بين الضوء والظل.. اللامنتمي!

فما معنى أن تنتمي أو لا تنتمي؟ وما هو الشعور بالانتماء؟ هل أنت منتمٍ لوطنك؟ أم لأصلك؟ أم لدينك؟ أم لمذهبك؟ أم لفكرك؟ أو أي شيء آخر؟ وهل يمكن أن لا تنتمي لشيء؟ هل اللامنتمي هو نقيض المنتمي؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/08/15 الساعة 05:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/08/15 الساعة 05:33 بتوقيت غرينتش

اللامنتمي هو إنسان سلبت منه قوة البشر أو قوة الطبيعة، قدرته على الشعور بشيء ما، وبالمقابل منحته قيمة الشعور بعدم قبول الواقع كما هو، مع ظهور شعور بالحاجة إلى تعويض، بهدف أن يجد طريقاً إلى نفسه. أما اللامنتمي باعتبار الآخرين، فهو إنسان عليل ولكنه ليس بمجنون، هو إنسان أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول.

إنه إنسان يسعى في طلب الانتماء والانخراط في العالم المحيط بصورة طبيعية، ولكنه يتراجع حينما يرى أنه قد لا يُسمح له بأن يثبت ذاته في موضعٍ يمكِّنه من تأدية دور خارج عن الرتابة، الدور الذي يرى أن لا أحد غيره يجيده، إنه شخصية قوية وذكية وحيوية في بعدٍ ما، ومن الطبيعي أن تتحول حيويته، حين يعجز عن التعبير عن ذاته، إلى بحث عن مخارج بواسطة التطرف والشذوذ السلوكي.

و"اللامنتمي" لكولن ولسن كتاب يمتلئ بالفلسفة، يشابه إلى حد بعيد كتاب ابن باجة الأندلسي "تدبير المتوحد" الذي يبحث في الشخص الذي لا ينتمي للعصر الذي يعيش فيه. فالمتوحد أو كما يسميه ابن باجة هو شخص عاقل فاضل في مدينة جاهلة فاسدة، ومن هنا بالذات جاء تفرده.

وفي هذا الكتاب يقرأ ويلسون الأدب من زاوية الفلسفة، ويخبرنا أن اللامنتمي هو ذلك الإنسان الذي يدرك -خلافاً للآخرين- الجوانب الواهية من حياة الإنسان، إنه ذلك الشخص الخلاق والعبقري المعتزل عن المجتمع، الذي أدرك وجود فاصل مذهل بين حياة برجوازية روتينية وحياة أخرى مخبّأة راقية.

إنه الوحيد الذي يعلم أنه مريض في حضارة لا تعلم أنها مريضة، وهو إنسان لا يستطيع الحياة في عالم البرجوازيين المريح المنعزل والمنافق. كما يجد هذا الشخص اللامنتمي حساسية في قبول ما يراه ويلمسه في الواقع، فهو صاحب قدرة على التفكير والحلم وإدراك فوضى العالم، وتجاوز اللحظة المأساوية التي تضعه في حالة ذلك العبد الذي يقضي حياته مطالبا بحريته، ثم يكتشف أن الحرية قد خلفته بلا دافع وضحية لضجره. فيجد اللامنتمي أنه منقسم ذاتياً لأن جزء منه يرفض الاحتياج اليومي غير المناسب.. والجزء الآخر مخلص للغاية التي يدرك فيها أن عالم العقل ليس عوضاً حقيقياً منذ أن تطلّب نظاماً ذاتياً ليس باستطاعة الإنسان الوصول إليه..

فما معنى أن تنتمي أو لا تنتمي؟ وما هو الشعور بالانتماء؟ هل أنت منتمٍ لوطنك؟ أم لأصلك؟ أم لدينك؟ أم لمذهبك؟ أم لفكرك؟ أو أي شيء آخر؟ وهل يمكن أن لا تنتمي لشيء؟ هل اللامنتمي هو نقيض المنتمي؟

بحسب كولن ولسون فإن اللامنتمي هو "إنسان لا يستطيع الحياة في عالم البرجوازيين المريح المنعزل، أو قبول ما يراهُ ويلمسهُ في الواقع.. ذلك أنه يرى أكثر وأعمق من اللازم، إنه يرى العالم معقولاً ولا يراهُ منظماً، وحين يقذف بمعاني الفوضوية في وجه دعة البرجوازي، فليس لأنه يشعر بالرغبة في قذف معاني الاحترام بإهانة لإثارتها، وإنما لأنه يحس بشعور يبعث على الكآبة، شعور بأن الحقيقة يجب أن تقال مهما كلف الأمر، وإلا فلن يكون الإصلاح ممكناً.. بل وإن هذه الحقيقة يجب أن تُقال حتى إذا لم يكن هنالك أمل ما. إن اللامنتمي إنسان استيقظ على الفوضى ولم يجد سبباً يدفعه إلى الاعتقاد بأن الفوضى غير إيجابية بالنسبة للحياة".

كلام يبدو بكل وضوح جميلاً.. ولكن هل الانتماء خيار أم قدر؟ وهل يجب أن تنتمي لشيء؟ و إذا كنا لامنتمين، فأي نوع من اللامنتمين نحن: واقعي أم رومانسي؟ وكيف تحاول السيطرة على نزعات اللاانتماء الخاصة بك؟

في حالة "اللامنتمي الواقعي/الوجودي" الذي تكون درجة استشعاره للضحالة واللاحقيقية أوضح ما تكون عنده، حيث لا يكاد يلمس أثراً للمعنى في كل ما يقوم به، وتنتهي كل تجاربه العقلية والشعورية إلى الشعور بالخذلان والخيبة العميقة، ولعل رواية "غثيان" لـ سارتر، هي أبرز مثال على هذه الحالة، فقد جاء على لسان البطل "ليس الغثيان داخلياً، إنني أحس به في خارجي، هنالك في الحائط، في الحمّالات، في كل مكان حولي".

يرى اللامنتمي الوجودي محدودية العقل، لكنه يرغب في نوع من التعويض عن هذه المحدودية، فيصطدم بمفاهيم اللاحقيقية واللامعنى التي تمنعه من إيجاد الخلاص من هذه المأزق، فهو كما يقول ولسون "يجد أن ممارسته لهذه الحرية مستحيلة في عالم لا حقيقي، كاستحالة القفز حين يكون المرء في حالة السقوط إلى أسفل".

أما في حالة "اللامنتمي الرومانسي" وهو لا يختلف عن اللامنتمي الوجودي في شعوره باللاحقيقية، وعدم قدرة محيطه على إشباع رغباته لاسيما رغبته في الخلاص والتحرر، إلا أنه يختلف عنه في كونه حالماً وشاعراً بالحاجة إلى وضعه في محيط خاص به، فهو يخشى أن لا يكون العالم مخلوقاً لمواجهة متطلباته الروحية، وهنا يورد الكاتب مقطعاً لـ"ستيفن ديدالاوس" بطل إحدى روايات "جيمس جويس" الذي بدأ حياته باعتباره معداً ليكون شاعراً: "ضايقه صراخ الأطفال وهم يلعبون، وجعلته أصواتهم الحمقاء يشعر بأنه مختلف عن غيره من الأطفال، ولم يكن راغباً في اللعب، وإنما كان يريد أن يلتقي في هذا العالم بالصورة المعنوية التي يحتفظ بها في ذهنه دائماً ولم يستطع أن يعرف أين يجدها".

يتضح الفارق بين أسلوبي اللامنتمي الوجودي واللامنتمي الرومانسي في أن الأول يسأل: "الحقيقة؟ ماذا يعنون بها؟" بينما الثاني يقول: "أين أستطيع أن أجد الحقيقة؟"، فاللامنتمي الرومانسي يشعر بأنه يجب أن تكون هنالك ما يعبر عنه ولسون بأنه "طريقة في الحياة تتميز دائماً بالشدة التي يحس بها الفنان حين يكون ذاهلاً ذهوله الخلاق"، ويرى أن في الحياة إمكانات مثيرة وإن كانت صعبة المنال فهي تستحق هذا الشغف والتعلق ومهما كانت تتسبب في إحباطه لاستحالة أن يعيش على نفس هذا المستوى من الشدة دائماً.

في نظرية "العقل الجمعي" عند دوركايم والذي يعرفه بأنه "شيء موجود خارج عقول الأفراد، وهو ليس مجموع عقولهم، ولا يشترط أن يكون موافقاً لعقل أحد منهم، ولا لمزاجه الخاص، وهو يؤثر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم، وهم لا يملكون إلا أن يطيعوه، ولو على غير إرادة منهم".

بهذا العقل الجمعي تشعر بالسعادة عند فوز الفريق الوطني (حتى لو لم تكن رياضياً أو متابعاً للرياضة).. كما تشعر بالحزن حين تقرأ عن هزيمة لأسلافك في التاريخ وإن كانت قبل 1000 عام.. تشعر بالغضب عندما تسمع باعتداء على شخص من بلد آخر ولكنه على دينك، إذن بحسب هذه النظرية فالانتماء واجب وهو أمر مقدر لا خيار لك فيه، ولكن هل هذه الفكرة صحيحة؟ فبحسب هذا العقل الجمعي فالبشر ليسوا سوى "قطيع"، أن تنتمي هو أن تكون جزءاً لا ينفصل من هذا القطيع وأن لا تنتمي، أو "اللامنتمي" هو إنسان يرفض أن يكون جزءاً من القطيع وإن سار معه، ولكنه لا يطيع إلا ما يمليه عليه عقله الخاص وإرادته الذاتية.. هو إنسان يمتلك قراره وحريته..

يحدث أن تستيقظ فجأة من ذهولك تضيق بما يحدث حولك.. أولاً يكون لي الحق في أن (لا أنتمي) لو كان الانتماء يعني أن أكون في أقصى اليمين أو أقصى الشمال؟

حق لأدمغتنا أن تنفجر، فقد باتت الحياة لا تطاق، ولا أرى العقدة إلا تزداد تعقداً يصعب معه فكها!
إن الصمت في خضم النزاعات سبيلك الوحيد لحفظ ذاتك العاقلة، وهي ترى اندفاعات المتنازعين وزحام أفعالهم وأقوالهم تكتظ بالكثير من الأخطاء والمفارقات، فالنزاع عادة لا يترك إلا عيناً واحدة تبصر، لتبصر ما تريده فقط. وحين تكون عيناً واحدة هي التي ترى، فإن أذناً واحدة هي التي تسمع، فأنى أن يصغي إليك أحد في ضجيج المعارك وفي أتون الحروب الطاحنة وفي لجاج التخاصم العنيد؟!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد