الأصل في محاربة التطبيع هو الحصول على نتائج تحد من قوة العدو وانتشاره وتطوره، وذلك من خلال مواجهته على جميع الأصعدة، سواء كانت تلك المواجهة عسكرية أو علمية أو رياضية أو غيرها، ومع الأسف الشديد ما قام به العرب منذ عقود، وما زالوا يقومون به اليوم، يزيد من قوة العدو، ويرفع من شأنه، ويعزز من قوته وسيطرته في كل تلك المجالات، ليس فقط على الأرض التي يحتلها والمقدسات التي يُدنسها، بل حتى على الشعب الذي يسكن هناك، فبينما الوطنيون والقوميون العرب ينافحون لمنع زيارة مدينة تل أبيب والداخل الفلسطيني بحجة محاربة التطبيع، تُمارس إسرائيل على أولئك العرب في الداخل شيئاً يُسمَّى (الأسرَلَة)، التي تعني تحويل الشيء عن أصله؛ ليصبح إسرائيلياً، والشعب الفلسطيني إحدى ضحايا هذا المخطط الخبيث مع الأسف الشديد.
من المهم في قضية التطبيع أن يكون لنا نحن العرب فهم استراتيجي لها، بحيث لا يُحوِّل العرب والمسلمين إلى أمة انطوائية وجبانة تخشى مواجهة العدو في المحافل الدولية، إضافة إلى عدم الإضرار بمصالح شعبنا على الأرض في الداخل الفلسطيني المحتل، وأشد ما أخشاه أن يكون عزوف العرب عن محاربة إسرائيل ظناً منهم أنَّ مواجهة العدو تطبيع! فالمواطن العربي يعاني من الهزيمة النفسية منذ ولادته، ولا يحتاج إلى من يزيد عليه، فينبغي أن نُفرِّق بين ما نريد من العالم فعله تجاه إسرائيل كمقاطعتها والتضييق عليها وعدم التعاون معها، وبين ما يجب علينا نحن فِعله كأمة عربية مسؤولة عن فلسطين وشعبها ومقدساتها وتاريخها ضد مخاطر "الأسرلة".
على سبيل المثال، منذ أيام قامت لاعبة الجودو السعودية "جود فهمي"، في الألعاب الأولمبية التي تجري في البرازيل، بالاعتذار عن مواجهة اللاعبة الإسرائيلية "جيلي كوهين" حتى لا تُتهم بالتطبيع، وأنا في رأيي أنه كان من الأولى مواجهتها، خصوصاً أنها لعبة قتالية وفيها قوة وعزَّة، والانتصار فيها يعزز من قيمة العرب والمسلمين، ويقلل من قيمة العدو، الغريب في الأمر أنَّ العرب أخذوا ينشدون الأشعار والمديح في اللاعبة السعودية؛ لأنها رفضت التطبيع، مع العلم أنها هي واتحاد بلدها لم يذكروا ذلك على الإطلاق، فلم يُعلن الاتحاد السعودي أنَّ لاعبته انسحبت بسبب رفضها للتطبيع مساندة للقضية الفلسطينية، إنما قالوا إنها تعرضت لإصابة خلال التدريب منعتها من اللقاء، ولا أدري أين وسام الشرف والبطولة في العذر المذكور والانسحاب المقهور؟!
أما البطل المصري "إسلام الشهابي" في لقاء يوم الجمعة الماضي ١٢ أغسطس/آب أمام خصمه الإسرائيلي "أور ساساون" في نفس اللعبة، فقد واجهه، لكنه لم ينتصر عليه، ورفض مصافحة اللاعب الإسرائيلي.
من الجدير بالذكر أنَّ سياسة محاربة التطبيع المتَّبعة اليوم تصلح مع عدو يُقيم في بلده الأصلي بعيداً عن أراضينا، فكل أنواع المقاطعة وقتها لن تضرنا على الإطلاق، بينما عدونا الإسرائيلي موجود على أرضنا ويحتل شعبنا، ولا يمكن تطبيق محاربة التطبيع بمفهومه الحالي والمتداول؛ لأنه يُضرنا نحن أكثر من عدونا.
يوجد اليوم ما يُقارب مليوني فلسطيني يعيشون في دولة إسرائيل وتحت إدارتها، ويحملون جنسيتها، وسياسة الإنكار العربية المُتَّبعة تجاه إسرائيل من خلال رفض التطبيع أدت إلى التفريط بهم ودفعهم بعيداً عن النسيج الوطني الفلسطيني.
يذكر المدون الفلسطيني عمر العاصي، المقيم في ألمانيا وهو من عرب إسرائيل، ومُطلع على تفاصيل الأوضاع العربية فيها، في تدوينته (كيف ترسم علم فلسطين؟!) قصته يوم توجَّه إلى أحد مديري المدارس (العربية الإسرائيلية) في الداخل، وهو عربي فلسطيني، ليخبره أنه لا بُد من العمل أكثر على التوعية بالقضية الفلسطينية، وأنه لا يُعقل أن يخرج الطفل بعد سنوات من المدرسة وهو لا يعلم ما معنى النكبة، ومتى احتلَّت فلسطين وكيف يكون عَلَمها وحدودها ونشيدها، فكانت الصاعقة عندما أخبره: (لا مُشكلة عندي في أن تكون هناك مُحاضرات عن فلسطين، فهُم جيراننا ولهم علينا حق!).
هل فكَّر الوطنيون بهؤلاء أو جعلوهم ضمن خططهم وأولوياتهم؟ لا أعتقد! فعندما تُرتِّب الأمة أولوياتها، سيتحول نداء الجماهير تلقائياً من (لبيك يا أقصى) إلى (لبيك يا فلسطيني)، وليس ذلك استهانة بالمقدسات… ولكن ترتيب للأولويات، فلو كان هناك فهم عميق وتطبيق مُتَزن بين محاربة التطبيع من جهة ومقاومة الأسرَلَة من جهة أخرى، لما كنا خسرنا بعض أبناء شعبنا في الداخل الذين يتساقطون اليوم كأحجار الدومينو أمام النظام المُمنهج والذكي لأسرلتهم، ولكن غياب الفهم مع التطبيق الخاطئ أدى إلى كل تلك المصائب التي ما زلنا ننكر وجودها.
السؤال المهم اليوم: متى سيقرر العرب مواجهة إسرائيل؟ الجواب على ما يبدو لي أنَّ اللحظة الوحيدة التي سيُقرر فيها العرب مواجهة إسرائيل ستكون عندما يعتنق اليهود الإسلام!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.