خمسة أعوام قد مرت منذ وفاة الكاتب أحمد خالد توفيق، في الثاني من أبريل عام 2018، مساءً اتصلت بهاتفه فلم يرد، كنت أعلم باحتمالية خروجه من المستشفى في الأغلب اليوم، ولم تكن حالته خطرة أو تنذر بما حدث، بل ما يقوم به إجراء شبه روتيني، فلقد نجا في السابق مرتين من أزمات صحية شديدة بمعجزة.
فكرت: لن أعيد الاتصال، فلا أحب أن أكون مُلحّة، خاصة وهو في المستشفى، وتذكرت هناك في قمة صندوق بريدي الإلكتروني رسالة منه لم أجب عليها بعد، فهو يسأل عن رأيي في رواية "شآبيب" والتي بدأت منذ عدة أيام قراءتها وتوقفت ولم أكملها حتى الآن، ليس من عادتي أن أؤخر قراءة أي عمل له، ولكن وطأة عملي كانت شديدة في الشهور السابقة، لذا جاءت الرسالة تتعجب من كوني لم أرسل له رأيي سريعاً كالعادة، وتتساءل بقلق: هل لم تعجبني الرواية؟
قررت تأجيل الرد يومين أو ثلاثة فقط خاصة مع دخوله للمستشفى لأكون قد أنهيت قراءة الرواية وأستطيع مناقشته بها، لم أكن أدري أن هذا البريد لن أرد عليه مطلقاً، وأنني لن أقرأ الرواية إلا بعد 4 سنوات حين استطعت تخطي ألم قراءتها دون مناقشته بها. وفي المساء عرفت الخبر المريع..
هل رحل حقاً أحمد خالد توفيق؟!لقد انهار السد لينطلق الطوفان
كلما جاء الثاني من أبريل أتذكر لحظات القلق وعدم اليقين، أتذكر خيوط الأمل المهترئة التي ظللت أتشبث بها بعد معرفة الخبر بأن كل هذا غير حقيقي، وأنني ساكلمه مساءً حيث سيبتسم بضيق لا يستطيع تجاوزه وهو يتعجب من مطلقي الشائعات.
لم أكن أعلم أن وفاة الرجل سيتبعها الكثير من اللغط الذي استمر لأعوام في كل ذكرى لوفاته، كما كان في أوجه في الأيام الأولى لرحيله.
ففجأة بعد خبر الوفاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، كل الصفحات؛ من صفحات الطبخ، للبيع أون لاين، لصفحات الصحفيين والكتاب، لصفحات المشاكل، وتعليم اللغة العربية، لمواقع الجرائد، والمواقع الصحفية، عبر الصفحات الشخصية لعشرات العشرات من الشباب كان الحدث واحداً؛ الرثاء والصدمة، تحول الإنترنت في العالم العربي لعدة ساعات إلى "خالدي" خالص لا يتكلم سوى عنه.
بين من يرثونه وبين من يتساءلون بدهشة: من هذا الشخص الذي انقلبت الميديا بهذا الشكل من أجل وفاته؟!
كان هناك سد يقبع خلفه أحمد خالد توفيق ومعه أغلبية شباب الجيل في هدوء، وعندما توفي انهار السد ليكتشف العالم طوفاناً من الود والامتنان والحب، كان من الطبيعي أن تثير مظاهرة الحب هذه الشجن والإعجاب، ولكنها عند آخرين أثارت الخوف.
"العراب" لقب لم يحبه قط أحمد خالد توفيق
أحمد خالد توفيق هو ليس العراب، فهو في حياته كان يكره هذا اللقب، ليس تواضعاً فقط، ولكنه لم يحب وقعه، كان دائماً ما يتكلم عن الفرق بين لفظتي "العراب" بما لها من وقع تنظيمي عصابي غير مريح للنفس، ولفظة "الأب الروحي" التي تتسم بالود والعلاقة السلسلة بين تلميذ وأستاذ، لذا لم يكن يحب الخلط بين اللفظين واعتبار نفسه عراباً.
المقربون من أحمد خالد توفيق لم يستخدموا معه مطلقاً لقب العراب، أزعم أنني كنت أحد هؤلاء المقربين أو "شلته" كما كان يسمينا، تعرفته كاتباً، ثم إنساناً، عبر واحد -في رأيي- من أهم المنتديات عبر الإنترنت "شبكة روايات التفاعلية" الذي جمع أغلبية الشباب المحب للثقافة والأدب والذين تحولوا بعد ذلك للكتابة، والصحفيين، السيناريست، ومعدي البرامج الحاليين المشهورين والناجحين، تقابلنا هناك.
تلاقت عقولنا مع الأستاذ أحمد خالد توفيق، لتتطور معرفتنا لصداقة حقيقية بين تلاميذ وأستاذ، حيث كنا نتفق أنه عندما يستطيع حضور لقاء فيجب أن يضم "شلته" لاستعادة الود القديم.
من هو أحمد خالد توفيق؟
هل أي شخص يتكون من شخصية واحدة؟ بكل تأكيد لا، فنحن حين نغضب نكون شخصية، وحين نحب نكون أخرى، وحين نتعبد نتحول لشخصية ثالثة، وحين نخاف تظهر شخصية جديدة تماماً، وهكذا فإننا في الواقع مجموع هذه الشخصيات معاً.
لذلك كي تزعم أنك تعرف شخصاً ما يجب أن تراه في أكبر عدد ممكن من المواقف التي تظهر شخصيته المختلفة، لتحيط بها علماً، فلا يمكنك أن تراني وأن أتراقص فرحاً بنجاحي مثلاً لتؤكد أن فلانة شخصيتها خفيفة عابثة، هذا تبسيط مُخل.
فما بالك بشخص يزعم الجميع أنهم يعرفونه دون أن يروه، بل فقط قرأوا عدة سطور من آلاف السطور التي كتبها فقرروا أنهم يعرفون من هو.
دعونا نعود مرة أخرى للساعات التالية للحظة الوفاة، بينما ينعي الشباب أستاذهم وصديقهم وكاتبهم المفضل، كان هناك مئات آخرون في حالة ارتباك يتساءلون: من هذا الشخص؟ ويسعون بكل السبل إلى إيجاد تصنيف مريح له ليجعلهم ينضمون لقائمة من يرثونه أو لكتيبة من يهاجمونه. وبدأ كل شخص ينظر من الزاوية التي قرر أن يراه منها.
فهذا رأى جزءاً من مقاله عن عبد الناصر، فصاح: وجدتها، أحمد خالد توفيق ناصري متعصب، وآخر رأى مقاله في نعي قتلى رابعة ورفض الدم فقال: ياللهول، يبدو أنه إخواني ثقيل.
أما هذه فقررت أن تقرأ عدداً من القصاصات البسيطة المرحة، فصاحت متصنعة الذكاء: "أيوه أيوه أيوه" أحمد خالد توفيق كاتب "تافه سطحي".
لكن الواقع أنني وكل من عرفوه عندما نستمع لهذه الآراء نتساءل: من هذا الذي يتكلمون عنه؟ هو ليس أحمد خالد توفيق على الأطلاق، بل هو صورتهم الذهنية التي خلقوها له ثم انتقدوها.
كاتب متوسط، اجتماعي، يتقبل النقد بنفس راضية
من بين كل ما نشر من كارهي ومحبي "الدكتور" كانت دائماً هذه الصفات الثلاث تزعجني كثيراً، فمن يكرهونه يتركز دائماً زعمهم أنه كاتب متوسط أحبه الشباب الغَر الساذج وتعلقوا برواياته السطحية، فهم شباب لم يتذوقوا الأدب الحقيقي وغرتهم المغامرات "التافهة" ليصنعوا من كاتب ضعيف أو متوسط في أفضل حالاته أسطورة.
يأتي رد محبيه ليتركز دائماً عند تبرير: نحن لا نحبه لأنه كاتب بل لأنه صديق وإنسان.. إلخ، هنا أشعر بالضيق، لا لم يكن كاتباً متوسطاً، ولم يكن من حوله قراء سطحيين.
في عالمنا العربي نحب التقعر، كي تكون أديباً رائعاً يجب أن تكتب بلغة مقعرة أو تذهب إلى غياهب النص لتستحضر صوراً شائكة، ومعاني ترقد عميقاً في بطن الشاعر، وجملاً فخيمة.
الواقع أن محبي "أحمد خالد توفيق" أغلبهم هم الكتاب والصحفيون الأكثر حرفة ونجاحاً الآن، وهم قراء من النوع الثقيل الذي قرأ كل شيء تقريباً، واطلع على ثقافات عدة وكتابات منوعة، ومع ذلك مازالوا يحبون ما كتب، ليس فقط لأنه يمثل حالة نوستالجيا، ولكن لأنه جيد حقاً.
إن أدب البوب آرت وأدب المغامرات منتقد مُقلل من شأنه في أوطاننا فقط، بينما في الغرب على سبيل المثال ستجد "ستيفين كينج، نيل جايمان، جي ك رولينج"، قبل ذلك "جون. ر تولكين، وجورج مارتن" وغيرهم، لقد عددت فقط للذين فاقت شهرتهم الحاجة للتعريف بهم، فتكفي أسماؤهم لكي تعرف من هم، هؤلاء لا تجد ناقداً أو قارئاً يستطيع أن يزعم أنهم ليسوا كتاباً، أو أنهم أقل جودة من الكتاب الكلاسيكيين، أو أنهم كتاب ألغاز أو مغامرات أو متوسطو الموهبة فقط لأنهم يكتبون نوعاً أدبياً مختلفاً.
الكاتب لا يُقيم بنوع الأدب الذي يكتبه بل بإجادة أدواته
أحمد خالد توفيق يجيد أدواته حد الاحتراف والبراعة، يرسم شخصيات مبدعة، فالرجل يكتب وكأنه يتلبس الشخصية التي يتكلم بلسانها، وهي إحدى المميزات التي تستطيع بضمير مستريح أن تقيم الكاتب الجيد من السيئ وفقها، فكم من كُتّاب ملكوا لغة وحبكة وسقطت أعمالهم مع ضعف رسمهم للشخصيات.
الرجل متمكن من الفصحى ببراعة، بل كل من عرفه يعلم أنه "موسوس" لغوي، ومع تمكنه من اللغة استطاع أن يكتب بها دون أخطاء تذكر، ويصل بكتابته هذه دون تقعير لكل الطبقات، وأن يفهمه الجميع دون أن يتخلى للحظة عن الفصحى وقواعدها.
"توفيق" كذلك يملك الخيال الجامح الذي يأخذك ليطير بك من مكان لآخر، من عالم لغيره، ومن حالة لأخرى، مع حبكات مميزة، قد تكون مبهرة في أحيان، وجيدة في أحايين أخرى.
ضف لهذا أنه لم يتقن فن الرواية فقط، بل كان واحداً من أفضل من كتبوا المقال، وإن كنت لا تستطيع المبالغة لتعتبر توفيق هو الكاتب الأفضل، فهو واحد من المتميزين حقاً، ولكنه حقاً واحد من الأفضل في المقال.
لذا كيف يكون هذا الكاتب المميز ضعيفاً وقراؤه سطحيين؟ وإن قالها كارهوه فلمَ يخجل محبوه من نقد هذا الكلام خوفاً من اتهامهم أنهم قراء "بوب أرت" وكأنها جريمة!!
اجتماعي يتقبل النقد بسلاسة
يمكنك أن تصف أحمد خالد بالكثير من الصفات؛ إنساني، أخلاقي، مهذب، لطيف اللسان، مجامل، ولكن اجتماعي؟ ولا يحزن من النقد؟ اعذرني أنت هكذا لا تعرفه على الإطلاق، فعلى العكس فقد كان –رحمه الله- شخصية حساسة، أميل للانطواء، خجولاً عندما يُمدح، لا يسعى لتكوين معارف أو تلاميذ أو نسج شبكة علاقات مطلقاً، كل هذا حدث امتناناً لشخصيته الآثرة في اللطف والإنسانية، ولكن ليس عن سعي منه.
أما النقد الحاد فقد كان يكسر روحه، كم عدد المرات التي قرر أن يتوقف فيها عن الكتابة بسبب نقد حاد؟ يوماً ما تخلص من إحدى رواياته بشكل كامل بعد كتابتها لأن البعض كتب في ردود عن روايته السابقة أن مستواه قد تأثر وانخفض، وهناك لحظة قرر التوقف فيها عن كتابة المقالات حتى أثناه أصدقاؤه المقربون من الكتاب بسبب ردود حادة وسط مئات شاكرة.
كان روحاً حساسة قلقة، مهموماً دائماً بأن يكون جيداً، قلقاً من ألا يكون جيداً بما فيه الكفاية، لم يسع لأنوار وعلاقات القاهرة رغم عدد الفرص التي أتيحت له، وظل يفضل هدوء طنطا وسكينتها بعيداً عن الصخب.
لقد كان عقلاً لا يهدأ وروحاً قلقة وقلباً يعرف معنى الإنسانية
لماذا يكرهون أحمد خالد توفيق؟!
هذا هو سؤال المليون دولار كما يقول الغرب، لماذا هذا النقد الشرس، الذي يصل لدى البعض لكراهية شديدة، ومحاولات تحقير وتقليل من رجل لم يعد بيننا، لا يملك حق الرد، ولا يستطيع إيذاءكم؟ الحقيقة أن المتأمل لن يجد ظاهرة "تقطيع" سيرة أحمد خالد توفيق إلا في 3 أطر.
الأول: هو كيف مر مثل هذا الرجل من تحت أعيننا دون أن نراه؟ كيف أثر في كل هؤلاء؟ وكيف كل هذه الأعداد من الشباب المؤثر يمتنون له؟ ماذا لو كانت أفكاره عكس ما نرغب؟ ماذا لو جاء غيره ويحمل نوايا لا نقبلها؟ هذا مثير للقلق والشك لدى البعض حقاً، أن يُكتشف أن إحكام قبضة معرفة كل شيء بها ثغرة بهذا الحجم، والخوف من تكرار التجربة مرة أخرى، لذا يتم التقليل من شأنه ومن تأثيره خوفاً من وجود غيره أو مثله يوماً ما.
الثاني: لماذا هو ونحن لا؟ هؤلاء مطبقو مَثَل "عدوك ابن كارك"، هم أنفقوا عشرات السنين في علاقات وشبكات معارف ومحاولات ولم يحظوا بربع ما حظي به الرجل، لذا لنقلل منه ومِمن حوله، لنشعرهم ونشعر معهم أنهم غُثاء لا يضرنا افتقاده.
ثالثاً: صديقنا الترند الذي يسعى كل مجهول إلى ركوبه ليشتهر، هل تبحث عن بعض الشهرة؟ بسيطة، اشتم أحمد خالد توفيق.
ختاماً فإنه من حق أي شخص ألا يعجب بالرجل، ألا يحب أدبه، وأن ينتقده، هذه ليست دعوة لجعله محصناً، ولكن كلنا يعرف الفرق بين من ينقد الرجل كأديب لا يحب أعماله، وبين من ينتقمون من ذكرى رجل يشعرون أنه هزمهم حتى بعد 5 أعوام من رحيله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.