في قلب جبال الريف المغربية، انبثق نجم مجاهد بطل، عُرف بـ"أسد الريف"، استطاع محمد بن عبد الكريم الخطابي أن يصنع من الكفاح سجلاً حافلاً بالملاحم. هذا البطل قاد ثورة شعبية ضخمة ضد الوجود الاستعماري الإسباني والفرنسي في المغرب، سطّر أروع الأمثلة في التضحية والفداء.
في الثاني والعشرين من يوليو/تموز عام 1921، وقعت إحدى أبرز صفحات التاريخ العسكري المغربي، حيث تمكن ورفاقه من توجيه ضربة موجعة للقوات الإسبانية في معركة أنوال، مخلفة وراءها هزيمة ساحقة ستبقى خالدة في الذاكرة الوطنية.
تسلل المستعمرات الإسبانية إلى الريف
في تطور محوري ضمن سلسلة الأحداث الاستعمارية في شمال أفريقيا، شهدت السنوات الأولى من القرن العشرين خطوات جريئة نحو إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة. في 8 أبريل/نيسان 1904، وُقعت اتفاقية تاريخية بين بريطانيا وفرنسا، عُرفت بـ"الاتفاق الودي"، حيث تم الاعتراف بسيطرة بريطانيا على مصر مقابل تأكيد النفوذ الفرنسي والإسباني في المغرب. لاحقاً في 3 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، انضمت إسبانيا إلى هذا الاتفاق، ما زاد من التعقيدات الاستعمارية في المنطقة.
مع تعمق النفوذ الأوروبي استضافت مدينة الجزيرة الخضراء مؤتمراً دولياً، في 16 يناير/كانون الثاني 1906، بمشاركة اثنتي عشرة دولة، أفضى إلى تقسيم المغرب بين القوى الاستعمارية، حيث نالت فرنسا القسم الجنوبي ووسط المغرب، بينما تم منح إسبانيا السيطرة على الصحراء الغربية والساحل الشمالي، وتُركت طنجة تحت حماية دولية.
التحول الكبير جاء في 30 مارس/آذار 1912، مع توقيع معاهدة فاس، التي فرضت الحماية الفرنسية على المغرب، بعد أن تنازل السلطان المولى عبد الحفيظ عن سيادة بلاده. هذا الإجراء أشعل فتيل المقاومة المغربية، حيث اندلعت ثورة في فاس بقيادة المجاهد أحمد هبة الله. ورغم وفاته بعد تحقيق عدة انتصارات فإن جذوة المقاومة استمرت تحت قيادة "أحمد الريسوني" ابتداءً من عام 1911، خاصة في المدن الجبلية.
في عام 1920، وفي خضم محاولات الاحتلال الإسباني لتعزيز سيطرته بإنزال جيش في منطقة الحسيمة، قاد محمد بن عبد الكريم الخطابي ثورة شعبية في الريف، موقعاً هزائم متتالية بالقوات الإسبانية. الخطابي، بخبرته العسكرية ومعرفته العميقة بالجغرافيا المحلية، أدار مقاومة فعالة، مستخدماً تكتيكات غير تقليدية مثل التسلل الصامت للمعسكرات الإسبانية للاستيلاء على الأسلحة، والهجوم المباغت على الأعداء المنهكين.
هذه الفترة من التاريخ المغربي تُسلط الضوء على مدى تعقيد الصراعات الاستعمارية وعلى الروح القتالية للشعب المغربي، الذي لم يتوانَ عن مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، مؤكدين على إرادتهم القوية في الدفاع عن أرضهم وحريتهم.
من هو محمد بن عبد الكريم الخطابي
محمد بن عبد الكريم الخطابي، الشخصية البارزة في التاريخ المغربي، ولد في عام 1882 في أجدير، قلب منطقة الريف الأمازيغية بشمال شرق المغرب. كبير أبناء عائلة ذات مكانة اجتماعية وسياسية مرموقة، نشأ في بيئة غنية بالتقاليد والقيم الوطنية، والده الذي كان يترأس القبيلة الريفية ويعمل قاضياً، أولَى اهتماماً بالغاً بتعليم أبنائه وإعدادهم للعب دور محوري في مستقبل الريف والمغرب عموماً.
بهدف صقل مهاراتهم وتوسيع آفاقهم، أرسل الخطابي الأب محمد إلى جامعة القرويين بفاس لدراسة القضاء والفقه، ما يعكس رؤيته لأهمية الجمع بين التقاليد والمعارف الحديثة. هذا التوجه التعليمي المتنوع أكسب الخطابي وإخوته مزيجاً فريداً من الثقافة الدينية والعلمية والتقنية، ممهداً الطريق لمساهماتهم اللاحقة في مقاومة الاستعمار.
محمد بن عبد الكريم الخطابي تولّى مهام متعددة في بدايات حياته المهنية، من تدريس اللغة العربية إلى العمل الصحفي، أظهر تفوقاً أكاديمياً ملحوظاً مكّنه من تبوء مكانة مرموقة، إذ عين قاضي قضاة، بعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة سلمنكا الإسبانية. تأثر بوالده بشكل عميق، تلقى منه علوم الفقه والدين، وتشرب منه القيم الوطنية والسياسية.
في أغسطس/آب 1920، شهدت حياة محمد بن عبد الكريم الخطابي منعطفاً حاسماً مع تسميم السلطات الإسبانية لوالده، تقديراً لدوره البارز في مقاومة الاستعمار وتأثيره الكبير بين قبائل الريف. قبل وفاته بأيام أوصاه والده بالحفاظ على الوطن ومواصلة المقاومة ضد الاحتلال الإسباني، وصية كانت بمثابة شرارة أيقظت في الخطابي عزيمة لا تلين في مواجهة المستعمر.
بعد هذه الحادثة شهدت منطقة الريف شمال المغرب، بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، فصلاً جديداً من فصول النضال والتحرر، حيث أعلنت الثورة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي. هذا النضال الذي استمر لمدة 6 سنوات، تمكن خلالها الريفيون من تكبيد القوات الاستعمارية خسائر فادحة، قبل أن يؤدي ذلك إلى استسلام الخطابي ونفيه إلى مصر.
الوضع السياسي والاجتماعي في المغرب خلال تلك الفترة كان معقداً بشكل خاص. كانت علاقة منطقة الريف بالسلطة المركزية متوترة على الدوام، حيث تميزت هذه المنطقة بضعف نفوذ الحكومة المركزية مقابل قوة السلطات المحلية، المتجسدة في القبائل التي كانت تتصارع فيما بينها للحصول على السلطة.
إضافة إلى ذلك، أدت النزاعات القبلية ووجود ثغرتي سبتة ومليلية، المحتلتين من قبل إسبانيا، إلى جعل الريف في حالة مواجهة دائمة مع الاستعمار الأوروبي. في هذا السياق الشائك، برز قادة القبائل الذين واجهوا الاستعمار الإسباني بشكل مباشر، وكان محمد عبد الكريم الخطابي، بحنكته وقيادته، أبرز هؤلاء القادة.
الخطابي وهزيمة الإسبان في معركة أنوال
مع تصاعد قوة ثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، شعرت القوات الإسبانية بالضرورة الملحة لإخماد هذا الحراك الثوري. في هذا السياق، تم تكليف الجنرال مانويل فرنانديز سلفستري، بمهمة مواجهة الخطابي وإنهاء الثورة. قاد "سلفستري" جيشاً ضخماً يضم 24 ألف جندي، مزودين بأحدث الأسلحة الأوروبية، في تقدم من سبتة ومليلية نحو تطوان وأجدير.
على الرغم من التحذيرات التي وردت من العاصمة الإسبانية مدريد بعدم التقدم، أصر "سلفستري" على مواصلة الهجوم ومطاردة المجاهدين حتى وصل إلى أنوال، غير مدرك أنه كان يُستدرج إلى مناطق جبلية وعرة، حيث كان الخطابي يخطط لمحاصرته والقضاء عليه بشكل كامل.
بمجرد وصول القوات الإسبانية إلى أنوال، شن الخطابي هجومه العنيف مستخدماً تكتيكات حرب العصابات. استدرج القوات الإسبانية إلى الجبال ذات التضاريس الوعرة، مما جعلهم يجدون أنفسهم محاصرين من كل جانب. قُطعت كافة طرق الإمداد عنهم، وقُضي على معظم الجيش الإسباني، مما دفع القائد "سلفستري" إلى الانتحار، هروباً من الهزيمة المذلة.
النتائج المترتبة على معركة أنوال كانت كبيرة، إذ فاز الخطابي بكميات ضخمة من الأسلحة والمعدات العسكرية، بالإضافة إلى أخذ 700 أسير، وتكبيد الإسبان خسائر فادحة تقدر بـ15 ألف قتيل وجريح. هذا الانتصار الكبير مكّن الخطابي من تجهيز جيش قوي لمواصلة القتال.
بعد هذا النجاح الكبير، تبعت معركة أنوال موقعة عريت، حيث تلقى الجيش الإسباني هزيمة أخرى كبيرة. تقدم مجاهدو الريف نحو مليلية، لكن الخطابي قرر عدم دخول المدينة لتجنب إثارة تعقيدات دولية ونظراً لاعتقاده بأن جيشه ما زال في طور التكوين.
عقب الفوز المذهل في معركة أنوال، استغل عبد الكريم الخطابي هذا الزخم ليدعو قبائل الريف لمؤتمر عام غير مسبوق في 19 سبتمبر/أيلول 1921، حيث أعلن عن بداية فصل جديد في تاريخ المنطقة. خلال هذا اللقاء التاريخي، وُضعت اللبنات الأولى لما سيعرف بجمهورية الريف المستقلة، إذ أُعلن رسمياً عن استقلال الريف وتأسيس حكومة دستورية جمهورية، مع أجدير كعاصمة والعربية والأمازيغية كلغتين رسميتين.
دولة الريف الجديدة
بعد هذه الأحداث قام الخطابي وزعماء قبائل الريف بوضع ميثاق وطنياً ينص على رفض الاعتراف بأي معاهدة تمس الحقوق المغربية، بما في ذلك معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب لعام 1912. كما أكد الميثاق على ضرورة خروج القوات الإسبانية من منطقة الريف، مع الإبقاء على سبتة ومليلية، والتأكيد على استقلالية الدولة الريفية الجديدة.
تحت قيادة الخطابي، أصبحت جمهورية الريف نموذجاً للإدارة الذاتية المتقدمة، حيث وضع دستور يفصل السلطات التشريعية والتنفيذية لصالح الجمعية الوطنية التي يقودها. هذا النظام الجديد ألزم كل قائد قبيلة بتنفيذ قرارات الجمعية الوطنية، ما يعكس رؤية الخطابي لدولة موحدة تحت قيادة مركزية.
في سعيه لنيل الاعتراف الدولي، أرسل الخطابي بعثات دبلوماسية إلى عواصم أوروبية مختلفة، وكان يخطط لإرسال أخيه إلى عصبة الأمم في 1923 لطرح قضية الريف على الساحة الدولية. لكن، محاولاته هذه اصطدمت بالواقع الصعب للسياسة الدولية، حيث كانت القوى الاستعمارية تسيطر بشكل كبير على المنظمة الدولية.
على الصعيد الداخلي، سعى الخطابي لتحديث النظام الاجتماعي والقانوني في جمهورية الريف، حيث ألغى الأعراف المجتمعية القديمة وحكم بالشريعة الإسلامية، مع تحسينات جذرية على قوانين الملكية. أصدر قانوناً لمصادرة الأراضي غير المستثمرة لتوزيعها على القادرين على زراعتها وأعاد توزيع المياه بين القبائل، في خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
الحرب الكيميائية والنفي إلى مصر
بعد تحقيق انتصار ملحوظ في معركة أنوال، تعاظمت قوة عبد الكريم الخطابي، مما أثار قلق القوى الاستعمارية الأوروبية، خصوصاً فرنسا التي كانت تخشى على مصالحها في المغرب. في سبتمبر/أيلول 1924، واصل مجاهدي الريف تحقيق الانتصارات، هذه المرة في مدينة تطوان، مما عزز موقفهم في مواجهة الاستعمار.
الخسائر الفادحة المتتالية للإسبان دفعت فرنسا إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في المنطقة، ما أدى إلى تشكيل تحالف مع إسبانيا لمواجهة الخطابي بكل الوسائل الممكنة.
أحد الإجراءات التي اتخذتها فرنسا وإسبانيا كان استخدام السلاح الكيماوي المحرم دولياً ضد المجاهدين في الريف، في محاولة يائسة لإخماد ثورة الخطابي. بحلول عام 1926، كان الخطابي قد خسر 20 ألف من رجاله، مما دفعه إلى الاستسلام في 26 مايو/أيار من نفس العام، اختياراً لسلامة أهل الريف الشيء الذي يجيب عن تساؤل لماذا استسلم عبد الكريم الخطابي؟
فرنسا نفته إلى جزيرة معزولة في المحيط الهادي، وفي عام 1947، أثناء عودته إلى فرنسا، توقف في ميناء بورسعيد حيث طلب اللجوء السياسي في مصر، الذي تم قبوله من قبل الحكومة المصرية. عبد الكريم الخطابي بقي في مصر حتى وفاته في عام 1963.
استخدام الغازات السامة من قبل القوات الإسبانية، والتي تم التأكيد عليها في مذكرات الدكتور الألماني شتوتنبرغ، خبير صناعة الأسلحة الكيماوية، يعد واحداً من أبشع الجرائم بحق الإنسانية في التاريخ المعاصر. هذا الفعل الهمجي لم يقتصر تأثيره على تلك الفترة فحسب، بل يمتد إلى الوقت الحاضر، حيث يشهد الريف المغربي ارتفاعاً كبيراً في معدلات الإصابة بالسرطان، مما دفع بعض جمعيات حقوق الإنسان إلى ربط ذلك بالتعرض للغازات السامة خلال تلك الحقبة، خصوصاً في مناطق شمال المغرب.