أصبح الموت يشكل لوحةً يوميةً في حياة الإنسان العربي، ألوانها مخضبة بالدماء وقطع الرؤوس وأجساد الضحايا المشوهة من جراء التعذيب.
في كل صباح نقرأ عن موتى ومصابين ومفقودين، حتى أصبح الموت – على ما يبدو – رفيقاً للإنسان العربي، يصحبه بلا عودة أينما ذهب، إلى مكان العبادة، أو المتجر، أو المسكن.
باتت ثقافة الموت والخوف جزءً من الحياة اليومية تذكر بالفنون التي ارتبطت بالموت في العصور الوسطى في أوروبا، والتي ولدت من رحم الحروب والنزاعات الطائفية الدينية والأمراض والأوبئة التي فتكت بملايين البشر، واستمرت مرتبطة بحياة الناس حتى العام 1770.
في قاعة الموت داخل متحف "مانج" في مدينة فوسن البافارية توجد إحدى أشهر اللوحات في ألمانيا التي يطلق عليها اسم "رقصة الموت"، رسمها الفنان الألماني جاكوب هيبلر في سنة 1602 بطلب من رئيس الرهبان في دير "مانج" في جنوب ولاية بافاريا آنذاك.
تنقسم اللوحة إلى 20 قسماً، في كل قسم منها صورة للموت الذي يجسده هيكل عظمي وقد أمسك بيده شخص من شرائح المجتمع المختلفة، يرقص معه، مستدرجاً إياه ليترك الحياة الدنيا ويرحل معه إلى النهاية المحتومة.
منها صورة الموت وهو يرقص مع البابا، ثم أحد القياصرة، ورجل أرستقراطي، وآخر من عامة الشعب، ثم طفل وأمه حتى نصل إلى رئيس الرهبان في الدير.
فكرة هذه اللوحة كما شرحتها مديرة المتحف ولدت من كثرة أعداد الموتى في ذلك الوقت، وكان الهدف منها هو الإيحاء بأن الموت رفيق الإنسان ويجب عدم الخوف أو الذعر منه بعد أن فتك بملايين الأوروبيين من جراء الحروب والأمراض والفقر.
في معرض خاص بميونخ، تم عرض 50 لوحة لرسومات أطفال عرب نازحين من سوريا والعراق وفلسطين، عبر فيها الصغار عما يجيش في صدورهم من استمرار الحروب والاقتتال في بلدانهم.
مشاهدة الصور والمرور عليها في المعرض تصيب بالصدمة، فكلها تحمل نفس المضمون المتمثل في صور الخراب والدمار، الذي ما زال يدور في مخيلة الصغار.
أجمع الأطفال في معظم لوحاتهم على رسوم لطائرات تحوم في الجو وهي تقصف مدن وأحياء بالصواريخ والقنابل، وبعضهم رسم دبابات وجنودا يصوبون أسلحتهم علي رؤوس مدنيين، وآخرون رسموا جثثاً على الأرض ودماءً تقطر من جرحى.
الملفت أن أحدا منهم اهتم برسم صور طبيعية جميلة كالتي يرسمها عادة الأطفال في مثل هذه السن الصغيرة.
في متحف الشعوب أيضاً في ميونخ الألمانية، شارك معرض من أفغانستان للسجاد المصنوع يدوياً، وكانت كل الصور المنقوشة على السجاد هي صور دبابات وأسلحة نارية ومقابر.
فن الموت العربي يحاكي حقبة فن الموت في تاريخ العصور الوسطى بأوربا خاصة في فترة حرب الثلاثين عاماً التي وقعت في ألمانيا ومزقت أوروبا بعد ذلك بين عامي 1618 و1648.
فالحرب الطائفية دمرت مناطق كاملة، واستخدمت في حروبها جيوش مرتزقة على نطاق واسع، جردت ونهبت كل مدينة دخلتها، كما يحدث الآن في العراق وليبيا وسوريا واليمن.
امتلأت هذه الفترة من التاريخ الألماني بلوحات الموت التي تشكلها الهياكل العظمية الموضوعة في توابيت خشبية، والجماجم البشرية، حيث تشهد المتاحف على كثرة وتنوع هذا الفن في وقت كانوا يعتبرون فيه هذا الفن مهماً لأنه يعتبر ذكرى للموتى وللفناء الإنساني، وبأن الموت لا ينفصل عن الحياة.
في بداية القرن الـ 19 كانت فنون الموت قد توقفت في أوروبا، ويمكن رصد ذلك في كثير من اللوحات التي رسمت في تلك الفترة، فقد اختفى الموضوع تماماً وابتعد عن حياة الإنسان، أما على صعيد الحياة اليومية فقد فقد أهميته أيضاً، فصحة الإنسان بدأت في التحسن بفضل التقدم في علوم الطب واكتشاف الكثير من العقاقير التي نجحت في شفاء الكثير من الأمراض ومن ثم بدأ متوسط عمر الإنسان الأوروبي في الارتفاع.
لكن الآن وفي ظل هذا العالم، يمكن الإشارة إلى عودة فن الموت إلى الحياة مجدداً، فالعين لا تخطئه، نرى له أمثلة عددية متنوعة هذه الأيام فمثلاً هناك مريضة السرطان التي أصرت على أن تلفظ انفسها الأخيرة أمام الكاميرا، وهناك أفلام "داعش" التي تتفنن في تصوير القتل والإعدامات، بل أن هناك عدد من المعارض في ألمانيا تؤكد عودة موضوع الموت إلى الحركة الفنية الألمانية مجدداً، حتى أن الفنان الألماني غريغور شنايدر قال إنه يعتزم تصوير إنسان يلفظ أنفاسه الأخيرة في غرفة خاصة قام بتصميمها لتصبح فكرة الموت عادية وتخرج من المحرمات، لا بل إن نشطاء فيسبوك عرضوا صورة صبي يلتقط صورة سيلفي مع جده قبل أن يلفظ أيضاً أنفاسه بيوم واحد على سرير المستشفى في مصر!
لا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن أن يتطور هذا الفن في عالمنا العربي، لكن بات من المؤكد أنه أصبح جزءً من حياة الناس كما كان في وقت الإغريق، والرومان في العصور الوسطى.