لا يمكن أن يمرَّ الجمال من أمامنا مرور الكرام. لا يمكن أن يمر دون أن نبالي، لا بد له أن يحرك فينا شعوراً ما. كما يقول المتخصص في علم الجمال روجر سكروتون هو يتكلم إلينا مباشرة بصوت كما لو أنه "صوت صديق حميم". ولكن نحن من يختار من يتحدث إلينا، ذلك أن الجمال يعود لذائقتنا نحن لا لمرجع عقلاني محدد. نحن نتمايل طرباً للجمال أياً كان شكله. منظر طبيعي، أو لوحة جميلة. لحن موسيقي جميل، أو فتاة جميلة الملامح. جميعها تستوقفنا فنذكر مبدعها بانبهار: الله! ما سأركز عليه في حديثي هنا عن الجمال هو نوع الجمال الذي يستوقفني كثيراً.. الجمال البشري. ما تأثيره علينا؟ كيف نرى الجمال في البشر وكيف نتعاطى معه؟
يعرّف إيمانويل كانت، الفيلسوف الألماني، الجمال بأنه ذاك الذي يُسعد مباشرة ومن دون أي مفاهيم. فالجمال من وجهة نظر "كانت" لا يرتبط بمنفعة مادية أو غائية، قيمته بشعور الرضا الذي يولده فينا بالتالي هو غير مرتبط بمنطق محدد إنما بمشاعر ذاتية. في الجهة المقابلة، وهو ما يبدو لي متناقضاً، يرى "كانت" بإمكانية وحدوية الذوق في حال النظر بتجرد تام، والذي أراه مستحيل الحصول. حكم الفرد الجمالي هو حكم يعتمد على الذائقة الشخصية والتي تؤثر عليها عوامل مختلفة كتجربة معينة مثلاً أو اهتمام شخصي وبناءً عليه تختلف الذائقة الجمالية من شخص لآخر.
ولكن حين أنتقل لقول بيير بورديو، عالم الأنثروبولجي الفرنسي، حول أصل الحكم الجمالي، أرى ما يرمي له "كانت" أو كما أزعم. الحكم الجمالي هو نتاج مجتمعي ثقافي نتيجة لعلاقة الفرد بمجتمعه. فالمحيط المجتمعي له دور فاعل في تشكيل ذوق أفراده. ومن هنا أيضاً يقول بورديو بمرجعية اللذة الحسية عند إصدار الفرد حكماً جمالياً. ويرى بأن من لا يحمل "ثقافة عالية" -ولن أدخل هنا في معمة تعريف الثقافة- لن يتمكن من إصدار أحكام جمالية سامية.
سأسمح لنفسي بأخذ المرأة بالتحديد كمثال جيد على نظرية بورديو. ساهمت الموروثات بشكل كبير في تشكيل صورة المرأة في المجتمع. حكاوي الرجال بينهم فيما يخصها ولغوهم حول جسدها وأطباعها وقيمتها وما يجب أن تكون عليه، جميعها كونت صورة نمطية مختزلة للمرأة تواترتها أجيال لتتحول إلى ثقافة مجتمع وقناعة ترسخت في أذهان الرجال والنساء على حد سواء دون أن تخضع لنقد أو رفض. قد يبدو تشبيه الذوات الإنسانية بأشياء، مأكولات كانت أو سيارات أو حتى أحجار كريمة، مثالاً مبالغاً فيه عند الكثيرين. ولكنه في الواقع مثال حقيقي لمنطق استهلاكي حوَّل الكيان الإنساني إلى شيء وهو أيضاً جزء من ثقافة مجتمعية متقبلة.
هل أحتاج أن أتحدث عن إصرار الإعلام الدائم على إفساد الجمال؟ سلب كامل لإنسانية الإنسان. يتم حصر الإنسان في جسد برضا الإنسان ذاته. فيظهر جسد خالٍ من العقل، متجرد تماماً من أي قيمة سوى أنه "كائن" يخضع للشهوة فقط. هذا التلميح الفاحش لا يترك لنا مجالاً لغير الاشمئزاز. فقد أفسد الإعلام الجمال بمعايير فاحشة خسفت بروح الإنسان.
وعلى نفس الصعيد، أُستفز من الحكم الجمالي الذي قد تطلقه سيدة على أخرى (أخص بقولي"سيدة" لأنه يفترض بها أن تكون أكثر الناس هروباً من منطق الاختزال). بحيث تختزل كياناً كاملاً بعقل وروح وتركيبة نفسية وأخلاقية كاملة في عينين وشفتين وذقن. فمن غير المستهجن مثلاً أن تُبدي النساء تذمرهن عند رؤية رجل جميل بناءً على المقاييس المتعارف عليها مع امرأة أقل حظاً جمالياً، بناءً على نفس المقاييس، ليظهر سؤال المليون دولار على الساحة "أيش شاف فيها؟". قد يبدو هذا لغزاً صعب الحل بالنسبة لمن لم تلُح لهم حقيقة أن جمال من تحب جمال متجدد! جمال لا ينتهي ولا ينضب. كلما أمعنت النظر إليه بانت لك منه جوانب جديدة! هنا يكون الجانب الراقي من الرغبة. رغبة نبيلة هدفها الروح تتعالى عن كل ارتباط حسي. وهذا ما أدركه أفلاطون عندما قسم أشكال اللذة أو الرغبة إلى شكلين: شكل هدفه الجسد وشكل أرقى هدفه الروح. وهو سر الجمال في تقاسيم وجه لم تعد شابة لرفيق العمر.
***
لطالما كانت ثلاثية الجمال والخير والحق اعتباطية بالنسبة لي. أفلوطين جعل القيم الثلاث رموزاً للألوهية. واللاهوتي توما الأكويني قال بتطابق الجمال والخير. وجاء سكروتون ليقول بأن الفلسفة التي تضع الجمال في المستوى الميتافيزيقي ذاته مع الحق (في إشارة إلى فلسفة الأكويني وأفلوطين حول الجمال) ستواجه صعوبة قصوى. لا شك بأن هذه الفلسفة ستواجه صعوبة قصوى إن كانت تتكلم عن الجمال بشكله الحسي. أما عندما تتكلم عن الجمال الحقيقي بوصفه قيمة وجودية بعيدة كل البعد عن كل ما يتعلق باللذة الحسية فهي هنا في مكانها الصحيح مع كل من قيمتي الخير والحق.
بإمكاني أن أنتهي إلى ما انتهى إليه سقراط حول ماهية الجمال "كل ما هو جميل هو صعب". لكني في الواقع لا أرى حاجة لتصديق هذه النهاية. فحين تسألني ما هو الجمال؟ سأقول لك ببساطة: هو روح تتحدث إليك، وحقيقة تلامسك، وفكر لا يعطيك خيار التجاهل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.