بين “عقارب موريس” و”مأساة الفئران” و”التيه في الأدغال” “1”

في المشهد الذي تنزل فيه الأخت الكبرى لمسكن الفئران، تلفظت الشخصية بألفاظ غير محمودة مثل "عمى بعينكم"، عبارة كهذه كان من الأسهل استبدالها بأي عبارة أخرى تؤدي غرض الاشمئزاز، مأخذي هنا ليس البذاءة بل المسؤولية تجاه الجمهور والذي كما ذكرت كان أغلبه من الأطفال.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/01 الساعة 08:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/01 الساعة 08:20 بتوقيت غرينتش

"أبو الفنون" لم تطلق هذه العبارة على المسرح عبثاً، إذ طالما كانت وما زالت خشبته مرآة لوجع الشعوب، ومنبراً لثاراتهم، وملجأ لسخطهم وأحزانهم، وكوني هائمة في هذا الفن الجميل لم أترك مسرحاً في لندن إلا وثبت بين كراسيه، أسيرة لدهشته، وممسوسة بموسيقاه، ومهووسة بأدق عقده وصراعاته، وكوني قد قضيت إجازة الصيف في الكويت، حرصت على حضور المسرحيات التي تُقدم في العيد؛ حيث حثّني أقربائي على أن المسرح في الكويت لا يقل عمّا يقدم في لندن، وحتى أقيّم شخصياً، ارتأيت أن أحضر ثلاث مسرحيات قُدّمت هذا العيد؛ "الفئران، ساعة موريس، وزين الأدغال"، وقد كان اختياري لهذه المسرحيات بالذات لأسباب، أهمهما؛ أن الأولى والثانية هي ناتج خيال المؤلفين الخصب وأفكارهم الأصيلة؛ لذا في زمن يشح فيه الخيال كان لا بد أن أنتصر للإبداع الفردي، بينما حضرت الثالثة لكونها مكتوبة بالفصحى وأنا أؤثر اللغة، وإن كانت فكرة العمل مقتبسة.

في هذا المقال سأطرح رأيي النقدي القائم على النص المسرحي المكتوب، فأنا باحثة دكتوراه في الأدب، ورغم كون المسرح عملاً أدبياً في المقام الأول، فإن هذا لا يبيح لي نقد أمور أخرى ترتبط فيه؛ لذا فإن تركيز المقال سيكون على القصة ومضمونها لا على السينوغرافيا أو الديكور أو الإخراج، فهذا أمر لا تخصص لي فيه.

سأذكر إيجابيات وسلبيات كل عرض حسبما رأيت، وقبل أن أبدأ بالسرد أريد أن أُلفت عناية القارئ إلى أن هذا المقال سيُنشر على أجزاء ثلاثة، ولم يُكتب بدعوة من أصحاب المسرحيات الثلاث، بل قمت شخصياً بشراء تذاكر كل منها كي لا يُؤخذ ما سيقال محاباة أو هجوماً.

الفئران.. الشر ينتصر!

لا أستطيع أن أنكر أن هذا العمل يخلب الألباب ويصفعها دهشة، أحداثه تعلي الشهقة
فالشهقة، ابتداء برمزية كائناته، وانتهاء بصدمة نهايته القاسية والموجعة أو بوصف
أدق الحقيقة ألماً. النص كما عرفت من خيال الشاب بدر الشعيبي وكتابة عثمان الشطي، خيالان امتزجا ليقدمّا لنا قصة يضج فيها الصراع بمختلف أصعدته فهو يطرح التساؤلات بين الطبقات وبين النفوذ، السلطة والتابعين، البشر والفئران الذين يختلفون شكلاً ويتشابهون كل التشابه مضموناً.

عبقرية النص كانت في سرده من حيث التنقل بين الماضي والحاضر، وبين تكرار اللقطات التي في كل مرة يتكشف منها حقيقة غابت عن أعيننا، كل لوحة أو مشهد في المسرحية كان يرتكز على حدث مفاجئ تدور حوله الأغنية، وتتشعب فيه ردود الأفعال، جمالية النص برزت كذلك في التقسيمة التي ارتآها كل من الشعيبي والشطي لمجتمع الفئران فهناك القائد، الطبيب النفسي، حرس الأمن، الفأرة المجنونة ظاهراً والحكيمة باطناً، الثائر والعامة الذين لاحول لهم ولا قوة.

وفي المقابل، الأختان اللتان قدمتا حديثاً للمنزل الذي ورثتاه من والدهما، وهو المكان نفسه الذي يسكنه الفئران حيث الغازي هو الإنسان، والمغار عليه الفئران، وهو نقيض ما يحدث في الواقع.

شرارة هذا الحدث هي التي تشعل فتيل الأحداث تباعاً وتسلسلاً؛ لتتركنا بعد كل مشهد مشدوهين من المفاجأة والصدمة. تُرفع القبعة لمؤلفي هذا العمل لتوظيف كل خصائص الفأر كائناً في ترابط الأحداث.. ففي مشهد يسأل أحدهم: "ما عندكم كرامة؟"، يجيب آخر: "من أين لنا الكرامة ونحن نقتات على فضلة الآخرين".

الرمزية الساطعة في العمل تجعل الذهن يبصر حقاً دلائل اختيار الشخصيات والجرأة في تحطيمها وتفكيكها، صاحبا العمل أبهراني بالتجرؤ على كل ما هو مقدّس في العقلية العربية، أو الكويتية تحديداً، فالحرس لا يحرسون إلا مصالحهم، والقائد لا يكترث أبداً لرعيته، والطبيب أمام سؤال وجودي محض كيف يعالج بقية الفئران؟ وهو يرى أنه عاجز عن علاج نفسه. والأخت الكبرى.. التي تشكل مصيبة في حد ذاتها، هناك أيضاً صراحة مزعجة في المشاهد تعرّي الواقع باستفزاز من خلال غناء الفئران عن لا جدوى المبادئ والقيم، وعبثية الرأي دون سلطة، والموت الذي يلاحق الطيبين والضعفاء فقط.

هذا العمل يعد فضيحة للواقع الذي نعيشه الآن الذي يعلي من سطوة القمع ويسحق المستضعف، أو بلغة أهل هذا العمل، الفئران الذين يمثلون الطبقة الكادحة المستضعفة في كل مكان، ما زاد العمل حلاوة الألحان المثيرة والديكور الذي رغم عدم تغيره جعلنا نحس فعلاً أننا في بيت يعيش البشر في قمته والفئران في أنقاضه. استعراض الممثلين وطاقتهم وتقمصهم لشخصياتهم، كانت تثير الرعب وأشعرتني أنني فعلاً أمام فئران لا ممثلين.

النص محكم الكتابة، والأغاني كانت منسابة لتحقيق هدف كل حدث فيه إلا أن هناك بعض المآخذ:

ما شد انتباهي أن غالب الحضور من الأطفال الصغار، أعني بذلك فئة مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، أي ما دون التاسعة، فعن نفسي كنت بصحبة أبناء أختي حصة ذات الستة أعوام، ومحمد الذي يبلغ السنتين وأكثر من النصف، ومعضلة هذه السن تكمن في الأسئلة المثارة من العمل فكيف أفسر لهم معنى الانتحار الذي أقدم عليه الطبيب، أو مسوّغ حفلة التعذيب التي أقامها الحرس، أو النهاية المفجعة التي فتكتنا بها الأخت الكبرى ختام المسرحية.
أعي تماماً أن هذا العمل غير موجه للأطفال بتاتاً، لكن كان من الأجدى أن يحدد أصحاب العمل العمر الأدنى لدخول المسرحية والذي من وجهة نظري يجب أن لا يقل عن العاشرة.

رغم إعجابي الشديد بإيقاع العمل السريع والمدهش، فإنني تمنيت لو كانت المسرحية أطول زمناً، حتى تأخذ كل شخصية حيزها في البناء والهدم، عمل جميل كهذا كان سيصبح أمتع لو امتد عرضه أكثر، حيث يتم تناول تاريخ كل شخصية، والسبب الذي جعلها تصل لما وصلت إليه الآن، فمثلاً ما حاجة قائد الفئران للطبيب النفسي؟ وهل الاستحواذ على ميراث الأب سبب كاف لقتل الأخت لأختها؟ هناك خيوط كان لا بد أن تبرز ليعي المشاهد مسوغاتها ونتائجها؛ لهذا كنت أرى أننا أمام قصة مختصرة لقصة أكبر تم اجتزاؤها.

في المشهد الذي تنزل فيه الأخت الكبرى لمسكن الفئران، تلفظت الشخصية بألفاظ غير محمودة مثل "عمى بعينكم"، عبارة كهذه كان من الأسهل استبدالها بأي عبارة أخرى تؤدي غرض الاشمئزاز، مأخذي هنا ليس البذاءة بل المسؤولية تجاه الجمهور والذي كما ذكرت كان أغلبه من الأطفال.
بعض الشخصيات حملت أسماء غير عربية، اسم "جان"، و"سايكو" على سبيل المثال لا الحصر، فما سبب انتقائها؟ ولماذا لم يتم اختيار أسماء عربية؟ علماً بأن اللغة العربية بل حتى اللهجة المحلية رحبة بالألقاب ذات الدلالات العميقة
المكثفة.

الالتزام بوقت العرض أمر محمود ونشجع عليه، لكن كان من الأجدى إعطاء المتأخرين فرصة لمتابعة الأحداث، خصوصاً أن اللوحة الأولى كانت مهمة جداً في إعطاء نبذة عن حال الفئران وإشكالاتهم. أعني بالفرصة وجود شاشة خارجية يتابع فيها المتأخر ما يجري داخل المسرح لحين سماح المنظمين له بالدخول، وهذا ما يطبق في كل مسارح لندن.

عانيت صعوبة في فهم ما يغنى في كثير من المشاهد، وهذا ناتج عن عدم ضبط جودة الصوت من السماعات أولاً، وإزعاج الجمهور ثانياً، وصراخ الأطفال ثالثاً، وعدم كون الغناء حياً رابعاً، الأمر الذي كان سيحسن كثيراً من جودة العرض، خصوصاً أن الشخصيات كلها تمتلك صوتاً جميلاً وأداء معبراً سيصلنا أكثر لو استغنى طاقم العمل عن الأغاني المسجلة بالغناء الحي المباشر.

ما يجعل النقطة السابقة صعبة التنفيذ، هو عدم جاهزية المسرح أساساً؛ لأنه بالنهاية مسرح هيئة حكومية أنشئ ليخدم أغراض التجمعات والتكريمات؛ لذا يفتقر المبنى لمكان مخصص لفرقة موسيقية، ومدرجات تتيح الرؤية العادلة لجميع الحاضرين.

تبقى المعضلة الحقيقية التي تخرج عن نطاق سيطرة المنظمين هي معضلة الجمهور، يؤسفني حقاً، في بلد مثل الكويت، يفترض أن يكون الجمهور متحضراً، لكن.. تراه نهاية العرض يلقي بقايا طعامه على الكراسي والأرض، ناهيك عن الأحاديث الجانبية والصراخ والإزعاج الذي -ورغماً عن كل الاحترازات- يفسد المتعة ويقلل البهجة.

ختاماً شكراً بدر الشعيبي وعثمان الشطي، تجربة رائعة، ومسرحية ولاّدة للأسئلة تسكن فينا رغم مغادرتنا مكان عرضها.

تقييمي النهائي للعمل: 7 من 10.

هذه التدوينة مأخوذة عن مدونة دلال البارود : التفات

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد