يعتبر فريتز هابر- بلا شك- واحداً من أعظم الكيميائيين في التاريخ بعد أن أنقذ عمله حياة مليارات الأشخاص، وفي الوقت نفسه كان له جانب مظلم واختراعات تسببت بموت أكثر من مئة ألف شخص ولا تزال تحصد الأرواح لغاية اليوم.
أثارت أعماله وأفعاله المديح حتى نال جائزة نوبل، ولاقت أعماله الأخرى انتقادات من أقرانه والجمهور، ومن بين هؤلاء النقاد كانت زوجته التي عارضت تصرفاته وأدت بالتالي إلى انتحارها.
فريتز هابر منقذ البشرية
نشأ فريتز هابر، المولود بألمانيا عام 1868، في عالم كان عدد سكانه ينمو بسرعة، وتؤدي الحاجة المتزايدة للغذاء إلى زيادة الطلب على الزراعة، وكان نمو الزراعة في ذلك الوقت لايزال بدائياً نوعاً ما، لأنه كان يعتمد بشكل كبير على الأسمدة العضوية التي توفر النيتروجين في التربة.
وتم استخراج معظم السماد في هذا الوقت من فضلات الطيور أو الحيوانات، وكان مصدراً محدوداً للغاية، يكاد لا يغطي الكمية اللازمة لتغطية الإنتاج الزراعي اللازم لإطعام العدد المتزايد من البشر، وأدرك كثير من الأشخاص المشكلة التي كانت تواجه العالم، إذ كانت هذه التقنيات لا يمكن توسيع نطاقها لإنتاج مزيد من المحاصيل.
وبدون حل مشكلة النيتروجين، كان العالم سيواجه المجاعات الشديدة، وعلى الرغم من أن النيتروجين يشكل نحو 78% من الغلاف الجوي، فإنه عنصر مستقر للغاية وليس عرضة للتفاعل مع العناصر الأخرى، لذلك لم يكن هذا بالأمر الهين.
وجاء الحل على يد فريتز هابر في عام 1909، ابتكر عملية هابر، التي عُرفت لاحقاً باسم "عملية هابر بوش" لصنع الأمونيا، وهي مكون رئيسي في الأسمدة، ومركب من النيتروجين والهيدروجين بطريقة صناعية.
وحصل هابر على جائزة نوبل عام 1918 عن هذا الاكتشاف، واليوم لا تزال عملية "هابر بوش" مستخدمة على نطاق واسع في إنتاج الأمونيا، وتستخدم الأسمدة المنتجة بهذه التقنية في إنتاج الغذاء لمليارات البشر. وفقاً للإحصاءات، يدين خُمسا الأشخاص الذين يعيشون اليوم بحياتهم لاختراع هابر.
فريتز هابر أبو الأسلحة الكيميائية
إذا كان إرث هابر لغاية هذه النقطة هو المساعدة في إطعام العالم، فإن ما فعله بعد ذلك أسوأ ما يمكن لعالِم أن يفعله، وهو تسخير علمه لفناء البشرية بدلاً من خدمتها.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، دعم هابر بحماسةٍ القضية الألمانية، وكان واحداً من 93 أكاديمياً وقّعوا وثيقة تسمى "بيان الثلاثة والتسعين"، الذين أدانوا أعداء ألمانيا ووقفوا وراء جهودها للانتصار في الحرب.
التحق هابر بالجيش وتمت ترقيته إلى رتبة نقيب، ثم عُين رئيساً لقسم الكيمياء في وزارة الحرب، كان هابر هو المسؤول تقريباً عن إنتاج واستخدام الأسلحة الكيميائية في الحرب، ولم يأخذ فقط وظيفة إدارية جالساً خلف مكتب، يطور خططاً لأسلحة جديدة، بل تطوع وتولى دوراً نشطاً جداً على الخطوط الأمامية للجبهة.
وضع فريتز هابر عقله ومختبره في خدمة هدف واحد: تحويل غاز الكلور إلى سلاح. وفي إحدى التجارب تسبب الغاز في "مقتل عدة جنود ألمان"، لكن ذلك لم يوقف هابر على الرغم من أن الجنرالات والضباط، وهم الأشخاص الذين كانت وظيفتهم اليومية هي قتل الناس، كانوا مترددين في استخدام هذا السلاح المدمر.
كتب جنرال المشاة "برتولد فون ديملينج" عن خطة اختبار سلاح هابر الجديد: "كُشف لنا أن سلاحاً جديداً (غازاً ساماً) كان سيستخدم، وأن منطقة فيلقي قد تم اختيارها في المحاولة الأولى.
سيتم تسليم الغاز السام في أسطوانات فولاذية، سيتم وضعها في الخنادق وفتحها عندما تكون الرياح مواتية، يجب أن أعترف بأن خطة تسميم العدو، تماماً كما لو أنه تسميم فئران، صدمتني بشكل مباشر، كان الأمر مثيراً للاشمئزاز بالنسبة لي".
في معركة إيبرس في 22 أبريل/نيسان 1915، قاد هابر بنفسه أول استخدام للأسلحة الكيميائية في الحرب، حتى إنه ذهب إلى خط الجبهة في إيبرس ودخن السيجار وهو يرتدي زيه العسكري بينما كان ينتظر أول هجمات بغاز الكلور على قوات الحلفاء.
أطلق الألمان 171 طناً من غاز الكلور على طول جبهة بطول 6.5 كيلومتر، عندما كانت الريح مناسبة لتوجيه الغاز نحو العدو، أطلقوا ذلك الغاز السام، وفي غضون دقائق اختنق نحو 10000 جندي بشكل مروع، وبعد بضع دقائق لقوا حتفهم جميعاً.
ووصف الرقيب "إلمر كوتون"، وهو جندي كندي تعرض للغاز في إيبرس ونجا، الهجوم بأنه "موت يعادل الغرق على اليابسة، والتأثيرات الرهيبة لذلك الغاز من صداع مؤلم للغاية وعطش رهيب كان معه شرب الماء موتاً فورياً.
وسكّين من الألم في الرئتين وسعال زبد مخضر من المعدة والرئتين، وينتهي أخيراً بانعدام الإحساس والموت. إنه موت شيطاني أن يموت الإنسان بهذه الطريقة".
وبعد يومين، هاجم الألمان المواقع الكندية بجرعة أخرى من الكلور، وأعقبوا ذلك بقصف مكثف، أدى هذا الهجوم إلى سقوط ما يقرب من 1000 قتيل.
انتحار زوجة فريتز هابر بسبب أعماله
قبل هذا الهجوم وحين كان هابر لا يزال ذلك الكيميائي الذي يسعى لخير البشرية، تزوج في عام 1901، الكيميائية اللامعة "كلارا إمروهار"، وهي أول امرأة تحصل على درجة الدكتوراه من جامعة بريسلاو.
ولم يمضِ وقت طويل حتى تراجعت "كلارا" عن المجال العلمي وتفرغت لكونها ربة منزل، وبعد ولادة ابنهما في عام 1902 تفرغت لرعاية ابنهما، ولكنها بقيت تتعاون مع زوجها في الأبحاث العملية، وبقيت أكبر داعم له، لكن كل شيء تغير عندما ارتدى زوجها الزي العسكري وأصبح حلمه قتل "الأعداء".
أدانت "كلارا" عمل زوجها في مجال الأسلحة الكيميائية باعتباره "تحريفاً لمُثُل العلم" و"علامة على البربرية، مما يفسد النظام ذاته الذي يجب أن يجلب رؤى جديدة إلى الحياة"، وناشدته علانية إنهاء تجاربه في الحرب الكيميائية، وعانى زواجهما أكثر عندما سافر هابر مراراً وتكراراً.
وبعد أن وصلت إليها أخبار ما قام به زوجها على الجبهة، تجولت "كلارا" في الحديقة بمسدس زوجها العسكري، ثم وجهت الفوهة إلى قلبها وضغطت على الزناد، مما أدى إلى مقتلها.
نهاية هابر المأساوية
على الرغم من جهود هابر وسلاحه المدمر خسرت ألمانيا الحرب، وكانت حياة هابر ما بعد الحرب سيئة للغاية بعد شعوره بالذنب عن وفاة زوجته، وكان يائساً من الهزيمة الألمانية، وشعر بالمسؤولية عن ديون الحرب الألمانية المنهكة، وكان الأمر على وشك أن يصبح أكثر سوءاً.
مع صعود هتلر إلى السلطة، هاجم النازيون هابر، لأنه كان من أصل يهودي على الرغم من أنه كان سابقاً تحول إلى المسيحية.
استقال هابر وهرب من ألمانيا إلى إنجلترا، لكن المجتمع العلمي هناك نبذه بسبب عمله في الأسلحة الكيميائية، فقرر السفر إلى أوروبا؛ بحثاً بلا جدوى عن مكان يؤويه، ثم عانى من قصور في القلب.
وفي أحد فنادق سويسرا عام 1934، وافته المنية بعد ذلك بوقت قصير عن عمر يناهز 65 عاماً، تاركاً خلفه إرثاً مثيراً للجدل ما بين تسميته مُنقذ البشرية، ومخترع الأسلحة الكيميائية والغازات السامة التي قتلت حتى اليوم أكثر من 100 ألف إنسان.