المكان: بغداد – وسط الدمار
الزمان: لا وقت محدد، بل هي ساعة التفجير
المدة: ساعة ونصف
الحضور: الدعوة عامة لكل المارّة وأرواح من خطفهم التفجير
السبب: تقديراً لأرواح من رحلوا وتقديساً لأرواح الحاضرين
العازف: قائد الأوركسترا العراقية كريم وصفي عازف على آلة التشيللو
على الرّغم من السواد الذي اتشحت به المنطقة بعد تفجير السيارة المفخخة بالقرب من حي المنصور في بغداد، فإن ألحاناً انطلقت من آلته تحدّت الموت، توقف المشهد عند ذلك الرجل الذي جلس بأناقة وسط الدمار مرتدياً لباسه الرسمي كقائد للأوركسترا، بدأ بالعزف على آلته "تشيللو" وارتجل مقطوعة موسيقية ودّع بأنغامها أرواح من خطفهم التفجير.
كريم وصفي قائد الأوركسترا العراقية الذي اعتاد قيادة العازفين على مسارح دور الأوبرا، اختار الشارع مسرحاً يقدّم فيه مقطوعات يواسي من خلالها المارة لإيمانه أن الموسيقا تساعدهم على تجاوز مخلفات التفجير وما يرافقه من قصص سيئة، وحول ذلك يقول وصفي لـ "عربي بوست" إنه "مع استمرار التفجيرات وما تخلفه من دمار وحالة رعب تحيط بنا وجدت أنه من واجبي أن أقوم بفعل اتجاه ذلك الأمر وكقائد للأوركسترا وعازف لا أستطبع تجاهل ما يدور حولي وتقديم حفلات على مسارح الأوبرا وكأن الحياة تسير بشكل طبيعي في الخارج".
العاصمة العراقية بغداد التي أصبحت شوارعها في الآونة الأخيرة قنبلة موقوتة قد تنفجر فيها سيارة مفخخة أو انتحاري يقتل نفسه بين الحشود، كانت دافعاً قوياً لدى وصفي لحمل آلته وعزف الموسيقى في الشارع يخلق من خلالها مساحة جمالية لإيمانه أنّ "كلّ مكّون من حياتنا اليومية فيه أمل، ويجب ألا يقتصر دور أيّ منّا على ردود الفعل اتجاه تلك الانفجارات، بل من واجبنا أن نتصرّف اتجاه ذلك وأن نتخلّص من السلبية" على حدّ قول وصفي الذي أضاف "بالنسبة لي شخصياً لن أبدأ يومي بخوف ورعب من التفجيرات، بل سأعبّر عن رفضي لما يحدث من خلال فني".
بدلة رسمية.. تشيللو.. انفجار
قد تكون فكرة العزف بين الدمار أمراً جديداً على أهالي العراق الذين اعتادوا التفجيرات جزءاً من حياتهم اليومية، ولكن الأغرب في كلّ ذلك ظهور وصفي في منطقة الانفجار وهو يرتدي ملابسه الرسمية التي اعتاد ارتداءها في حفلاته الموسيقية على مختلف مسارح دور الأوبرا، أكثر من ثلاثة عشر عرضاً قدّمها إلى اليوم عازف التشيللو العراقي وفي جميعها ظهر بملابسه الرسمية.
"أحرص من خلال هذا الفن الراقي على خلق حالة تواصل إنساني، وهذا يتطلب مني التعامل مع الأمر تماماً كما أتصرّف على خشبة المسرح" بهذه الكلمات عبّر وصفي عن أهمية ارتداء الملابس الرسمية خلال هذه العزف في الشارع وأضاف لـ " عربي بوست" بقوله "الحياة مسرح مفتوح أمام كل من يرغب بالعمل وتقديم أمور إيجابية، وبالنسبة لي اخترت الظهور على مسرح الحياة بالصورة نفسها التي أظهر فيها على مسرح الأوبرا".
الموسيقى التي يقول وصفي أنّ علاقته بها بدأت مذ كان جنيناً بفضل والدته عازفة البيانو التي كانت تستمع إلى الموسيقى خلال حملها به، لها دور هام في مواجهة القتل والدمار لأنها تقلل من حدّة الاختلافات من جهة، ومن جهة أخرى هي وسيلته لمواجهة الموت، فهي أقوى من الحرب والقنابل، على حدّ تعبيره.
مرثية الشهداء، مرثية بغداد، مرثية للعالم وغيرها من أسماء هي عناوين المقطوعات التي قدّمها وصفي سابقاً، والذي غالباً ما يستمر نحو ساعة ونصف، وعن تلك العناوين يقول "أتوجه بها لكل من فقدناه بكل أنحاء العالم، وكل من استخدم السياسة سلاحاً في قتل الآخرين".
لا يتوقف الأمر عند وصفي بعزف مقطوعات سبق أن قام بتأليفها بل أيضاً يرتجل ألحاناً يستوحيها من الحدث والمكان.
صديقي الذي تحوّل رماداً!!
سبع ساعات فصلت بين الانفجار ومباشرة وصفي بالعزف في مكان التفجير الذي اختار القدوم إليه هذه المرة ببدلته البيضاء لا السوداء، لأن هذه المرة لم تكن مثل أي مرة أخرى.
أن تعزف لروح صديق عزيز هو أمر صعب، وهو ما قام به العازف العراقي تقديراً لروح صديقه عمار الشهبندر
الذي كانت آخر عبارة له "إنّ ما تقوم به جميل، ولكنني كنت أتمنى ألا تكون مقطوعاتك الموسيقية مرثيات بل ألحاناً إيجابية"، وأما عن ذلك اليوم تحدّث وصفي لـ "عربي بوست" بقوله "أربع ساعات من العزف قضيتها في مكان الانفجار تقديراً لروح صديقي الذي تحوّل رماداً، الشموع في كل مكان أضفت إحساساً بالطاقة الروحية حرصت ذاك اليوم على تقديم شيء مفرح لروحه لذلك اخترت ارتداء بدلتي البيضاء أيضاً".
قرار وصفي بالبقاء في العراق كان سبباً في خسارة زوجته السابقة، ولكن ذلك لم يثنيه عن البقاء في بلده والقيام بواجبه كفنان وخاصة أن "الموسيقى من شأنها أن تكون أداة مباشرة لمواجهة الإرهاب الفكري، فالأمر لا يقتصر على حمل السلاح" على حدّ قوله.
تشيللو.. هي النور والروح
النور والروح بهاتين الكلمتين وصف قائد الأوركسترا آلته التي شاركته وشاركت العابرين بالقرب من مكان الانفجار همومهم، كلهم تفاعلوا مع ألحان أوتارها الأطفال والكبار، الفقير والغني، أشخاص على اختلاف توجهاتهم السياسية ومستوياتهم الاجتماعية.
وحول ذلك أضاف وصفي بقوله "عمال النظافة توقفوا عن لملمة آثار الدمار وانضموا أيضاً إلى الحضور، كل ذلك خلق طاقة إيجابية تحدّت الموت وجعلت من الموقع مسرحاً شبيها بمسارح الأوبرا بحضورها وإنصاتهم بتركيز للموسيقا".
وتابع "لا يرتبط وجودي في الشارع بالانفجار، لكن الواقع فرض علي العزف في الشارع وتقديم النتاج الفني على هذا الشكل، ولكن إمكانياتي بسيطة ولا جهة تحميني ولا سيارات مصفحة ترافقني خلال ما أقوم به".