يلتزم الجنود في الحرب بالأوامر وفقط، هم مجرّد أدوات لتنفيذ وتحقيق خُطط القادة والزعماء، لكنّ هذه القاعدة قد تتغيّر وتتبدّل أحياناً تحت وطأة الحرب التي لا ترحم، والتي تنزع الإنسانية من الجنود رويداً رويداً. وهذا ما حدث في الحرب العالمية الأولى، فيما أصبح يعرف لاحقاً "هدنة عيد الميلاد".
بعدما بدأت الحرب العالمية الأولى بحوالي أربعة أشهر، كان الجميع قد وصل إلى مرحلةٍ يائسة ومُحبطة، فالحرب لم يكن مقرراً لها أن تستمرّ كلّ هذه الشهور، لقد ظنّ الجميع أنّها سرعان ما ستنتهي في أيام أو عدَّة أسابيع.
ها هي الحرب العالمية الأولى تدخل شهرها الرابع، ووصل ضحاياها مليوناً من الجنود. والجنود المتبقّون منهكون وضجرون، فالحرب قد طال أمدها أكثر من اللازم، وهم في شوقٍ إلى أسرهم وعائلاتهم، وعلى الجانب الآخر لم يحقِّق أي من الأطراف انتصاراً كبيراً يُنذر بانتهاء الحرب التي تضجر منها الجميع، ولم يكن أحدٌ يعلم أنّ الحرب العالمية الأولى ستطول وتطول أكثر لثلاث سنوات ونصف السنة.
الحرب العالمية الأولى عالقة بعد 4 أشهر من المعارك
فقد علقت القوات الألمانية في مواجهة قوات الحلفاء في حرب خنادق على الجبهة الغربية في أوروبا، بعدما توقَّف الهجوم الألماني الكاسح على فرنسا وبلجيكا. شيَّدت القوات على كلا الجانبين المتحاربين خنادق متطورة للهروب من نيران المدفعية القاتلة والبنادق الآلية في الحرب العالمية الأولى.
أنذرت حرب الخنادق تلك، أو ما تعرف أيضاً باسم حرب الاستنزاف، التي تطورت في الأشهر الأخيرة من عام 1914، بالسنوات الثلاث التالية من المحاولات المكلفة وغير المجدية من جانب الحلفاء وقوى المركز لكسر الجمود وتصفية قوات العدو.
استعدّ الجنود من كلا الجانبين لملاقاة العدو في يوم عيد الميلاد، لكن بدلاً من ملاقاة العدو بالحِراب والرصاص والمدافع أحضروا السجائر وكرات القدم.
في يوم 24 ديسمبر/كانون الأول عام 1914، نصب الجنود الألمان أشجاراً للاحتفال بعيد الميلاد فوق متاريس الخنادق، وفي عدّة أماكن على امتداد جبهتهم، وهكذا بدأ الأمر، رغم أنّ هناك روايات أخرى عن كيف بدأ الاحتفال بين الجنود.
فهناك رواية تقول إنّ أحد الجنود الألمان بدأ يغنِّي، وخرج بعض أفراد من زملائه من خنادقهم حاملين السجائر وبعض التذكارات والهدايا لأعدائهم الفرنسيين والبريطانيين.
وقد وصف أحد جنود قوات الحلفاء ما حدث قائلاً: "لقد كان عشية عيد الميلاد، كان هناك ضوء قمر أبيض جميل وصقيع على الأرض تقريباً في كل مكان، وفي حوالي الساعة السابعة أو الثامنة مساءً سمعنا أصوات غناء وكثيراً من الضجة، وظهرت أضواء مفاجئة على طول الخندق الألماني، ثم بدأ الجنود الألمان يغنون ترنيمة "Stille nacht، heilige nacht".
وهكذا استيقظ الجندي واستيقظ كل الجنود النائمين، يكمل الجندي قائلاً "أنهى الجنود الألمان ترنيمتهم وصفقنا لهم، ثم اعتقدنا أنَّه يجب علينا الرد عليهم بطريقةٍ ما، لذا بدأنا غناء ترنيمة "The First Noel"، سمعنا تصفيقهم لنا عندما انتهينا، ثم بدأوا غناء ترنيمة أخرى".
وهكذا أكمل الجنود الاحتفال بغناء ترانيم عيد الميلاد، يغني الألمان أولاً إحدى ترانيمهم ثم يرد عليهم أعداؤهم بغناء واحدةٍ أخرى من ترانيمهم، ثم فجأةً تركوا الأحداث تتطوّر وحدها، فقد وجدوا أنفسهم فجأةً يتشاركون غناء نشيد عيد الميلاد الشهير "أديست فيديليس".
تجرّأ البعض بعد فترة وجيزةٍ بالذهاب عبر "المنطقة المُحرمة" بتعبير الجنديّ، وهي المنطقة الواقعة بين خنادق الطرفين المتحاربين.
جندي آخر من قوات الحلفاء اسمه فريدريك جيمس ديفيز، كتب واصفاً لقاءه بجنود العدو عبر المنطقة المحرمة، في 25 ديسمبر/كانون الأول 1914: "كان الجنود الألمان على بعد 50 ياردة فقط من خنادقنا، لقد جاءوا إلينا وخرجنا لمقابلتهم، تصافحنا وقدّمنا إليهم السجائر والمربى واللحم المحفوظ المُعلّب، من جانبهم قدّموا إلينا السجائر أيضاً، لكن لم يكن لديهم الكثير من الطعام، لقد بدا واضحاً أنَّ الألمان قد سئموا هذه الحرب".
بينما رواية أخرى تقول إنّ الأمر بدأ أساساً من الجبهة البريطانية، حين بدأ أحد الجنود البريطانيين بالغناء، وعندما انتهى طلب الجنود الألمان على الجبهة الأخرى منه أن يعيد الغناء. وهنا بدا الجميع متحمساً للاحتفال بعيد الميلاد بعيداً عن الحرب، فخرج جندي ألماني دون سلاح، فقابله بريطاني آخر دون سلاح، وهكذا خرجت أفواج من الجنود للقاء أعدائهم للاحتفال معهم بعيد الميلاد، على امتداد الجبهة.
كانت أوامر القادة من كلا الجانبين هي تجنُّب الاقتراب من عساكر العدو في ليلة عيد الميلاد، لكنّ الضجر والحنين للاحتفال وتخطِّي البؤس هزم أوامر القادة. ويذكر المؤرخ "ستانلي واينتراوب" مؤلف كتاب "الليلة الصامتة"، أن بداية الهدنة عندما تجاهل الجنود أوامر قادتهم بعدم الاقتراب من عساكر العدو، وبعد أن تبادل الطرفان هتافات مثل "كفوا عنا نيرانكم، نكف عنكم نيراننا"، أنشدوا ترانيم عيد الميلاد مع بعضهم البعض، وخرجوا بعدها من الخنادق وتصافحوا بالأيدي.
هدنة عيد الميلاد.. هل لعب الجنود كرة القدم؟!
عُرفت هذه الهدنة غير الرسمية، والتي حدثت على عكس أوامر القادة باسم "هدنة عيد الميلاد". كما أصبحت لاحقاً ذكراها شيئاً أسطورياً، وباتت ذكراها مُخلّدة في الخيال الشعبي، باعتبارها رمزاً أيقونياً لانتصار المشاعر الإنسانية المشتركة على خطط سفك الدماء في خضم حرب شعواء لا معنى لها.
ومع ذلك، هناك العديد من الأساطير التي تكتنف القصص حول هذه الهدنة، أساطير يبدو أنّها تكوّنت من الشائعات وأنصاف الحقائق والتصورات الخاطئة.
في الحقيقة لا تشير هدنة عيد الميلاد إلى هدنةٍ واحدة بعينها، بل إلى سلسلة من الهدنات المستقلة غير الرسمية على الجبهة الغربية للحرب. فقد حدثت نفس الهدنة بشكلٍ مختلف عام 1915، وفي أوقات متفرقة من الحرب العالمية الأولى.
ورغم أنَّ الوضع في معظم الجبهة الغربية ظلّت تسوده المعارك العنيفة، فقد ورد بالفعل أنَّ 100 ألف جندي شاركوا في هدناتٍ غير رسمية، كان المبرر المنطقي المُعلن للعديد من هذه الهدنات هو إعطاء فرصة لدفن الموتى من كلا الجانبين. حدثت مثل هذه الهدنات طوال فترة الحرب العالمية الأولى، حيث ألقى المقاتلون أسلحتهم للتآخي وقضاء فترة ودية مع نظرائهم من الأعداء ودفن موتاهم.
لكن خلافاً للاعتقاد السائد، ورغم وجود صور للجنود وهم يلعبون كرة قدم، إلا أنّ البعض يعتقد أنّه لا توجد أي أدلة موثوقة تشير إلى حدوث أي مباراة لكرة القدم بين الجنود الألمان والبريطانيين في يوم عيد الميلاد عام 1914. وهي أبرز هذه الأساطير حول هدنة عيد الميلاد. لكنّ عدم وجود أدلة موثوقة عليها لا يعني نفي حدوثها، ولكن يعني أيضاً عدم إثبات صحة حدوثها بشكل تام.
كان الجنود البريطانيون يلعبون كرة القدم بالفعل خلف الخطوط الأمامية، إذ كانت رياضة شائعة يمارسها الجنود على كلا الجانبين، ومع ذلك لا يوجد الكثير من الأدلة الموثوقة تشير إلى عقد مباراة وجهاً لوجه بين الجنود الألمان والبريطانيين خلال هذه الهدنة غير الرسمية الأسطورية.
ورغم الإضافات الخيالية والأساطير الكثيرة التي أحيطت بها هدنة عيد الميلاد، فالقصة الحقيقية منها دون شكّ تُمثّل إثباتاً واضحاً ودليلاً على تفوّق الإنسانية، في خضم واحدة من أسوأ ما يمكن للجنس البشري أن يقدمه عبر التاريخ: الحرب العالمية الأولى. ويمكنك للدخول في أجواء هدنة عيد الميلاد مشاهدة فيلم Joyeux Noel.