقات والمستويات في كافة أنحاء البلاد العربية ومناكبها.

وهذا يعود لأسباب كثيرة، وأهمها: التخلي وعدم الإلمام والعزوف الرهيب عن أمر "اقرأ"، الكلمة المضطهدة التي لم يعِرها "اللامبالين" أدنى اهتمام ولا اكتراث، ولم يولوها حقها من الرعاية، والدأب عليها تترى، والتنمط على مهاراتها، والسير على نهجها، ولم يطبّقوها بحذافيرها كما طبَّقوا إطلاق اللِّحى وإعفاءها من القص.

التماثل للشفاء:

هناك أدبيات جمَّة وكتب عدة أجادت في البيان واطردت في الكلام، تحث النخب على الاطلاع المتنوع في كافة المجالات، وتوصي بالمداومة المتواصلة لترويض الحس الثقافي من نعومة الأظفار وتغلغلها في نخاع العظام، وتطري العوام وتغريهم لتأدية الفرض الأول المنزَّل عليهم من السماء ضمن نطاق معين ومحدود. ومؤلفات استراتيجية لخطط القراءة السريعة تستهدف شريحة من المدمنين على الأسفار، أولئك الذين يتلمظ لسانهم، ويتوهج بؤبؤ عيونهم قبل الانخراط في مزاولة الكشف عما في جوف القرطاس، وما يضم الكتاب بين دفَّتَيه من أفكار وثمار.

قرأت كتباً تحرض على القراءة، وشاهدت محاضرات تحض على الاستمرار والإطناب فيها، فوجدت بكل شفافية ودونما تملق ومحاباة غثَّها أكثر من سمينها، وفجَّها أكثر من دسمها، فهي كتب تطرح وجهة نظر واحدة، أو تبث عبر صفحاتها أسلوب قراءة شخصية خاصة بالكاتب. وتحفظ آخر كذلك، عندما يشخصون مرض الانصراف عن الكتاب ومشكلة الإجفاء منه، فهم يحللون وفق ما وقر في نموذجهم المعرفي من أدواء كانوا على الأغلب يعانون منها في مهدهم، بمعنى آخر أسباب العزوف لا يمكننا اكتنانها كلها، وفي حالة تشخيصنا لها نجد أن العازف لا يعي البتة أنه يعاني من أسقام،

فالجاهل لا يدرك أنه جاهل، وينظر لنفسه في عيون الناس فيجدها حكيمة، فهو بالتالي شديد الشأو، قوي المراس، راسخ القدم، لا يدانيه أحد، ولا يستطيع مناورته فرد، لا يُفند له رأي ولا يُفحم له قول ولا تُدحض له حجة، ويخال شخصه أنه من المجددين الجدد.

الجهل أنماط ومذاهب، وكل منا يركبه جهل معين وعلم معين في ذات الوقت، فلا أحد بالجاهل المحض، ولا أحد بالعالم الصرف، ولو كان رسولاً مرسلاً، وفي هذا الصدد كنت أتحدث مع بعض الأفراد عن أنماط الجهل والعلم، وبينما نحن في غمرة النقاش ودوامة الجدال بادرت قائلاً محاولاً صد طوفان الكلام: إن الرسول محمد كان جاهلاً كما كان عالماً في الوقت عينه، فما كان منهم إلا أن بدأوا بصب جامّ غيظهم عليَّ وحنقهم الذي تكون عند تحاورهم وتناظرهم بفعل اللدد والتشاحنات التي تشكَّلت عبر جدالهم المضني.

عوامل التثبيط وحوافز البدء:

العثور على مكمن الداء لصيانة العطب بالنسبة لي، أشبه بالعثور على إبرة في كومة قش في ظلام دامس لا تكاد ترى فيه نعليك.

منا مَن يعزو هذا الانصراف عن الكتاب وعدم الإقبال عليه لضائقة مادية غير كافية وكفيلة لاقتناء الكتب، وهذا تبرير واهٍ لا أساس له من القبول في عصرنا الحالي.

التكنولوجيا الحديثة والمكتبات العامة ألغت هذه العلَّة، وأتت عليها من القواعد، فالكتب متوافرة وبكثرة وبثمن بخس، ومن علل الإحجام كذلك ازدحام الوقت، والانشغال مع القرناء والأتراب، وعدم غرس قيمة المطالعة في مرحلة النشوء، والوضع الاقتصادي المزري، وسطوة الانكباب على التكنولوجيا.. ولكل أسبابه وآلياته، نفسية كانت أم اجتماعية.

ليس الإشكال في عدم المطالعة بحد ذاتها، بل الإشكال في مرونة العقل وكيفية استخدامه، العقل لا بد له من المعطيات والبيانات لتشكيله وتنميته، وهذه المعطيات قد تكون كاسدة عفا عليها الزمن، أو مغلوطة لم تثبت صحتها، فالدماغ يمارس وظيفته بهذه المعطيات ويتعاطى مع هذه البيانات التي تلج لحماه، كالرحى تدمغ كل ما يحشى ويحشر فيها، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، فإذا كانت غير صحيحة أنتج الجهل ومعاداة الحقائق، ولذلك نرى مَن برعوا في القراءة وقطعوا شطراً لا يستهان به في المطالعة، ومع هذا تجدهم متعصبين، متزمتين، متطرفين، جامدين على التراث المنصرم،

وإذا كانت صحيحة أنتج بعد ما استقرأ الوقائع وقارن بين العناصر، الاجتهاد والاستنباطات المنطقية والحقائق العقلية، ومنا من يسلم زمام عقله لفرد ما يدسه بما رام، وقد يفهم من هذا أنني أقرر أن القراءة لا تكوّن الوعي ولا تشكله؛ بل هي عكس هذا تماماً، فهي تصقله وتشحذه وتطبعه على المرونة وتقبُّل الرأي المضاد، وتذكي ملكات الفكر وفي جوهره النقد البناء، إذا أدركت كيف تقرأ وتطالع وتحلل وتفكك لتستنتج الصواب.

وقد تجد مَن يثق ثقة عمياء ويسلم تسليم الأعمى في بعض الكُتاب والكتب، ويصلون لحد تقديسهم له، ويرقونه لبرج عاجي وكأنه كتاب مقدس لا يأتيه الباطل من حيز، ولا يتسرب له خطل من شرخ، هذا ضرب من التفه، ومن ضروبه أيضاً أن نمترئ أطروحة قد يظن طرف ما أنها صحيحة كليّاً، وما الجدال مع هذا إلا هدر للوقت، بيد أنه يثق بفحوى الكتاب ككل وقد أُلقم أفكاراً ورؤى تقبلها وكأنها حقائق مثبتة لا تقبل النقاش. وقد تضطر أحياناً لتبجيل كتاب لم يعجبك؛ لأنك قابع مع نخبة من القراء من هؤلاء الذين أبدوا رأياً معاكساً لرأيك يحثونه ويثنون عليه، فتحذو حذوهم في الإطراء والتزكية، خيفة أن تتهم بالغباء من قِبلهم، أو لكي لا تدخل في جدال أنت في غنى عنه.

هل حرّضوا على القراءة أم عبَّروا عما يختلج في صدورهم أم لهم أهداف مزدوجة ويرومون عدة غايات: الكل يعرف أهمية القراءة إلا أن القراء عملة نادرة، شبه معدومة تكاد لا تسمع لهم ركزاً؛ لأن المجال لا يفسح أمامهم، وإذا فسح غلق على مضض، ولم يُسمع لهم طنين؛ لأن زئير الجماهير غطَّاه واحتواه، طبعاً لا أقصد من يعرف كيف يقرأ الحروف المسطورة والكتب المصكوكة، وإنما المراد أبعد من هذا وأشسع، والبون كبير، والطفرة واسعة بين مَن يقرأ ويقرأ، في كتب التنمية البشرية وإخصاب الطاقات الذاتية، وخصوصاً في موضوع القراءة نجد هناك مَن يحلل أو قُل يفرق بين طرق القراءة وأنواعها، منها: للتسلية، للنقد، لتنمية المهارات، للتفكير والإبداع، اندياح قاعدة الفهم وتوسيع الإدراك، وقِس على هذه الأهداف المقصودة.

وكل مَن يكتب في هذا الموضوع أو آخر يعبّر عما يختلج في نفسه، ويدور في خلده، وهذا ينطبق عليَّ أنا أيضاً. فهذه أفكار ورؤى تعجب بعضكم ويمتعض منها آخرون ولا يستسيغونها، ويعدونها ترفاً ما منه فائدة ترتجى. فالكاتب عندما يكتب يستهدف شريحة معينة من القراء، فعندما يتطفل أحدهم على ما فاق وعيه، تشكل عليه الأمر فسب الكتاب ومَن دبَّجه وازدرى المجال بأكمله واستخفه، فكفيل بنا وحريّ أن نعرف خلفية المؤلف، وميوله العقدية وانتماءه الأيديولوجي، ثم بعد هذا نطالع ما تيسَّر من كتابته، فإذا نال إعجابك فاسترسل معه، وإذا لم يرُق لك فاضرب به عرض الحائط ولا توجل منه.

موقفي من القراءة أما قصتي فارتأيت ألا أدرجها ضمن هذا المقال؛ لأنها ليس مقامها: اقرأ بتريُّث ورويَّة لتبني الإطار الفكري الذي ستنظر بخلاله للوجود حولك، وتأسس خلفية ثقافية رصينة، وتكوِّن منظومة فكرية لها حس نقدي تضع كل الأفكار في ميزان الأخذ والرد لتميز الخبيث من الطيب، أسسها لبنات صلدة وطوب رصين، عبر سير حثيث، وسبر عميق، وتخضع كل الأحداث والوقائع للمحاكمات العقلية وتسلط ضوء النقد عليها لتستجلي خفايا الأمور بمعايير واقعية.

ودائما أقول: يجب أن نقرأ الكتب التي تحرك خلايا العقل، وتلافيف الدماغ، وتوقظه من سباته، وتحفزه، وتستفزه، وتزلزل الفكر الراكد، وتقضي على التبلد السائد والبائد، الذي أكل الدهر عليه وشرب.

موقع اقرأ من الإحصاء:

معدل القراءة انخفض بشكل مفجع في الآونة الأخيرة، فالدراسات والإحصاءات التي أسفرت عن تدني نسبة المطالعة لحد سحيق تدعو للأسى والهجاء على حالنا، وتنمّ عن تخلف بعيد الشقة عن الوعي الحذق، والشريحة المتيمة بالكتاب شبه منعدمة وضئيلة جداً.

في الحقيقة، أنا لا أهتم بهذه الأرقام والبحوث كثيراً، وإلى حد بعيد لا أثق بها، فأنا أدعو لإعمال العقل وتأدية وظيفته المنوط بها، لا إهماله وهدره، ولا أظن أن هذا يحصل إلا بالقراءة وعدم الانفصام عن الكتاب، ولا أظن كذلك أن الوعي حكر على القراء فقط.

كلمة أخيرة: الأمة التي تضع الكتاب على هامش الأولويات، وتسقطه من سجل الضروريات، ستفضي هي الأخرى لهامش التاريخ، فتهشَّم وتذروها الرياح العقيم. وأخيراً أقول ما قاله العقاد: نحن نقرأ؛ لنبتعد عن نقطة الجهل، لا لنصل لنقطة العلم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد