بدأ المغول رحلتهم الدموية في القرن الثالث عشر، وقد أرعبت جيوشهم الوحشية العالم كلّه حينها، من شرق آسيا في الصين وحتّى الخلافة العباسية في بغداد، وحتّى أخافوا وأرعبوا أوروبا أحياناً، لكنّ المأساة اكتملت في بلاد المسلمين بدخول المغول على يد قائدهم هولاكو إلى العاصمة العباسية بغداد، وقتلهم الخليفة بطريقةٍ مهينة.
الصراع بين المسلمين والمغول بعد عين جالوت
كانت الدولة العباسية ضعيفة منذ عشرات السنين، إن لم يكن من قرون، فقد كان الخليفة العباسي منصباً معنوياً فقط، ولم يكن له من السلطة شيء.
وداخل عباءة الدولة العباسية الفضفاضة تأسّست عدّة دول تتبع اسمياً للخليفة، وتصارعت وتقاتلت بعض هذه الدول أحياناً، ولم يستطع الخليفة التدخل لمنع سفك دماء المسلمين. وجاء الغزو المغولي ليُنهي وضع الخليفة للأبد بقتله هو وولديه، بعد سقوط بغداد عام 1258.
بسقوط بغداد ودخول المغول إلى الشام لم يبقَ أمامهم من بلاد المسلمين سوى مصر، التي كانت حينها تحت حكم دولة المماليك الوليدة، وسلطانها المتولِّي حديثاً قطز، الذي حارب المغول وهزمهم في معركة عين جالوت عام 1260، بعد سنتين فقط من سقوط بغداد.
وقد مثّلت دولة المماليك في مصر، بعد أن ضمّت لها الشام أيضاً، كابوساً لإيلخانات المغول المتعاقبين.
أسّس هولاكو لنفسه دولةً مقرها إيران، تعرف تاريخياً باسم "دولة إيلخانات المغول في فارس"، وهي تتبع اسماً للخان المغوليّ الأكبر، لكنّها لا تتبع له عملياً.
بعد وفاة هولاكو عام 1265 تولّى ابنه أباقا خان العرش من بعده، وقد سار أباقا على نهج والده الدمويّ، وكان أبرز أعدائه اللدودين دولة المماليك في مصر والشام. ويبدو أنّ حلم أباقا الأساسي كان القضاء على هذه الدولة التي هزمت جيوش والده وأوقفت تقدّم المغول نحو الشام ومصر وساحل البحر المتوسط.
استمرّ الصراع طيلة فترة حكم أباقا خان مع المماليك الذين كان يقودهم أبرز سلاطينهم الظاهر بيبرس، ومن بعده استمرّ السلطان المنصور قلاوون في صراعه مع أباقا، وقد هزم كلاهما جيوش المغول في معارك عديدة، أبرزها معركة البيرة (يمكنك القراءة عنها من هنا)، ثمّ معركة حمص الثانية، التي تُسمّى عين جالوت الثانية (يمكنك القراءة عنها من هنا).
يقول ابن الأثير في كتابه الكامل، عن معركة حمص الثانية، إنّ القتال فيها كان عظيماً ولم يُر مثله منذ زمنٍ بعيد، وكان أحد آثارها هو هزيمة قائد الجيش المغولي وأخي أباقا خان "منكوتمر"، فقد أصيب في المعركة وتوفي بعد الهزيمة بوقتٍ قصير.
أمّا أباقا خان فقد انسحب بقواته التي تمركزت قريباً من مقر المعركة، ليتابع سير المعركة، وعاد إلى عاصمته تبريز، وما هي سوى شهورٍ قليلة حتّى توفي بسبب إفراطه في شرب الخمر. ويبدو أنّ الهزيمة التي تلقاها على يد المنصور قلاوون قد جعلت أحلامه بالثأر من معركة عين جالوت تنهار تماماً، وهكذا توفي عام 1282، وهنا بدأ تغير كبير يحصل في الدولة المغولية، مع الصراع الذي دار على عرش أباقا خان.
صعود أحمد تكودار.. الابن السابع لهولاكو
كانت المسيحية منتشرةً بين المغول قبل الإسلام، وحتّى أباقا الذي لم يكن مسيحياً إلا أنّه صاهر الإمبراطور البيزنطي، وقد أرادا لهذا الزواج أن يعضد تحالفهما للقضاء على المسلمين. وعلى استحياءٍ وبدرجةٍ أقلّ بدأ الإسلام ينتشر بين المغول، ومن ضمن من انتشر بينهم كان ابن هولاكو الـ7، الذي أسلم وهو شاب، وسمّى نفسه أحمد تكودار.
وما إن توفي أباقا خان حتّى بدأ الصراع على العرش من بعده، وقد كان الصراع يدور بين الذين أيدوا أن يكون أرغون بن أباقا هو الحاكم من بعده، وبين الذين اعتبروا أنّ قانون جنكيز خان يجعل أكبر الأسرة هو الذي يحكم، وبهذا فمن المفترض أن يصبح أحمد تكودار هو الإيلخان.
اجتمع الأمراء المغول واختاروا أحمد تكودار، سيراً على قانون جنكيز خان، وكان وصول أحمد تكودار للحكم مبشراً للمسلمين، سواء للمسلمين تحت حكم المغول في إيران والعراق، أو المسلمين في دولة المماليك في مصر والشام.
وعلى عكس غيره من الأمراء المغول الذين أعلنوا إسلامهم طمعاً في مكاسب سياسية، اتخذ تكودار خطواتٍ لتوطيد علاقته بالعالم الإسلامي والزعماء المسلمين. فأرسل كتاباً إلى السلطان المنصور قلاوون يخبره بذلك، كما أرسل رسالةً لعلماء بغداد يعلن نفسه فيه "حامياً للدين الإسلامي"، وأمر ببناء المساجد وإقامة الشريعة.
وفي محاولةٍ منه لتوسيع دائرة الإسلام، فقد حاول نشره بين أمراء وطوائف المغول، لكنّه لم ينجح بشكلٍ كبير، لكنّه استطاع أن يُقنع البعض منهم بما بذله من عطايا ومنحٍ وألقاب.
لكنّ الطبقة الحاكمة المتحكّمة في مفاصل الدولة ظلّوا متمسكين بدينهم، كلٌّ على دينه: البوذيّ والشاماني والمسيحي، واستعصوا على دخول الإسلام، ولكن على كلّ حال مثّل وصول أحمد تكودار للعرش باباً جديداً لدخول المغول للإسلام.
وكما ذكرنا سابقاً، فقد أرسل تكودار إلى السلطان قلاوون رسالةً مع وفدٍ على أعلى مستوى، كان الوفد يضمُّ شيخ الإسلام كمال الدين الرافعي، والعالم قطب الدين الشيرازي، وبهاء الدين، أبرز قائد في مملكة السلاجقة الروم التابعة في ذلك الوقت للمغول.
شرح الوفد للسلطان قلاوون أنّ الإيلخان أحمد تكودار قد اعتنق الإسلام، وأنّه يرغب في السلام والصداقة مع دولة المماليك، وأطلعوا السلطان على الخطوات التي اتخدها تكودار لتطبيق الشريعة وحفظ مصالح المسلمين في بلاده، من رعاية شؤون الحجاج والإصلاحات الخاصة بنظام الأوقاف وغير ذلك، وأعلنوا له رغبته في السلام وتوحيد العمل معاً لرفع راية الإسلام.
كما أبلغه هذه النقطة الهامّة: أنّ تكودار قد أوقف قرار القوريلتاي (مجلس شورى المغول) بشنّ حملة كبيرة على بلاد الشام، وهي حملة قرّر أباقا تجهيزها رداً على هزيمته في معركة حمص الثانية.
ردّ السلطان قلاوون برسالة دعم فيها قرارات أحمد تكودار وهنّأه فيها، وشكره على لطفه ومبادرته، لكنّه كان متخوفاً أيضاً، فلم يذهب بالعلاقات إلى أبعد من ذلك، فقد كان يخشى غدر المغول، ولم يكن على ثقة من أنّ بقية الأمراء المغول سيتوافقون مع تكودار في رأيه، خصوصاً أنّ المماليك قد هزموا المغول في معركتين كبيرتين (عين جالوت وحمص الثانية)، وهزموهم في غيرهما من المعارك الأصغر.
وفي الحقيقة، فقد كان الأمير أرغون بن أباقا يطالب بالعرش، وأعلن تمرده على عمّه أحمد تكودار، واستمال كلّ الأمراء والقادة المغول الذين لم يعجبهم التحوُّل المفاجئ في الموقف من المماليك، ومن المسلمين عامةً.
ظلّ الصراع بين تكودار والمخلصين القليلين له وبين أرغون بالأكثرية الداعمة له، حتّى حسم أرغون الصراع، بعدما هزموا تكودار وأزاحوه عن العرش وقتلوه عام 1284، ولم يستمر تكودار إيلخاناً للمغول أكثر من سنتين، وراحت أحلامه ونواياه الطيبة مع مجيء أرغون المتعصّب كأبيه أباقا وجده هولاكو.
كانت فترة حكم أحمد تكودار، وفكرة وصول مسلم إلى سُدّة الحُكم في مملكة المغول في فارس تقدماً كبيراً، وفتح أحمد تكودار بذلك الطريق لمن بعده، فأصبح المغول لاحقاً مسلمين، وإن استغلّ بعض الإيلخانات الإسلام لإحراز انتصاراتٍ عسكرية ومنافسة المماليك، لكنّ الإسلام انتشر بشكلٍ كبير في تلك الدولة بعد أحمد تكودار.