بين حواري منطقة مصر القديمة يسكن تاريخ الفاطميين، فكل شبر من هذه الدروب يؤرخ لمن مروا عليه من ملوك ووزراء ومواطنين مصريين منذ مئات السنين.
ويعد شارع المعز لدين الله الفاطمي أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، ويقع ضمن منطقة الأزهر تحديداً. فإلى جانب أنه مزار أثري وسياحي، يُعد أيضاً سوقاً تجاريةً يتردد عليها السياح.
وما أن تقترب من منطقة "درب النحاسين" في نهاية شارع المعز لدين الله الفاطمي، حتى تسمع أصوات الطًرق على النحاس والأواني في سيمفونية تدلك عليها من بعيد.
تعتمد مهنة النحاس – كما يقول أبناء الحرفة -، على الدقة والمهارة والذوق الرفيع بالإضافة إلى قوة الملاحظة في جميع مراحل التصنيع.
ويرجع سبب تسمية هذه المنطقة بحي النحاسين، إلى أن تجار النحاس منذ العصر الفاطمي كانوا يتمركزون فيه لبيع وتصنيع أواني المطبخ والنجف وقدر الفول وصواني الطعام وأباريق المياه ومستلزمات المقاهي، والكثير من قطع الديكور المتنوعة ذات الاستخدامات المتعددة في القصور والبيوت ودور العبادة.
نحاس جدتي
يرجع تاريخ الشارع إلى العام 969، أي منذ إنشاء القاهرة الفاطمية والتي يحدها باب النصر وباب الفتوح شمالاً، وشارع باب الوزير جنوباً، وشارع الدراسة وبقايا أسوار القاهرة شرقاً، وشارع بورسعيد غرباً.
ومن العادات المصرية السالفة اقتناء كل عروس أطقم الحلل والصواني النحاسية من هناك، وقد تكون الجدات أكثر من حرص على زيارة ذلك الحي العريق لاقتناء تلك الأواني، التي لم يخل منها أي منزل في مصر حتى ستينيات القرن الماضي.
وبسبب غياب الحرفية وارتفاع سعر النحاس مقارنة بمواد خام أخرى مثل الألومنيوم، تحولت الأواني النحاسية إلى تراث في وقتنا الحالي.
"سعر الصينية الصغيرة يتجاوز الـ 300 جنيهاً (حوالي 33 دولاراً)، أما الصينية الكبيرة التي كان يقدم عليها عشاء العروسة وتظهر في الأفلام المصرية القديمة فيبلغ سعرها الآن 1000 جنيهاً (قرابة 105 دولارات)"، وفق ما أوضح محمد حسن، صاحب محل لبيع الأواني النحاسية القديمة لـ "عربي بوست".
وبين حسن أسباب عزوف المصريين عن شراء المنتجات النحاسية قائلاً، "أما وابور الجاز النحاسي الذي كان يستخدم للطهي فيبلغ سعره 1000 جنيه، ولو أردت شراء مئذنة نحاسية للمسجد فثمنها 3000 جنيه، بينما المئذنة الألمونيوم بـ 700 فقط".
ويلفت حسن الأنظار إلى أن ارتفاع سعر القطعة النحاسية كلما مر عليها الزمن "فهناك قطع نحاسية من آلاف السنين ومنذ أيام الحملة الفرنسية، وبالتالي تعد أثراً يُباع بآلاف الجنيهات".
غاب السياح فمات السوق
بدوره وصف الحاج محمد وجيه صاحب ورشة مشغولات نحاسية لـ "عربي بوست"، حالة البيع والشراء بـ "الميتة" منذ عام 2006، عندما بدأت أزمة الاقتصاد العالمية ثم تدهورت حالة البيع والشراء بصورة أكبر عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 ليقتصر البيع على بعض القطع الصغيرة للمصريين.
الأمر نفسه يؤكده محمد سعد وشهرته "بلبل"، صاحب محل مشغولات وتحف، إذ أكد توقف تردد السائح الأجنبي.
القطع النحاسية القديمة أغلى
ولفت "بلبل" إلى أن "الزبائن يقبلون على شراء القطع النحاسية القديمة رغم ارتفاع ثمنها مقارنة بالجديدة، فعلى سبيل المثال يبلغ ثمن "السبرتاية" الجديدة (موقد صغير من النحاس لصنع القهوة) 45 جنيهاً، بينما يبلغ ثمن القديمة 200 جنيه، والزبائن يقبلون على شراء القديمة باعتبارها تحفة دون استعمالها كموقد".
وأضاف أنه يحصل على مقتنيات محله من النحاس القديم من أصحاب الفلل والشقق القديمة الذين يبيعون مقتنياتهم، أو يبيعها ورثتهم، كما أنه يشتري النحاس بالكيلو من بائعي الروبابكيا، وغالباً يفضل المشتري المنتج القديم بعد تلميعه وتبييضه.
ويعد أكثر الزبائن الذين يترددون على محله الآن من العرب وبعض المصريين، الذين يطلبون قطع نحاسية يتجاوز عمرها 1000 سنة وعملات قديمة جداً.
"بلبل" أوضح أن مهنة "مُبيض النحاس" كانت منتشرة في السابق في كل شوارع مصر، حيث يقوم الحرفي بتسخين الأواني النحاسية وتبييضها بمادة كيماوية كي تعود لبريقها الناصح المائل للاحمرار بعد تحولها للون الأسود بفعل الزمن، لكنها انقرضت بسبب عدم وجود أواني نحاسية مستعملة. ففي حي المعز، يوجد مبيض نحاس واحد على مشارف الـ 90 عاماً.
الحنين إلى الماضي
بدوره يقول محمد دويدار – مدرس ابتدائي هاوي جمع التحف النحاسية القديمة – لـ "عربي بوست"، إن هوايته "اقتناء القطع النحاسية القديمة رغم غلاء ثمنها، ولذلك اشتريت وابور جاز عمره 500 عام بـ 1000 جنية أي ما يعادل نصف مرتبي لحبي الشديد لاقتناء القديم رغم اعتراض زوجتي".
ويضيف، "يحضرني هنا بيت شعر لأحمد شوقي يقول فيه: (وإذا النفوسُ تطوحتْ في لذة ٍ، كانت جنايتُها على الأَجساد).. فحبي للقديم جعلني أبذل الغالي والنفيس من أجله".
ويعكف أصحاب المحلات حاليا على استخدام الألومنيوم في صناعة لوازم عربات بيع الأطعمة الشعبية في الشوارع، مثل البطاطا والكشري وقدرة الفول المدمس الألومنيوم والشوايات.
ويؤكد محمد حسن أن الفلاحين أيضاً توقفوا عن شراء النحاس كما في الماضي لارتفاع سعره، ويفضلون أواني الألومنيوم في تجهيز العرائس، وحاجيات الولائم الكبيرة.
ويضم حي النحاسين أيضاً عدة أماكن أثرية مثل "مدرسة النحاسين"، التي سميت على اسم الشارع. وإلى غربه تقع "المدرسة الكمالية"، التي بناها السلطان الكامل في العام 622 للهجرة، وكانت تعد المدرسة الثانية لتدريس الحديث بعد المدرسة التي أنشأها الملك العادل نور الدين زنكي في دمشق.
وفي منتصف حي النحاسين يقع "سبيل محمد علي"، وقد أنشئ كصدقة على روح الخديوي إسماعيل، وتعد واجهته تحفة فنية مكونة من 4 أضلاع يغطي كلا منها شباك من النحاس المنقوش بحرفية عالية، أما الأضلاع فقد اكتست برخام المرمر المزركش ويعلو كل عمود لوحة منقوشة بالحروف التركية.