عندما أتخيل كلمة الأمومة، تأتيني هالة عميقة من وحي القدسية الخاصة جداً التي آثر الله بها النساء دون الرجال، وهي تجربة واحدة من أكبر معجزات الكون، إخراج روح من روح، وجسد من جسد.. وتأتي في أطيافك الآية الكريمة: "مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ"، وتنتبه هنا إلى جانب كل التفاسير المحتملة للآية، أنه تعالى اختار لفظ "رجل" ولم يقل لإنسان، أو لامرئ، أو لبشر، بل خصّ كلمة "رجل"، وهذا دلالة على أن المرأة قد يكون في جوفها قلبان، قلبها وقلب جنينها، أي معجزة هذه؟ وما هذه الخصوصية الشديدة؟
لا أقصد هنا أنّ الآية تعني هذا حصراً ولا أقصد أن القرآن يدل على حادثة معروفة عند البشر منذ الأزل، بل إنني أقصد الخصوصية والمعنى الأكبر وراء ذلك كله، لماذا يلتفت دستورنا العظيم ليدل على القلب بالذات؟ تحمل قلبين في جوفها، هذا القلب الذي تغذيه بدمها هي، في هذه الشهور التسعة، وعليه أن تهتمّ بما يلجه وبما يفقهه ويفكر به ويشغله فيما بعد؛ لأن هذا القلب، كان يكبر في جوفها.
مع كل هذه الرابطة السامية بين الأم وجنينها، وهذه المعجزة التي تكبر كل يوم في أحشائها، التي تتغذى من دمها، كل هذا العطاء الذي تمده الأم في هذه الرحلة، يأتي المخاض بآلامه وعذاباته الشديدة، كامرأة تذهل عن نفسها وسط آلامها المريرة تلك، فتُمسك بيد طبيب لا تعرف من هو لعلها في غمرة مخاضها حسبته أحد أهلها، وتشدّ عليها بشكل مريع حتى يشعر أنها على وشك كسر يده.
تلك الآلام التي تمرّ فيها المرأة دون غيرها؛ لتستشعر بعظم هذا الشيء الذي جاءت به إلى الدنيا، وكم أن هذا الشيء يحتاج إلى بذل، وأنّ هذه فقط "البداية"، هذه العذابات هي مجرد الخطوة الأولى للإتيان به إلى الحياة، فماذا ينتظرنا في ما بعد؟
هناك صف من النسوة اللواتي يحتشدن الآن على الهاتف؛ ليعرفن ما جنس المولود وتبدأ حفلات الغيبة وتناقل الأخبار والثرثرات النسائية، خصوصاً عندما تكون بنتاً؛ ليبتسموا في وجهك تلك البسمة الماكرة ويقمن بعدها مهنئين "عقبال ما تفرحي فيها" حقاً.
هذه المعجزة، وهذه الآلام؛ ﻷزوجها فقط.. فقط؟ ما هذه الأمنيات؟
تولد الفتاة في مجتمعنا وكل التهاني والأماني لمقدمها هو في تقديمها لرجل آخر، وكأن هذا هو مصيرها المحتوم من قبل أن تصرخ صرختها الأولى في حياتها، أتساءل: هل نصرخ حينها لنقول "لا" مثلاً؟
بالتأكيد لا، وبالتأكيد لم يجعل الله بداية هذا الطريق صعوبة وآلاماً ليكون وردياً وبسيطاً إلى هذا السخف، إلى تعليمها أصول المكياج والشعر والأظافر وعرضها في كل مناسبة، وفي كل زيارة، وفي كل مكان؛ ليراها الجميع، وليذكروا أنّ عند هذا البيت فتاة قد تصبح بعد خمس سنين في سن الزواج.
بداية الأمر كان صعباً؛ ﻷن الطريق وعر؛ لأنه طريق بناء الإنسان، بناء أمانة خاصة جداً، وهي روح الله التي نفخها في رحمك؛ لتلدي أنتِ خليفة الله في الأرض؛ لتلدي امرأة أو رجلاً قد يهزّ الأرض يوماً، بعلمٍ أو بفنّ أو بحكمة، ليقوم بدور الإصلاح في هذه الأرض، أريد أن أفرح بمشي ابنتي؛ لأنها ستمشي عليهما يوماً في حفل تكريم الطالبات الأوائل، وأريد أن أفرح بكلامها؛ لأنها يوماً ما ستلقي خطاباً وسط نخبة مرموقة ستكون أبرزهم، سأفرح بها عندما تجلس لتحاورني بأمور فكرية، وعندما أراها تنضج، وتجرّب الحياة، وتفشل وتنجح، ثم تقوم من جديد. وتكون امرأة صلبة.
عندما تقف في وجهي يوماً وتقول لا أريد أن أكون طبيبة مثلك، إنني أحب المحاماة مثلاً، وأقول لها لا تكوني إلا أنتِ، كوني أنتِ بأفضل نسخة من أنتِ.
سأفرح بها كذلك عندما تصبح مؤهلة فكرياً وروحياً للزواج، ولتقول لي بنفسها: أمي هذا الرجل الذي يناسبني، ولتختار هي بعقلها ورشدها وحكمتها.. لا باختيارات المجتمع، و"هيك أجي نصيبها شو نساوي".
أفرح بها عندما أجدها تصل إلى ما تصبو إليه، وأفرح بها فوق كل شيء عندما أجدني حققتُ أمانة الله التي قد أودعني إياها، وتعبتُ لأجلها وبذلت كل الجهد الممكن، فهذه الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض، وأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان، وحملتها أنا، أمانة الاستخلاف في الأرض، وبناء الإنسان الذي يجب أن يُصلِح بكل ما أوتي من قدرة، هذه الأمانة العظيمة قد نفذناها.. ورعيتها حق رعايتها.
أنظر للحال.. يا للخسارة!.. عندما يضيّعون الأمانة، ولا ينجبون سوى "بضاعة" تباع بأصغر سن وأتفه عقل، إلى رجل آخر، "والحمد لله زوجناها، وارتحنا من همها، وهم البنات للممات" هنا فعلاً.. تقف لتتحسر، وتذكر قوله تعالى: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.