توحّدنا التواصلي

لا لم أقصد هنا نهائياً مبدأ الوحدة العربية المنشودة عبر المئة عام الماضية بأشكال إيديولوجيّة مختلفة. بل قصدت بالضبط مرض التوحّد الشهير؛ الذي يُلقي بصاحبه في بحار البعد عن المجتمع والتقرّب من الذات مثبتاً بذلك الصوفيّة الفرديّة في تمجيد الذات وتهليل قدراتها والاستغناء عن المجتمع

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/19 الساعة 04:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/19 الساعة 04:35 بتوقيت غرينتش

لا لم أقصد هنا نهائياً مبدأ الوحدة العربية المنشودة عبر المئة عام الماضية بأشكال إيديولوجيّة مختلفة.

بل قصدت بالضبط مرض التوحّد الشهير؛ الذي يُلقي بصاحبه في بحار البعد عن المجتمع والتقرّب من الذات مثبتاً بذلك الصوفيّة الفرديّة في تمجيد الذات وتهليل قدراتها والاستغناء عن المجتمع المُستَغَل لتحقيق المكاسب الشخصيّة والمُستَغِل للذات المتمصلحة عبر طحن مصالحها في سبيل فائدة الفرد الآخر.

نعم إن هذا المرض الذي ينتشر على مستوى الأفراد بنسبة مئويّة ضئيلة؛ يبدو أنّه انتشر انتشار النار في الهشيم على المستوى المُجتمعاتي الثقافي يبني أسواراً بين المجتمعات بدلاً من الجسور المُسخِّرة للتواصل ويدك حصون المعتدي على أطراف حدودنا الفكريّة المحدودة؛ يستغلّها كل مستفيد من توحّد الشعوب لتأسيس فكر اقتتالهم الإيديولوجي الحشدي القادم ويُعينهم كل مُريد لترويج بضائعه اللاتواصليّة المُسخّرة لهدم وسائلنا الاتصاليّة.

فالتوحّد هنا هو عَرَضٌ مرضي لكل إرهاصاتنا البشريّة العنصريّة؛ هو محاولة دائمة لتثبيت القوميات والتحزّبات على حساب البشريّة وعيشها السلمي عبر التواصل الاجتماعي لا التقاتل التفريقي.

والتوحّد هنا هو تشخيص واقعي حقيقي لمعظم ما يجري على قلاعنا المتلاصقة وحدودنا المتصارعة؛ تشخيص لا بد منه برأيي لمحاسبة غلوّنا في تأليه ذواتنا وبُعدنا عن إدراك مدى ضرورة اقتراباتنا الفكريّة وتنافسنا التقاربي الفطري.

و كان لا بد هنا من ذكر أهميّة وصول هذه الشعوب المتعولمة التوحّد؛ إلى مبادئ التواصل عن بعد قدر الإمكان والتحزّب بشكل أوضح على مقاس القدرات الحشديّة لكلّ سواء. فما لجوء الشعوب إلى مواقع التواصل الاجتماعي التطبيقي لاختراعاتهم التكنولوجيّة إلا لفائدة البشريّة، ولكن عبر زيادة توحّدها الفكري وتجمهرها الثقافي العرقي الديني والقومي.

هي ثقافة توحّديّة لا تقل تأثيراً على المجتمع عن المرض الفردي؛ هو اتصال اللااتصال و تواصل الانقطاع وعتمةٌ ظاهرة في أشد عصور التنوير قوّةً و جبروتاً.

فالأساس المجتمعي المتعارف عليه لدى الجميع فطريّاً تقبّل الآخر بكل ما لديه من اختلافات لا استخدام التواصل الحديث البعيد المدى لتأكيد حربنا على أنفسنا في الطرف الآخر من الأرض.

هي انقياد واضح للشعوب المُريدة لأفكار جديدة عبر التصفيق لحداثتها واتهام كل مخالفيها بالمرض والهوس بالجنون والهستيريا؛ تترسّخ بعدم تقبّلنا لما توصّلت له الحضارات الأُخرى من تطوّرات تُأخذ بعين الاعتبار بل رمي ما توصّل إليه البشر خارج حدود القطر الضيّق وتوسيع مبدأ توحّدنا التحزّبي وأهميّة تجاربنا الفرديّة.

فالتوحّد كان أحياناً جمهورياً؛ وأحياناً مَلَكياً؛ كان قومياً عربياً؛ أميركياً؛ أوربياً؛ وآسيوياً بل وضاق ليصبح بين أبناء الآباء التوحّديين أصحاب فكرة التوحّد داخل المجتمع الواحد.

وما زلنا نرى بأعيننا ونشاهد عبر مواقع تواصلنا واتصالنا؛ اشتداد التوحّد المجتمعي؛ وغزو الفكر ذي النزعة الذاتيّة المتفرّدة؛ وما زلنا نشهد تطوّرات صمّنا لآذاننا عن كل ما هو مفيد من غيرنا من الحضارات ونعتبره كسرنا لوحدتنا وفتحاً لشبابيكنا وأبوابنا المُوصدة لعزلتنا.

هو تطوّر تواصلي اجتماعي؛ لم يؤدِّ عند الكثير منّا الغرض اللازم من إنشائه بل على العكس زادنا تحزّباً وتوحديّةً وأعادنا إلى عصور ما قبل الرينيسانس (النهضة) الأوربيّة فعدنا إلى ثكناتنا الفكريّة وأنشأنا قلاعنا الاتصاليّة وأغلق كلّ منّا حصونه الفرديّة وعلّى أسواره الحضاريّة.

وهنا أؤكد لكم من توحّدي هذا أننا الآن جميعاً متوحّدون بالفطرة حتى نُدرِك معاني البشريّة والمساواة الإنسانيّة؛ إلى ذلك الحين عودوا جميعاً أحبّتي إلى قلاعكم الثقافيّة الحصينة؛ راقبوا وترقّبوا أعداءكم التواصليّين عن بعد وجهّزوا منصّات تباعدكم الحضاري لعلّكم يوماً تدركون عدوّكم الفيسبوكّي التويتري.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد