ماذا تعرفين -عزيزتي- عن اختلاف الثقافات؟ سؤال استوقفني كثيراً بعد قراءة لبضعة كتب في مجال الثقافة المؤسسية، كيف للعلوم الفلسفية -وضع تحت كلمة علوم عشرين خطاً- لأن تحويل الفلسفة إلى علم أمر أقل ما يقال عنه لا يمكن الاستهانة بالحدود التي يمكن الوصول لها بها.
هل تذكر كيف وجدت منزلاً طينياً في يوم ما بينما تسير في طريق نهري في ريف مدينتك؟ أو هل تتذكر كيف دخلت مركزاً حديث البناء في مدينتك؟ الفرق شاسع طبعاً من الناحية المعمارية، لكن هل يمكن لاختلاف طفيف في التصميم لمبنيين أن يحدث فرقاً في حياة قاطني المبنى؟ لطالما اعتبرت الإحصائيات العلمية أساساً لكثير من الأفكار التي على أحدهم أن يعتنقها،
لكن الحياة تعلمك أيضاً كيف للتفاعل البشري أن يأتي بتفاعلات (كيمو عاطفية) لم ترصدها بعد أرقام مراكز الأبحاث والإحصاءات حتى نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، وصولاً إلى يومنا هذا، بوجود الكثير مما يسمى بالـ think tanks، ولكن هل تقوم هذه المراكز بتلك الوظيفة فعلاً؟
تعالَ معي في جولة أجريت فيها دراسة مصغرة مقارنة ما بين ثقافة مؤسستين عملت بكلتيهما لفترة لا تقل عن 3 أشهر، ولنتفق على تسمية أحدهما بمؤسسة، والأخرى بشركة.
في المؤسسة الأولى لك أن ترى حين تدخل البناء حجراً رخامياً ثقيلاً ولعينيك أن تجول بنظرها بين المساحات الواسعة؛ إذ إن الطراز المعماري أمر أساسي لدى هذه المؤسسة، ومنه تجد الأشخاص يتخاطبون برسمية شديدة، مستخدمين الألقاب قبل الاسم، وغالباً يتم استخدام اسم العائلة وليس الاسم الأول، أو اختصاراً لاسم العائلة وعائلة الزوج، لن تدخل هذه المؤسسة من أبوابها الواسعة للتجول بمفردك أبداً،
بل ستجد حارساً على كل بوابة، وستجد أيضاً مرافقاً يمنحك بطاقة زائر، ويوصلك للشخص المطلوب، في حال كان لديك موعد مسبق معه، وهذا ما يحتاج منك إلى واسطة ربما، ولا تسألوني كيف دخلت فذلك سر المهنة الصحفية! لا يعمل شخص في هذه المؤسسة إلا لديه من المؤهلات ما يملأ به سيرة ذاتية من الشهادات الأكاديمية والمؤتمرات العلمية والبرامج التدريبية.
في حال وصلت قبل الموعد المحدد بدقائق ستجد نفسك ثقيل الظل، وستجد استغراباً من سلوكك، كما لو وصلت متأخراً فلن يتم استقبالك غالباً، ويتم تسجيل دخولك أسبوعاً أو أكثر لما في ذلك من إهانة للمؤسسة حتى لو كنت مريضاً ومطروحاً في مستشفى مرسى مطروح فذلك لا يهم.
الرسمية في اللباس ظاهرة طبعاً، ولا تستطيع أن تتخيل أحدهم بلباس قطني مثلاً أو مزركش أو ملون كما قليلاً ما تجد الحجاب موضوعاً على رؤوس أي من الفتيات، لاعتبار أن المؤسسة أجنبية أولاً، ولكن دعني أخبرك بسر صغير فالمؤسس عربي الأصل، ومسلم الجنسية والهوية، ولكن هذا من اعتبارات ثقافة المؤسسة، أما عن كيف تعمل هذه المؤسسة فإليك التالي:
أولاً يعتمد العاملون على العلم في اكتشاف الحقائق، ولا يتم اتخاذ قرار إلا بوجود إثبات علمي ودراسة مبجلة، ناهيك عن كل ما يقوله شخص مستشار دكتور معين من قِبل المؤسسة فهو صحيح، لمجرد حصوله على تلك المكانة النخبوية العلمية التي تعني أنه خضع لسلسلة من اختبارات اليوسمل في مجاله خلال سنوات حياته.
يؤمن هؤلاء الأشخاص بنظام الهيكلية بشكل كبير، وليس من الطبيعي أن تقوم مثلاً أنت بطلب ما تريد فوراً وبشكل مباشر، ولكن لا بد من التدرج في الطلب، وإلا فإنه تعدٍّ منك على حقوق غيرك وصلاحياته ومركزه، وهو أمر مهين جداً، وغير مقبول على الإطلاق.
هناك احترام شديد المركزية أيضاً، ويتم اعتماد الإتقان والنوعية قبل السرعة كمعيار أساسي في أي مهمة، المضحك أنك في هذه المؤسسة قد تذهب بعيداً جداً لتبحث عن حل خارج نطاق اقتراحات طاقم عملها في مؤسسة أخرى استشارية مثلاً ومرموقة، بينما لديهم من اقترح الحل ذاته في المؤسسة، ولكن مبدأ (الفقير ما حد بيسمع له) ينطبق هنا.
لا يفكر الأشخاص هنا بصوت عالٍ ولا يتشاركون الأفكار، ويكتفون بإجابات مقتضبة وبراغماتية كثيراً، ومن غير المقبول اقتراح الأفكار؛ لأن ذلك يشبه شخصاً يدخل بيتك من غير ما تعزمه.
إذا ما تم قبول أحدهم في المؤسسة فمن الطبيعي والمتوقع أن يعيش معهم عمراً، ويكون ولاؤه لهم دون مقارنة أو منازعة.
يتم تداول المسؤوليات وليس مشاركتها بحيث مثلاً يعطى الدور القيادي في المستوى المتوسط لعدة أشخاص ويتم تبادل المهام بشكل روتيني، أخيراً فإن عيب ثقافة هذه المؤسسة هو عدم التواصل بين أقسامها، وذلك يعود لاعتبار أي اقتراح من قسم لقسم، وكأنما مدير يعتدي على مدير ويهينه ويخبره بأنه لا يعرف كيف يدير قسمه، وأنه فاشل في عمله؛ لذا فلا يوجد تكامل بين أجزاء المؤسسة.
في الشركة الثانية ستجد أن الموظفين يعملون بضجة، ويكثرون من السباب والتنابز بالكلام والهمز واللمز، ويعد ذلك اعتيادياً جداً؛ حيث يدافع أحدهم عن الآخر وكأنه أخوه حتى بعد كل ما سمعه من السباب والمرمطة على قول إخواننا المصريين، وأخيراً لن يسلم الأمر من الصراخ والزعيق، ويسمون ذلك نقاشاً وحواراً حتى لو كان فيه ضرب بالأيدي.
يعتمد الأشخاص في هذه الشركة على مبدأ يرغب بحل مشكلة الزبون حتى لو كان ذلك يعني تحويل الخدمة لشركة أخرى وخسارة المناقصة، لا يوجد رسمية عادة في اللباس أو التعامل بين الأفراد هنا، يتم منح أوامر غير واضحة عادة من قبل الإدارة، ويترك للموظفين والمديرين في الطبقة الوسطى المجال للتنفيذ على مبدأ (فناظرة بم يرجع المرسلون) ويقوم القياديون في المجموعات عادة والأفراد بتوضيح المهمة حسب رؤية كل منهم ودفع العجلة نحو التنفيذ.
إن أهم مبدأ يتبعه هؤلاء هو أن المشكلة هي التي تؤدي لمعرفة الحقيقة؛ لذا ستجد الكثير من افتعال المشكلات، ويتم اختبار الأفراد ومعرفة الحقيقة والرأي الأصوب، ومن ثم فإن المبدأ التالي في الأهمية هو أن القرارات تؤخذ بناء على رد فعل السوق من مبدأ الاستخارة والمشاورة وارد هنا، ليس على سبيل ركعتين، وصلى الله وبارك، ولكن لكل خطوة يكون هناك تصويت ومعرفة آراء الزبون، ومنه يتم اتخاذ القرار.
يعتمد هؤلاء الأشخاص على أنهم يعرفون ما يريدون، وما هو الأصلح، وأنهم أدرى برغباتهم ومصالحهم، ويعلمون ما يتلاءم مع شركتهم، ومنه ينطلقون لوضع أي رؤية وتفصيل وتنفيذ المهام.
من الجدير بالذكر أن المبدأ الثالث الأكثر أهمية؛ حيث لا بد من أخذ موافقة جميع الأطراف لأخذ أي خطة، حتى لو عنى ذلك استخدام الغش والكذب وإجبار أحدهم بالقوة على الموافقة فسيكون، ويعتبر أحدهم أنه حصل على الموافقة بمجرد سكوت الآخر أو عدم اعتراضه أو قوله نعم، حتى لو كان يقصد نعم على أكلة بطاطس أو محشي مش لقرار نقله من الشركة اللي المفروض إنه بيتاخد رأيه فيه!
البقاء هنا للأوسع خبثاً وحيلة وللأقوى ضغطاً، وليس للأصلح رأياً، أو لمن يقول كلمة حق أو يكون صادقاً أو بيراعي ربنا، على قول عمرو خالد؛ لأنه لا يوجد معيار ثابت لدى من يعمل في هذه الشركة.
إن ميزة العمل في هذه الشركة تكمن في انتشالك حين تقع المصائب، حين يتعاون الجميع بشكل أكثر من عوائل للدفاع عنك، حتى لو كنت على خطأ جسيم يصل لحد قتل موسى للرجل الأعرابي، فأنت فرد من العائلة، وتجب حمايتك.
ولكني أستطيع أن أختصر لك كل ما سبق بالتالي: عايز تروح تتغدى في مطعم سيلف سيرفيس ولا عايز حد يجيب لك ستيك لحد عندك؟ العمل في كلتا البيئتين أمر ممتع للغاية، ولو عاد بي الزمن لوجدت طريقة للعمل في كلتيهما في فترتين صباحية ومسائية، لما يكسبك ذلك من قدرات في فهم الآخرين بسرعة والتعامل معهم بكياسة أكثر، والقدرة على الوصول لما تريد حين تخاطب كلاً منهم بما يريحه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.