بعضٌ من تلك الكلمات لن ينال رضى الجميع، فسيقف في وجهها البعض وسيقف بجوارها آخرون. ففي شقّين سأتحدث عن الطبيب المصري الذي تارةً يكونُ مهضوماً وتارة يكون هاضماً، ولا تُخبرني بمنطق التعميم من جديد لتؤكد لي أن الجميع مهضوم ولا يُمكن أن يكون هاضماً.. دعني أُوفّر لك ما بحوزتي.
الطبيب المصري… المهضوم
لم تكن عبارة رياض باشا المنفلوطي "دُكتور على نفسك، برّه يا +18" وليدة اللحظة. فإنك تسمع جهاراً نهاراً ما يحدث للأطباء من المرضى ومن ذويهم، بل ومن الشرطة أيضاً "حديثي عن أُم الدنيا".. فقد حكى لي أحد أصدقائي الأطباء الذين عايشوا إحدى لحظات الموت على يد بعض أقارب المرضى، قائلاً: في يوم عادي كغيرهِ من الأيام في مُستشفيات وزارة الصحّة الغنيّةِ عن التعريف بما تحويهِ من انعدام للأمن، أو توفير حماية لطاقم العاملين بها، يظهر له أقارب أحد المرضى غاضبين من تدهور حالة مريضهم، مُطالبينهُ بالمزيد من المُتابعة لتلك الحالةِ، وفي ظل الظروف المُحيطةِ بالطبيب من خوف وذعر مما يراهُ مرسوماً على وجوه من حولهُ، لم يكن لديهِ خيار إلّا أن يُساق أمامهم مُحاولاً تلبية ما يطلبونهُ منهُ. وإذا به يجد المريض قد فارق الحياة، وهُنا أصبح قلبهُ في حالة لا يُحسد عليها، وبدأ بالتعرّق مُتسائلاً بداخلهِ: كيف سأُخبرهم؟
الحقيقة أنهُ أدرك أنهُ لا محالة من الأمر، وبمجرد تفوّه الطبيب بلفظ "البقاء لله" إذا بمن حولهُ ينهالون عليه ضرباً مبرحاً وكأنّهُ هو من أفضى بحياتهِ. لم يلبث الأمر بضع ثوانٍ حتى انهالت الدماء على وجهِ الطبيب المسكين، وتم تخليصهُ من أيديهم بأُعجوبة لينتهي الأمر به إلى الإسعاف وبهم إلى جُثّتهم بلا أدنى مُحاسبة على ما اقترفوه.
يومُ آخر لطبيب آخر في مُستشفى مُختلفة، لكن هذه المرّة نجد الطبيب في منزلهِ في الثالثة صباحاً "تقريباً" وإذا بسياراتِ فارهة أمام منزلهِ المُتواضع وبدأ النداء "يا دكتور"، خرج مذعوراً ليعرف من يأتيهِ في تلك الساعة المُتاخرةِ من الليل، لعلها حالة حرجة من أحد الجيران؟.
لكن الأمر ليس كذلك، فقد تبيّن أن هُناك حالة وفاة بالمُستشفى ويُريد هؤلاء تقريراً من الطبيب لقسم الشُّرطة التابع له المُستشفى، وفي نفس موقف الأول يجد الثاني نفس الوجوه لكنها من صِنف آخر من الناس الأثرياء، وبالطبع "ليهم قرايب مُهمّين" فلم يجد الطبيب حولاً له ولا قوّة إلا أن يذهب معهم، رغم أنّهُ ليس وقت عملهِ وبطريقة لا يُمكن وصف بشاعتها.
وذهب الطبيب إلى المُستشفى ليجد فتاةً في العقد الثاني من عُمرها جُثّةً هامدةً، ولا توجد بها أي آثار تعذيب أو قتل، لكن مشهد من حول الفتاة أثار بداخل الطبيب الشكوك، فالفتاة وأسرتها فُقراء، ومن أتى بالطبيب من المنزل أثرياء، فما الأمر؟
على أي حال كان التقرير أن يكتب الطبيب أنهُ لا توجد بالحالة شبهة جنائية ليتم تسليمهِ لقسم الشرطة، وقد فعل، ليكتشف بعدها ببضعة أشهر أن تلك العائلة الثرية من بينهم بيت فقير قُتلت فتاتهم على يد أحدهم إثر جريمة شرف أو ما شابه ذلك، وكان من المُمكن أن يفقد ذلك الطبيب مهنتهُ ويُسجن جرّاء ما حدث.
وقال لي أحد أصدقائي الأطباء عبر حسابي الشخصي على فيس بوك، نصّاً "هو الموضوع أكثر من أهالي المرضى، المريض بيكون داخل المستشفي في حادثه أو كده، ولو حصله أي حاجه أهله بيكسروا الدنيا، يعني ابنه جاي مضروب بالنار من بلطجيه ومات عندنا يسيب اللي قتله ويضرب فينا. أنا شخصيًّا تعرضت لبلطجي يحمل مسدساً حتى أعالج شخصاً يخصه ولم يكن تخصصي، فضل ماسكني أسير لحد ما جه الدكتور المتخصص".
هذه أمثلةً تُعتبر حبّة رمل في حصراء كبيرة مما يحدث للطبيب الحكومي في المُستشفيات الحكومية البشعة. واسأل بنفسك أحد الأطباء ممن حولك ليروي لك المزيد مثل هذا، بل ومثل ما يُلاقونهُ من بعض أفراد الشُرطة من تعدٍّ غاشم بالسب والقذف والضرب بل والسّحل إذا لزم الأمر.
الطبيب المصري… الهاضم
بالطبع فإن القصص السالف ذكرها أعلاه لا تتناسب مع هؤلاء الأطباء أصحاب الڤيزيتا التي يبلغ قيمتها 100، 200، 400، 500 جنيه لخمس دقائق ينظر إلى المريض خلالها، ولا للطبيب الذي يُعامل مرضاه في عيادتهِ الخاصة بمنتهى الذوق والاحترام فيما يُعامل مرضاه في المُستشفيات الحكومية بمنتهى الوقاحة والذُّل وكأنه "بيصرف عليهم من جيب أبوه"، ولا يحصلون منهُ على معلومات أو وصفات أو علاج أو كشف إلا أثناء جريهِ مُسرعاً مُحاولاً تفاديهم بشتّى الطُرق.
ولا يمُت لهم بِصلة، هؤلاء الذين وجدوا في عملهم مكاناً مُلائماً لاستغلال المرضى ماديًّا وفرض أضعاف مُضاعفة على الثمن الطبيعي أو المتوسط للكشف. فالبعض يصل ما يجنيه من عيادته الخاصة إلى مائتي ألف جنيه في الشهر الواحد وأكثر "معلومات موثوقة"، وهو نفس الطبيب الذي يذهب إلى المُستشفى الحكومي "على مهله" في التاسعة أو العاشرة وما يلبث إلا أن "يمضي حضور وانصراف" ليُغادر مُسرعاً مُتجهاً إلى عيادتهِ الخاصة، تاركاً خلفهُ عشرات المرضى غير القادرين على تكلفة ڤيزيتا عيادته الخاصة ولجأوا إلى المُستشفى الحكومي ليجدوا الجشع على أشدّه.
وليس الأمر بحديث العهد عليكم لكي تُبدوا علامات التعجّب على وجوهكم أثناء قرائتكم للمقال، وإنما في داخل كُل مصري "مهضوم" قصّة بشعة عاشها بنفسه داخل المُستشفى الحكومي ووجد الأطباء الهاضمين والمهضومين في نفس الوقت. لن أُخبر بأن الجميع يجب أن يُقام عليهم الحد ولن أسمح بأن يُقال إن جميعهم ملائكتة يعيشون دور البراءة دوماً، فأنا أكره التعميم في أي شيء. لكنني أطلب قليلاً من الإنصاف وبعضاً من كلمات الحق بشأن هؤلاء الأطباء، فإذا أردنا أن نُعطيهم حقوقهم فنعم هي، فهي حق مشروع بل وواجب على الدولة توفير الحماية اللازمة لهؤلاء الأطباء وتوفير عيش كريم لهم، لكن في نفس الوقت نطلب منهم أن يجعلوا ضمائرهم يقظةً تجاه من يمدون إليهم أيديهم طالبين منهم المُساعدةِ، وأن يوفوا ما عليهم من حقوق كما يطالبون بحقوقهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.