كأي كاتب شاب.. حلم مثله مثل كثيرين أن تُنشر أول رواية له، لكنه لم يدرك قط ما هو مقبل عليه، نظراً لأن مثله الأعلى هو نجيب محفوظ وعدد من الكتاب الآخرين الذين شكلوا وعياً لا يمكن وصفه أصبح يحيا في كون آخر موازٍ للعالم الذي يعيش فيه.
أن يخلط كل أفكار السير آرثر كونان دويل، مصحوبة ببعض من أشعار وهيام إدغار الآن بو ثم سوداوية هاورد فيليب لافكرافت، ولنضف عدداً لا بأس به من الكتاب المصريين.. جعله ذلك يمتلك طاقة لا يُستهان بها ويرغب في إخراجها في الأوراق التي أمامه.
وإذا به نراه يكتب قصة لا بأس بها، قصة عن حياة غير عادية في كون موازٍ للكون الذي يحياه، وجد أن الخيال والابتكار هما أدواته في اقتحام عالم الأدب المصري الممتلئ عن آخره بالشعراء وكتاب الرومانسية فقط، وهو ككاتب يحترم الأذواق لكنه لا يحبهما أبداً وذلك كدلالة فقط على الصراع الذهني الذي يحياه.
كأي كاتب حاول نشر قصته لكن من دون جدوى، في الأوساط الإعلامية في أي بلد عربي إن كنت بلا علاقات وخجولاً وتحيا في عالمك الخاص، فأنت في أزمة كبيرة، كاليتيم الأعمى في أرض الظلام، لا وساطة ولا معارف أنت بلا أحد هذا ما اكتشفه.
حاول ذلك الكاتب الشاب التواصل مع من رأى فيهم الملجأ والملاذ، دور النشر دائماً في الماضي كانت هي التي تحتضن الكتاب، لم يدرب قط أن الأدب تحول في بلده العزيز من أدب إلى "تجارة" لنراه يتلقى صدمة لا بأس بها، لا يمتلك أموالاً طائلة كالتي تطلب منه وجل ما يمتلكه هو قلم وورقة.
كالعادة قرر الاعتزال والعودة إلى مكتبه سيكتب إلى مالانهاية.. لكن ما وصل إليه من إدراك هو شيء وحيد.. هو أنه يكتب لمن لا يستحق وإن استحقوا فإنهم لن يفهموه لن يفهمه أحد.. إنما يكتب لأنه يحب الأدب ولأنه يدرك قيمة تقديم الفكر في شكل مختلف لا على هيئة نسخ.
كان آخر ما قصم ظهره، هي جملة لن ينساها: "لا تكتب شعراً أو رومانسية أو "حاجات من اللي بتبيع اليومين دول وبتسمي نفسك كاتب؟" هناك كانت لحظة كشف الغطاء عن عينه، وجد أن الحقيقة ليست غائبة بل هو كان الأعمى يتحكم في الأدب حفنة من التجار وبالتالي يجب أن ينحدر المستوى إلى الحضيض.
كل ما سبق كانت قصة قصيرة للغاية حول معاناة أي موهوب حقيقي للكتابة ودعوني أحدد على الخريطة ما يخصني حتى لا يقال إنني أنتقد العالم العربي ولم أرَ منه سوى مصر، لكن بعضاً مما جربت وتعايشت معه ورأيت بأم عيني أن ما نحياه في وطننا الحبيب انحدار حاد أدى لضياع هيبة الرواية والقصة في مصر.
تخيل أن يوجه كاتب في العشرين من عمره مراهقين نحو الإثم.. معللاً أن هذا هو الواقع، ثم في المقابل يخبئ عنهم الواقع الحقيقي ظناً منه أنه هكذا يجعلهم يحيون، لكنه وعن عمد -أو دون عمد- قد خلق إدراكاً موازياً للاشيء، تخيل أن تعتبر المحرمات -وأكرر المحرمات وليس الموروثات- حلالاً فقط لأن ذلك الكاتب جعل من نفسه إلهاً.
لكن في المقابل هناك كتاب وجدوا القليل من المساعدة حتى تمكنوا من شق طريقهم لكن سرعان ما يندثرون، أحدهم في حوار سابق أكد لي أنه يخشى أن يكتب، لأن ما يكتبه لن يعجب الجميع بالضرورة، إنها ليست قصة رومانسية أو جنسية أو تتحدث عن العشوائيات لكنها تتحدث عن نظريات علمية مثبتة وهذا لن يبيع في بلدنا الحبيب.
هناك دائماً سؤال يجب أن يقف عنده الكاتب وليس القارئ، ففي كل حقبة زمنية كانت هناك مرحلة تتسم بهبوط المنظور الأدبي لحساب "المخدر الثقافي" بمعني أنه لا توجد أية قيمة للرواية التى كتبها الكاتب فقط لأنه يرغب في إمتاع عقل قارئه هذا ما يسمى بالمخدر الفكري.
والسؤال هنا: ما مبتغاك مما كتبت؟ ما الذي تكتبه حقًّا عزيزي الكاتب؟ والأهم .. ما رسالة روايتك؟ إنْ فكَّر كاتب الرواية للحظة فلتعلم أنه يبحث عن كذبة، لأن الكاتب الحقيقي لن يبحث عن إجابة لفكرة بدأها تلك هي النقطة الرواية تبدأ بفكرة.. ثم رسالة، لا أتحدث عن خط سير الكتابة بل ما يفكر به العقل أثناء الكتابة.
على أي كاتب ممن يتاجرون بالمخدرات الثقافية أن يعي جيداً أن الأدب لديه عادة ممتازة ورائعة وهي أنه لا ينسى هؤلاء الذين أساءوا له، بل إنهم في وقت من الأوقات سيصبحون طي النسيان تماماً وإن تذكرهم الأدب لن يذكرهم سوى بسوء، إنه ما يسمى بدفع الحساب.. لم يولد بعد من ارتكب جرم وتمكن من الهرب.
أصبحت الموجة الجديدة في الأدب تهدد بشدة في تدمير وعي الشباب. ذلك الذي يستطيع أن يدفع سينشر.. وبالتالي بدلاً من أن يكون لديك موهوبون، سيكون لديك حفنة من التجار وكل يبيع ما يجيد صناعته، الأدب لم يكن يوماً حرفة لجني المال أو الاتجار بمحتوى أوراق الكتاب أو لتحويله إلى فيلم. مفهوم الأدب أسمى من ذلك بكثير.
في النهاية، يتبقى دوماً ذلك السؤال، أما آن أن نجد أكثر من دار نشر تقرر فجأة أن تسير عكس التيار؟ أن تتمكن أخيراً من المساهمة في حملة ما من شأنها تنظيم عملية النشر؟ أنا أعلم جيداً أن المادة تحكم كل شيء حالياً والأموال أفضل بكثير من الأفكار، لكن مستقبلاً.. تلك الأفكار ستكون هي الثروة الحقيقية، أما عن الأموال فستزول لا محالة.. فهل من مفر؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.