في وقتٍ مبكر من صباح العاشر من يونيو/حزيران 2013، ظهر فيديو على موقع صحيفة The Guardian البريطانية، لشاب أمريكي اسمه "إدوارد سنودن"، لم يكن إدوارد شخصية معروفة لكن ما قام به سبب هزة حول العالم، بعد كشفه واحداً من أسوأ حوادث التسريبات في التاريخ الحديث.
والذي أثبت بالوثائق تجسس الحكومة الأمريكية واسع النطاق على كثير من الأشخاص والشركات حول العالم، من بين الأشخاص الذين شاهدوا ذلك المقطع شاباً يدعى "ويليام فيتزجيرالد" والذي كان يعمل في شركة جوجل في ذلك الوقت.
قرر ويليام حزم أمتعته والذهاب لمساعدة إدوارد سنودن، ولم يمكن يعلم أنه بتصرفه هذا ومساعدة سنودن، ستساهم في تغيير شكل الاتصالات والتشفير في الإنترنت كما نعرفه اليوم.
فضح وكالة الأمن القومي الأمريكية وبرامجها التجسسية، ما هي قصة إدوارد سنودن؟
درس "إدوارد سنودن" المعلوماتية في مجمع تأهيلي بميرلاند، إلا أنه لم يكمل تعليمه، وانتسب إلى الجيش الأمريكي وبدأ تدريباته العسكرية في القوات الخاصة للقتال بالعراق. لكن حدوث كسر بساقيه أدى إلى عدم استكمال تدريباته العسكرية.
عوضاً عن الذهاب إلى العراق، عمل سنودن حارساً في منشأة لوكالة الأمن القومي بجامعة ميرلاند، وفي عام 2005 التحق بوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه).
في أثناء عمله بالـ"سي آي إيه" خبيراً بأمن المعلومات، قفر في السُّلم الوظيفي بسرعة غير معتادة لشخص لم يحصل على الثانوية، بسبب خبرته الكبيرة في عالم الإنترنت والبرمجيات.
وفي عام 2009، غادر الـ "سي آي إيه"، ليعمل تقني معلومات في مكتب وكالة الأمن القومي الأمريكية بقاعدة عسكرية في اليابان، وانتقل عام 2010 إلى وظيفة مسؤول برامج بمكتب الوكالة نفسها في جزيرة هاواي.
خلال عمله مع وكالة الأمن القومي استطاع سنودن الاطلاع على العديد من الوثائق شديدة السرية، خصوصاً برنامج بريسم PRISM للتجسس.
وهو برنامج يتيح مراقبة معمقة للاتصالات والمعلومات المخزنة، وضمن ذلك رسائل البريد الإلكتروني، ومحادثات الفيديو والصوت، والصور، والاتصالات الصوتية، وعمليات نقل الملفات، وتفاصيل الشبكات الاجتماعية.
ويمكّن البرنامج من استهداف المواطنين في الولايات المتحدة، ومستخدمي الإنترنت خارج الولايات.
حيث إن وكالة الأمن القومي كانت قادرة باستخدام هذا البرنامج، على الدخول مباشرة إلى الخوادم الخاصة لكل من مزوّدي الخدمات الأمريكية: مايكروسوفت، وياهو، وجوجل، وآبل، وفيسبوك، ويوتيوب، وسكايب، وإيه أو إل، وبالتوك.
كان سنودن الشاب يعمل براتب جيد جداً يصل إلى مئتي ألف دولار سنوياً، وكان لديه منزله الخاص في جزيرة هاواي الأمريكية، وحياة مستقرة تماماً.
وبحسب قوله، فقد وجد ببرامج التجسس تلك تهديداً حقيقياً للديمقراطية التي لطالما كانت الولايات المتحدة تنادي بها، وفي سبيلها كان سنودن مستعداً للتضحية بكل شيء.
لكن فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية عام 2008 منحه الأمل في تحقيق إصلاحات بالمستقبل، وهو ما جعله يؤجل خطته في الكشف عن برامج الحكومة الأمريكية التجسسية، لكنه أدرك لاحقاً أن شيئاً لم يتغير ولا فائدة من الانتظار.
في مايو/أيار 2013 ورغم إدراكه للمخاطر التي تنتظره، تقدم سنودن بإجازة من عمله، زاعماً حاجته للعلاج من مرض الصرع. وفي العشرين من الشهر نفسه، هرب سنودن إلى هونغ كونغ بعدما سرب تفاصيل برامج المراقبة السرية الخاصة بوكالة الأمن القومي، لصحيفتي الغارديان البريطانية وواشنطن بوست الأمريكية.
في تلك الفترة تدخل "ويليام فيتزجيرالد" موظف جوجل لمساعدة سنودن، ومساعدته على الحصول على مساعدة قانونية وتعريفه بأشخاص ساعدوه على الاختباء من عيون وكالات الاستخبارات التي كانت تلاحقه.
وبعد أن بدأت سلطات هونغ كونغ بدراسة طلب تسليمه إلى الولايات المتحدة التي اتهمته بالتجسس وإفشاء معلومات شديدة السرية، توجه سنودن إلى موسكو، حيث استطاع الحصول على إقامة مؤقتة هناك.
"ويليام فيتزجيرالد"موظف جوجل يقرر مساعدة إدوارد سنودن
عندما كشف إدوارد سنودن عن هويته، ونشر الصحفي غلين غرينوالد ومخرجة الأفلام لورا بويتراس مقطع فيديو على موقع صحيفة The Guardian البريطانية، بدأ سنودن الفيديو بالقول: "اسمي هو إد سنودن".
من بين الذين شاهدوا الفيديو كان "ويليام فيتزجيرالد"، والذي كان حينها موظفاً مختصاً بالسياسات في شركة جوجل، وكان مقره في ذلك الوقت مكتب الشركة في هونغ كونغ، ولم يكن يتجاوز 27 عاماً، تحمس ويليام لموقف سنودن، وكان يريد المساعدة بأي شكل.
قال فيتزجيرالد إنَّ شبكة الإنترنت وصناعة التكنولوجيا –لاسيما الشركة التي يعمل بها، جوجل- كانت في عام 2013 تبدو عالماً مختلفاً تماماً عما هي عليه اليوم. ففي أعقاب الربيع العربي، كان هناك أمل وتفاؤل بأنَّ الأدوات التي تربط العالم بطرق غير مسبوقة يمكن أن تصبح قوى للصالح العام.
لكنَّ ملفات سنودن حكت قصة أكثر شؤماً، فكشفت عن عمليات مراقبة جماعية من جانب وكالة الأمن القومي، التي استخدمت تلك الأدوات للتجسس على نفس المستهلكين الذين كانت الشركات التي أنشأت تلك الأدوات تزعم أنَّها أنشأتها من أجل تمكينهم.
أرسل ويليام فيتزجيرالد رسالة بريد إلكتروني للصحفي "غلين غرينوالد" الذي نشر فيديو سنودن، وعرض عليه المساعدة، وكتب في الرسالة، التي اطَّلعت عليها الصحيفة البريطانية: "إن كنتم تنظرون في خيارات مختلفة لحماية إدوارد داخل هونغ كونغ، فأنا مستعد للمساعدة".
ردَّ غرينوالد على رسالة البريد الإلكتروني لفيتزجيرالد، والتي عرض فيها المساعدة في حماية سنودن، قائلاً: "هل أنت محامٍ؟". وفي حين لم يكن ويليام فيتزجيرالد كذلك، فإنَّه كان يعرف أحد محامي حقوق الإنسان البارزين في المدينة. وردَّ قائلاً: "لا، لكن لدي بعض الأصدقاء المحامين".
ورغم المخاطرة وعدم أي دليل على هوية ونوايا فيتزجيرالد الحقيقية قرر غرينوالد تصديقه، لأن سنودن كان بحاجة لكل المساعدة التي يستطيع الحصول عليها. وقرر غرينوالد الاعتماد على حدسه وتحديد موعد من أجل لقاء فيتزجيرالد.
قال غرينوالد لصحيفة The Guardian: "لم نكن نعلم ماذا تعرف الحكومة الأمريكية، وماذا كانت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) تفعل، وماذا كانت السلطات المحلية لهونغ كونغ تفعل. لذا، حين ظهر شخص ما فجأة بهذا الشكل يعرض المساعدة، بالطبع تكون متشككاً للغاية".
مع ذلك، لم يكن غرينوالد متفاجئاً أنَّ أحد موظفي جوجل سيكون داعماً لسنودن، لأنَّ ذلك "كان في الحقيقة يمثل روح ما كان يُفتَرَض أن يحققه وادي السيليكون في الأصل".
وعن طريق ويليام فيتزجيرالد تعرف إدوارد سنودن على "روبرت تيبو" و"جوناثان مان"، وهما الرجلان اللذان أصبحا المُمثِّلين القانونيين لسنودن وخبَّآه في منازل موكلي تيبو من اللاجئين السريلانكيين. ومن منزل لآخر حتى سافر لاحقاً إلى موسكو.
تشفير أقوى وخصوصية أكثر هكذا غيرت وثائق إدوارد سنودن الإنترنت
كان لسنودن تأثير عميق بعد أن تم الكشف عن أن وكالة الأمن القومي كانت تستفيد من المعلومات التي تحتفظ بها بعض الخدمات القائمة على السحابة الأمريكية. خسرت Google وCisco وAT&T أعمالها على المستوى الدولي بسبب الاحتجاج العام على أدوارها في تجسس وكالة الأمن القومي.
وبعد الكشف عن التنصت على هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، سارعت صناعة التكنولوجيا إلى إنشاء هاتف خلوي آمن.
وفقًا لموقع بلومبيرغ، فإن ما كشفت عنه تسريبات وكالة الأمن القومي "هز عالم تكنولوجيا المعلومات" وكان له "تأثير مخيف". تم النظر إلى أكبر ثلاثة تأثيرات على أنها زيادة الاهتمام بالتشفير، وترك الأعمال للشركات الأمريكية، وإعادة النظر في أمان التكنولوجيا السحابية.
وفي المقر الرئيسي لمؤسسة التخوم الإلكترونية، أدرك المنظمون أنَّ ملفات وكالة الأمن القومي يمكن أن تُحفِّز الشركات لتطبيق التشفير بين الطرفين (End-to-end Encryption) أخيراً، وهو وسيلة لتأمين الاتصالات حتى يكون بإمكان المُرسِل والمُستقبِل فقط الوصول إلى المحتوى. فوفقاً لسيندي جون، المديرة التنفيذية لمؤسسة التخوم الإلكترونية، بدأت شركات التكنولوجيا بسرعة كبيرة بعد التسريب الانضمام إلى جهود المؤسسة للدفع نحو مزيد من التشفير. وفي عام 2016، قال جيمس كلابر، مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، إنَّ التسريبات عجَّلت تبنّي التشفير بواقع 7 سنوات.
وفي حين لا يزال هنالك عمل يتعيَّن إنجازه بشأن تشفير قدر أكبر من المواقع على شبكة الإنترنت، إلا أنَّ التشفير أصبح هو المعتاد للكثير من تطبيقات التراسل مثل تطبيقات Signal وWhatsApp وiMessage.