يُمكن القول إن سيرة حياة الأمريكي تيد كازينسكي، المعروف بلقب "المُفجّر" (The Unabomber)، تُعتبر واحدة من أغرب القصص على الإطلاق.
فنحن أمام شخصٍ عبقري، كان معجزة في الرياضيات، دخل الجامعة وهو في الـ16 من عمره فقط. حصل على شهادة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة ميشيغان، وعمِلَ لاحقاً كأستاذ رياضيات في الجامعة، قبل أن يتحوّل إلى قاتلٍ متسلسل.
أرعبَ تيد كازينسكي الولايات المتحدة لسنوات، من خلال تفجيراتٍ وجرائم كان يرتكبها على طريقة "الذئب المنفرد"، ويُرسل من بعدها رسائل إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) تتضمن ألغازاً ورموزاً يصعب حلّها.
استمرّ الرعب الذي بدأه مفجّر الجامعات والطائرات طيلة 17 عاماً، ومهمة القبض عليه شكّلت واحدة من أكبر وأصعب المطاردات في تاريخ مكتب التحقيقات الفيدرالي. لكن، ما الذي دفع الطفل المعجزة إلى القتل ونشر الخوف بين الأمريكيين؟
دخل جامعة هارفرد في سنّ الـ16.. الطفل المعجزة تيد كازينسكي
وُلد ثيودور جون كازينسكي يوم 22 مايو/أيار 1942 بمدينة شيكاغو في ولاية إلينوي الأمريكية، من والدَين بسيطين أصولهما بولندية.
ووفقاً للموسوعة العالمية Encyclopedia، فإنّ علامات الذكاء الخارق بدأت تظهر لدى ثيودور في المرحلة الابتدائية من دراسته. فعندما كان في السنة الدراسية الخامسة، أجرى اختبار تقييم الذكاء وكانت النتيجة عالية جداً، ما دفع إدارة المدرسة لإعفائه من السنة السادسة.
فوجد الطفل ثيودور نفسه يدرس رفقة فتيانٍ يكبرونه بسنوات، يتنمّرون عليه وعلى ذكائه، فيشتمونه ويصفونه بأبشع العبارات.. الأمر الذي أدى إلى شعور تيد بأنه منبوذ اجتماعياً، وأثر لاحقاً على شخصيته، بحيث بات يعيش حياةٍ أشبه بالعزلة.
كان تيد كازينسكي يميل أكثر إلى دراسة الرياضيات، التي برَع بها إلى درجة قبوله بجامعة هارفارد في سن الـ16 من عمره فقط، والتي تخرّج منها في العام 1962؛ قبل أن يواصل دراساته العليا في الرياضيات بجامعة ميشيغان، التي منحته شهادة الدكتوراه في العام 1967، ليعمل من بعدها أستاذاً مساعداً في جامعة بيركلي بكاليفورنيا.
وبحسب الموسوعة البريطانية Britannica، لم يكن تيد شخصاً اجتماعياً، وقد أظهر ازدراءً واضحاً للتكنولوجيا- لما كان يعمل بجامعة بيركلي- ولكلّ مظاهر الحياة الحديثة التي تسيطر عليها الرأسمالية، قبل أن يستقيل من منصبه عام 1969.
قضى السنتين التاليتين مُتنقلاً من مدينةٍ إلى أخرى، قبل أن يشتري- مع شقيقه ديفيد- قطعة أرضٍ بالقرب من مدينة لينكولن في ولاية مونتانا عام 1971، حيث قضى معظم السنوات الأربع والعشرين التالية من حياته.
عاش بكوخٍ صغير من دون كهرباء ولا ماء
بنى تيد كازينسكي في تلك الأرض كوخاً صغيراً، وعاش به حياةً بدائية جداً، من دون جهاز تدفئة ولا كهرباء أو مياهٍ جارية، وقضى معظم وقته في قراءة الكتب التي كان يحصل عليها من المكتبة المحلية.
وفي تلك الفترة أيضاً، شرع في تأليف النسخ الأولى من مخطوطةٍ، نُشرت فيما بعد سنة 1995 تحت اسم Unabomber Manifesto -وهي عبارة عن مقالٍ طويل من 35 ألف كلمة- أراد من خلالها كازينسكي توضيح أنّ الثورة الصناعية قد باشرت عملية تدمير الحياة الطبيعية، بسبب التكنولوجيا، وقد أجبرت البشر على التكيّف مع الآلات، وخلقت نظاماً اجتماعياً وسياسياً يقمع حرية الإنسان وإمكانياته.
وفي سنة 1978، اقتنع تيد كازينسكي بالعمل في مصنع شقيقه ديفيد بشيكاغو؛ وفي تلك السنة، بدأ يُرسل سلسلة طرودٍ بريدية ملغومة. وعلى الرغم من الطريقة البدائية التي استُخدمت في صناعة القنبلة الأولى، والتي كانت موجّهة إلى أستاذ هندسة بجامعة "نورث وسترن" في إلينوي (يُدعى بيكلي كريست)، إلا أنها انفجرت وأصابت شرطياً.
جرت الحادثة يوم 25 مايو/أيار 1978، بعدما توجّس الأستاذ كريست من الطرد البريدي واستدعى الشرطة المكلّفة بأمن الجامعة، فقام الشرطي تيري ماركر بفتح الطرد في موقف سيارات الجامعة، حين انفجرت القنبلة بيده اليسرى مسبّبةً له جروحاً خفيفة فقط.
لكن تلك الحادثة كانت بدايةً لسلسلةٍ من 16 عملية تفجير، بطرودٍ بريدية، أدّت إلى وفاة 3 أشخاص وجرح 23 آخرين.
عاد ثيودور كازينسكي بعد عمليته الأولى للعيش بكوخه الصغير، وتفرّغ لصنع قنابل أكثر تطوّراً. فكان هدفه الثاني طائرة تابعة لشركة American Airlines، حيث وضع في سنة 1979 قنبلةً في عنبر الشحن لإحدى رحلات الشركة، لكنها لم تنفجر بسبب آلية توقيتٍ خاطئة.
في الفترة نفسها، أرسل كازينسكي طرداً بريدياً ملغوماً إلى رئيس شركة United Airlines، تعرّض على إثره لإصاباتٍ جاءت طفيفة.
وشهد شهر ديسمبر/كانون الأول 1985، أول حالة وفاة بسبب عمليات تيد كازينسكي؛ عندما انفجر طردٌ ملغوم أمام متجرٍ لبيع أدوات الإعلام الآلي، فأُصيب صاحب المتجر وتوفي متأثراً بجراحه.
وعرفت العشرية التالية لحادثة الوفاة الأولى، وقوع حالتَي وفاة وبعض الجرحى نتيجة تفجيرات تيد كازينسكي الذي لم يكن يترك أي دليلٍ من شأنه أن يقود المباحث الفيدرالية للتعرّف إلى هويته الحقيقية، حتى ربيع سنة 1995 الذي شهد حدثاً هاماً كان حاسماً في فكّ لغز قضية The Unabomber، التي حيّرت الولايات المتحدة الأمريكية لقرابة 17 عاماً.
شقيقه وشى به بعد مقال"واشنطن بوست"!
في شهر أبريل/نيسان 1995، وصلت إلى إدارة صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية رسالةً من شخصٍ يدّ عي أنه الـUnabomber (المُفجّر)، عرض من خلالها وضع حداً لسلسلة تفجيراته، شرط أن تقوم الصحيفة أو أي صحيفة أخرى كبيرة بنشر مخطوطته (الـManifesto) التي تتحدثت عن معارضة التكنولوجيا.
وبالفعل، نُشرت مخطوطة تيد كازينسكي على شكلِ مقالٍ طويلٍ بعنوان "المجتمع الصناعي ومستقبله"؛ ولكن في جريدة "واشنطن بوست"، بالاتفاق مع "نيويورك تايمز"، وبإيعازٍ من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) على أمل أن يتعرّف أحد القراء على كاتبه. وبالفعل هذا ما حصل.
من خلال تقريرٍ نشره عبر موقعه الرسمي، تحدث مكتب التحقيقات الفيدرالي عن قصة تلك الرسالة التي قادت إلى اعتقال كازينسكي، فجاء في مقدّمة التقرير: "كيف تُلقي القبض على عبقريٍّ ملتوٍ يطمح إلى أن يكون القاتل المثالي المجهول، الذي يصنع قنابل لا يمكن تعقّبها ويسلّمها إلى أهدافٍ عشوائية، والذي يترك أدلة كاذبة لتضييع السلطات، الذي يعيش شبه منعزلٍ في جبال مونتانا ولا يتحدث إلى أي أحدٍ عن جرائمه السرية"؟
وتابع التقرير: "كان هذا هو التحدي الذي واجهه مكتب التحقيقات الفيدرالي وشركاؤه الاستقصائيون، الذين أمضوا ما يقرب من عقدين من الزمن في تعقب هذا الذئب المنفرد المُفجّر".
وعادة ما يُستعمل مصطلح "الذئب المنفرد" للحديث عن إرهابي أو مجرم خطير يرتكب أعمال عنف في دعم مجموعة، حركة أو أيديولوجيا، والتي يرتكبها بمفرده، خارج هيكل القيادة ودون مساعدة مادية من أي مجموعة. وفي حالة ثيودور كازينسكي فإنّه كان يدافع عن أيديولوجية معارضة ومحاربة التكنولوجيا.
وجاء في ذات التقرير لمكتب التحقيقات الأمريكي: "الرجل الذي سيعرفه العالم أخيراً باسم تيد كازينسكي لفت انتباهنا في عام 1978 عند انفجار أول قنبلة تقليدية الصنع، في جامعة شيكاغو. وعلى مدى السنوات الـ17 التالية، أرسل بالبريد أو سلّم شخصياً، بشكلٍ متزايدٍ، سلسلة من القنابل المتطورة والتي قتلت ثلاثة أمريكيين وجرحت ما يقرب من 24 آخرين. زارعاً الخوف والذعر، حتى إنه هدد بتفجير طائرات أثناء طيرانها".
وتابع تقرير الـFBI: "حدث المخرج الكبير في القضية عام 1995، لما أرسل المُفجّر مقالاً يحتوي على 35 ألف كلمة يدّعي فيه شرح دوافعه وآرائه حول العلل في المجتمع الحديث. وبعد الكثير من الجدل حول ما إذا كان من الحكمة الاستسلام للإرهابيين، وافق مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي لويس فريه والمدّعي العام جانيت رينو على توصية فريق العمل بنشر المقال، على أمل أن يتمكن القارئ من التعرّف على المؤلف".
وبعد نشر المقال على شكل ملحق بـ8 صفحات في جريدة "واشنطن بوست" يوم 19 سبتمبر/أيلول 1995، تلقت الصحيفة الشهيرة الآلاف من الاتصالات لاقتراح أسماء مشتبه بهم في القيام بتلك الجرائم المتسلسلة. لكن اسماً واحداً برز من بين المتصلين، ويُدعى ديفيد كازينسكي، الذي أشار إلى أنه تعرف في ذلك المقال إلى بعض أفكار شقيقه تيودور، مُلمّحاً إلى احتمال أن يكون الأخير هو المُفجّر.
وبالفعل، قادت تلك "الوشاية" المحققين إلى كوخ تيد كازينسكي في مونتانا، حيث ألقوا القبض على المتهم يوم 3 أبريل/نيسان 1996، بعد مراقبةٍ دقيقة.
وقد عثروا بمسكنه على "جبلٍ" من الأدلة، التي تربط الرجل بسلسلة الهجمات بالطرود الملغومة، مثل قطعٍ من القنابل وقصاصات من الجرائد تُحدد الأشخاص والأماكن المستهدفة، إضافةً إلى مسودات لمخطوطته التي نشرها في "واشنطن بوست".
حوكم ثيودور كازينسكي في ولايتَي كاليفورنيا ونيوجيرسي، التي شهدت تفجيراته الثلاثة المميتة؛ وفي 22 يناير/كانون الثاني 1998، أقرّ بأنه مذنب في التهم الموجهة إليه بعد جلساتٍ طويلة ومُضنية من التحقيق معه، أتعبَ خلالها مكتب التحقيقات الفيدرالي وحدّد في أكثر من جلسةٍ شروطاً استثنائية.
كما رفض تيد كازينسكي (The Unabomber) مرافعة هيئة الدفاع التي تحدثت عن إصابته بمرض الفصام، وهو اضطراب عقلي مزمن وشديد يؤثر في طريقة تفكير الشخص وشعوره وسلوكه، كما قد يسمع المصاب به أصواتاً غير موجودة، أو قد يعتقد أن آخرين يحاولون إيذاءه.
ويوم 15 مايو/أيار 1998، صدر الحكم على ثيودور كازينسكي بعقوبة السجن مدى الحياة من دون إمكانية الإفراج المشروط، حيث لا يزال مسجوناً إلى غاية كتابة هذه الأسطر.