عندما ترك "يوجين دبس" المدرسة في سن الرابعة عشرة، ليعمل في تنظيف الشحوم من عربات القطار بولاية إنديانا، لم يكن يتخيّل أن هذا الطريق سيؤدي به في يوم من الأيام، ليفوز بحب العمال ويغير حياتهم للأبد، ويحصل على حوالي مليون صوت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
حياة "يوجين دبس" المبكرة وظروف العمل القاسية
عام 1855 في ولاية إنديانا، ولد الطفل "يوجين دبس"، وعندما بلغ 14 عاماً اضطر لترك المدرسة ليعيل عائلته، فعمل في شركة السكك الحديد في ولاية إنديانا، في تنظيف الشحوم وصبغ عربات القطار.
في عام 1870، عمل يوجين في وظيفة أخرى على محرك القطار، في مهنة قاسية للغاية على شاب بعمره، كان وظيفته جرف الفحم الى "صندوق النار المشتعل"، الذي كان يولد الطاقة للمحرك البخاري للقطار.
كان وقت عمله 16 ساعة في اليوم، ويقوم بتجريف حوالي طنين من الفحم يومياً، ولم يكن التعب البدني فقط هو أسوأ ما في هذه الوظيفة، لكن غبار الفحم والدخان، دون أدوات حماية مناسبة، يؤثر على الصحة بشكل كبير، بالإضافة لحوادث انفجار تلك المحركات التي كانت تحدث بشكل متكرر.
ولم يكن بقية عمال السكك الحديد في ذلك الوقت أكثر حظاً، كان عمال بعض الوظائف مثل "عمال التبديل" أو "عمال الفرامل"، يخاطرون بحياتهم.
فكان عليهم العمل على مسارات السكك بجوار القطارات المتحركة، وتغيير مسارات السكك يدوياً، قبل وصول القطار، ثم التسلق مرة ثانية للقطار المتحرك، وكان بعضهم يتعرض للسقوط أو الدهس، وكل هؤلاء كانوا يعملون مقابل أجور زهيدة.
أما "الحمالون" المسؤولون عن نقل الأمتعة، فكان أغلبهم من السود، ولم يكونوا يحصلوا على أي راتب، ولكن يعتمدون فقط على إكراميات المسافرين من الأغنياء.
كل ذلك ولَّد قناعة لدى يوجين دبس، أن على أحد ما، أن يتصدى لهذه الظروف القاسية وتحسين أوضاع العمال، وجمعهم في نقابة تمثلهم وتدافع عن حقوقهم.
يوجين دبس وتأسيس واحدة من أولى النقابات العمالية في أمريكا
شعر دبس أن عليه تطوير نفسه أكثر والحصول على شهادة، فقرر الالتحاق بدروس ليلية في كلية أعمال محلية، وبناءً على إصرار والدته، تخلّى عن وظيفته في السكك الحديدية وذهب للعمل في شركة البقالة بالجملة، لكنه لم ينس زملاءه ومعاناتهم.
وفي 1875 أصبح عضواً في جمعية محلية لعمال محركات القاطرات، وتم انتخابه رئيساً للجمعية، واستخدم راتبه لمساعدة تلك الجمعية وأدار عملها ليلاً. في وقت لاحق من نفس العام أصبح رئيساً للنادي الغربي الأدبي في المدينة. وكان هذا النادي يضم شخصيات مشهورة في أمريكا، من المحامين والكتاب والسياسين.
بعد محاولات عديدة لتوحيد عمال السكك بمختلف وظائفهم في نقابة واحدة، أصبح "يوجين دبس" في عام 1893 رئيساً لاتحاد السكك الحديدية الأمريكية، ونجح دبس في توحيد عمال السكك الحديدية من مختلف المهن في أول نقابة صناعية في أمريكا.
اكتسبت نقابة دبس شهرة وطنية عندما نظمت إضراباً ناجحاً من أجل زيادة الأجور ضد شركة السكك الحديدية الشمالية الكبرى عام 1894.وبعد 18 يوماً، نفذت شركة السكة الحديد مطالب النقابة. وفي نهاية المطاف أصبح الإضراب يُعرف باسم "تمرد دبس".
واكتسب يوجين دبس شهرة أكبر عندما حُكم عليه بالسجن 6 أشهر عام 1895، لدوره في قيادة إضراب شركة "شيكاغو بولمان بالاس" للسيارات.
من السجن إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية
خلال فترة سجنه، تأثر دبس بشدة بقراءته الواسعة بما في ذلك أعمال كارل ماركس، وازداد انتقاده للمفاهيم السياسية والاقتصادية التقليدية، خاصة الرأسمالية، كما رأى الحركة العمالية على أنها صراع بين الطبقات، وبعد خروجه من السجن قام بحملة لجمع الأصوات لصالح المرشح الرئاسي الديمقراطي ويليام بريان في عام 1896.
وبعد خسارة "ويليام بريان" أمام "ويليام ماكينلي"، الذي أصبح الرئيس الخامس والعشرين للولايات المتحدة، بفضل الدعم الكبير من رجال الأعمال وتمويلهم لحملته الانتخابية.
فقد دبس إيمانه بفكرة نظام الحزبين في أمريكا، وفي 1897، أعلن يوجين دبس عن نفسه اشتراكياً. وكتب: "لقد أقنعت نتيجة الانتخابات كل عامل ذكي، أنه في السياسة، لا أمل في التحرر من لعنة عبودية الأجور المهينة، أنا مع الاشتراكية لأنني من أجل الإنسانية، ولا يشكل المال أي أساس سليم للحضارة".
أسَّس دبس الحزب الاشتراكي الأمريكي. وقرر الترشح بنفسه في الانتخابات الأمريكية الرئاسية، في المرة الأولى عام 1900، حصل يوجين دبس على ما يقرب من 96 ألف صوت في انتخابات ذلك العام وهو ما يعادل 0.6% من الأصوات.
لكنه لم يستسلم وترشح مرة ثانية عام 1904 وحصل على 400 ألف صوت، وهو ما يعادل 3.0% من مجموع الأصوات.
في عام 1908، قام بحملته الانتخابية للمرة الثالثة وسافر على متن قطار في 33 ولاية، وحصل على نسبة مشابهة للمرة السابقة، وفي عام 1912 حاول للمرة الرابعة ومثل كل مرة لم يستطع جمع الأصوات الكافية لمنافسة مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
الحرب العالمية الأولى وترشح يوجين دبس للانتخابات من داخل السجن
عام 1917 أعلنت الولايات المتحدة دخول الحرب العالمية الأولى، ومنذ البداية عارض يوجين دبس مشاركة أمريكا في تلك الحرب، وفي عام 1918 ألقى دبس خطاباً مناهضاً للحرب ودعا الجميع الى عدم الالتحاق بالجيش ورفض التجنيد.
بسبب هذا الخطاب، تم القبض عليه وإدانته بموجب قانون "التجسس وقت الحرب"، وحكم عليه بالسجن 10 سنوات، لكن في عام 1920 قرر يوجين دبس الترشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية من داخل السجن أمام المرشح الجمهوري، وارن جي هاردينغ.
وهذه المرة حصل دبس على ما يقارب من مليون صوت، وبالطبع لم تكن تلك الأصوات كافية لحصوله على منصب الرئيس.
لكنه حصل على احترام ومحبة الجميع لمواقفه الإنسانية، وعمله من أجل مصلحة العمال والفقراء، وفي يوم عيد الميلاد عام 1921، حصل دبس على عفو رئاسي من الرئيس هاردينغ وحصل على إطلاق سراح مبكر.عاد دبس إلى منزله وحظي بترحيب هائل من قبل آلاف الاشخاص، وأمضى أيامه المتبقية في محاولة استعادة صحته التي تضررت بشدة بسبب السجن. وألقى العديد من الخطب وكتب العديد من المقالات.
في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1926، توفي يوجين دبس في المستشفى. وأصبحت إصلاحاته العديدة في نقابات العمال، جزءاً من النظام الأمريكي للأبد.