ربما كان ماركو بولو هو الرحَّالة الأشهر في التاريخ الأوروبي، وهو الأب الروحي لكريستوفر كولومبوس المستكشف الرسمي للأمريكتين. وإن كان البعض يعدّه أبرز وأهمّ الرحالة في التاريخ الإنساني، إلا أنّ هذا ليس صحيحاً عندما نضع في الاعتبار الرحالة المسلم ابن بطوطة. ولكن هذا نقاشٌ آخر.
لنتعرّف أولاً على قصة حياة ماركو بولو نفسه، ثمّ نعود لاحقاً لابن بطوطة في النهاية.
من البندقيّة في أقصى الغرب إلى الصين في أقصى الشرق
وُلد ماركو بولو عام 1254 لعائلة تجّار ثرية في مدينة البندقية في إيطاليا، توفيت والدته وهو صغير، وقد عاش الجزء الأكبر من طفولته بعيداً عن والده، بسبب أسفار والده. لكنّه ما إن اشتدّ عوده حتّى سافر مع والده وعمه عام 1271 وهو في السابعة عشرة فقط من عمره، سافر معه إلى الشّرق المثير.
مثّلت كلمة "الشرق" سحراً في الخيال الأوروبي في ذلك الوقت، فقد كان هذا "الشرق" مليئاً بالكنوز، ليس فقط الكنوز الماديّة، بل والروحية أيضاً والفنون والحضارة. فمن هذا الشرق جاءت الحضارة الفارسية القديمة، ومنه جاءت كذلك الحضارة الإسلامية التي دخلت أوروبا عبر الأندلس وجعلتها زهرة العالم الأوروبي. ومنه أيضاً جاء الغزاة المغول الذين كادوا يسيطرون على أوروبا.
كان والد ماركو وعمّه هما نيكولو ومافيو بولو، تاجرَي مجوهرات، وقد مرّا سابقاً بهذه الرحلة إلى الشرق، ويقال إنّهما عاشا فترةً في كنف الخان المغولي قوبلاي خان، حفيد جنكيز خان، الذي تفوّق على جده واستطاع السيطرة على كامل الصين وينقل إليها عاصمة المغول.
للقراءة أكثر حول قوبلاي خان وتجربته المثيرة، يمكنك قراءة هذه المادة.
ماركو بولو في بلاط قوبلاي خان.. بداية المغامرة الحقيقيّة
كما ذكرنا سابقاً سافر ماركو بولو وسنه 17 عاماً من البندقيّة إلى آسيا، مع والده وعمّه، سافروا معاً عام 1271، ولم يكن في بالهم أبداً أنّ ماركو بولو سيغيب طيلة 24 عاماً عن بلده الأمّ. ومن خلال هذه الرحلة البرية العسيرة قابل ماركو بولو ووالده وعمّه الكثير من الغرائب ومرُّوا من خلال صحراء غوبي الضخمة عبر آسيا، إلى أن وصلوا في النهاية، بعد 4 سنوات من السفر والترحال، إلى بلاط أعظم ملوك هذه المناطق وقتها: الخان قوبلاي خان.
كان بلاط قوبلاي خان مثيراً للغاية، فيمكنك أن تجد وزراء من ديانات وأعراق مختلفة، لا يهم ما هو دينك أو عقيدتك وإنما المهم هو ولاؤك للخان الأعظم للمغول. وهكذا، عبّر الخان الأعظم قوبلاي عن اهتمامه بمعرفة المسيحية وطلب من والد ماركو وعمّه أن يعودا إلى إيطاليا مع بعثة مسيحية مكونة من كهنة وعلماء دين، لكنّهما فشلا في جلب فردٍ واحد من إيطاليا.
وخلال هذه الفترة التي سافر فيها أبوه وعمه كان ماركو بولو عضواً بارزاً في بلاط قوبلاي خان. فقد استخدمه قوبلاي خان مبعوثاً خاصاً لبعض المناطق النائية من آسيا، مثل مناطق بورما والهند والتبت الحالية. وخلال فترة وجوده في بلاط الخان تعلّم ماركو بولو 4 لغات.
ومع الوقت ترقّى بولو، فشغل منصب حاكم مدينة صينيّة، كما عيّنه قوبلاي خان مسؤولاً في مجلسه الخاص، وفي بعض الأوقات عينه مفتشاً للضرائب في إحدى مدن الإمبراطورية الضخمة. ومن الجدير بالذكر أنّ إمبراطورية قوبلاي خان كانت تتعامل بالنقود الورقية ما مثّل شيئاً غريباً بالنسبة للأوروبيين الذين قرأوا ما كتبه ماركو بولو لاحقاً عن هذه الإمبراطورية.
عندما قرّر ماركو بولو أن يعود إلى بلده الأمّ، بعدما قضى 17 عاماً في بلاط قوبلاي خان، أمره قوبلاي خان بمرافقة أميرة مغولية إلى بلاد فارس كانت ستتزوّج أميراً فارسياً.
عندما عاد ماركو بولو إلى البندقيّة لم يصدّق أهلها ما حكاه عنهم، وما كتبه في الكتاب الذي أصبح يعرف باسم "رحلات ماركو بولو". فالأشياء التي حكاها عن الشرق وعن إمبراطورية قوبلاي خان في الصين لم يكن تصديقها ممكناً في ذلك الزمان، وقد احتدم النقاش بين المؤرخين والباحثين على هذه النقطة كثيراً.
فبعضهم يرى صعوبة أن يكون ماركو بولو وصل إلى الصين في ذلك الوقت، خصوصاً أنّه لم يصف مثلاً سور الصين العظيم وهو أبرز ما يميز الصين، وغيرها من الملاحظات الأخرى.
ويقال إنّه قبل وفاته عام 1324 جاءه أصدقاؤه ومحبوه وطلبوا منه الاعتراف بأنّ كتابه كان من الخيال أو من حكايات التجار والبشر الذين قابلهم، وكان رد ماكو بولو عليهم واضحاً: "لم أخبر نصف ما رأيته".
وبغض النظر عن وصول ماركو بولو إلى الصين أم لا، وعن حقيقة القصص والتفاصيل التي أوردها، فقد كان كتابه ملهماً لعددٍ لا يحصى من المغامرين والرحالة الأوروبيين الآخرين الذين ساروا على نهجه، فبعد قرنين من رحلات بولو رحل كريستوفر كولومبوس في رحلةٍ استكشافية ليكتشف الأمريكتين، وقد كان معه نسخة كتاب رحلات ماركو بولو.
يعتبر الكثيرون أنّ ماركو بولو هو أعظم رحّالة في التاريخ، لكنّ آخرين يجادلون بأنّ الرحالة المسلم ابن بطوطة هو أعظم رحالة ومستكشف في التاريخ وليس ماركو بولو. فبينما زار ماركو بولو إمبراطورية قوبلاي خان في الصين، وسافر خلال 24 عاماً، فقد سافر ابن بطوطة إلى 40 دولة خلال 29 عاماً.
وإذا كان ماركو بولو قد أصبح مبعوثاً خاصاً لقوبلاي خان وخدم في بلاطه، فقد خدم ابن بطوطة وقابل الكثير من السلاطين والملوك، من الصين إلى الهند إلى جزر المالديف، الذي ترك لنا في كتابه " تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" القصّة الغريبة لدخول الإسلام إليها.
ويمكنك للقراءة عن عظمة ابن بطوطة بالمقارنة مع ماركو بولو، أن تقرأ هذه المادة، أمّا عن القصة المثيرة لدخول الإسلام المالديف فيمكنك قراءتها باختصار في هذه المادة. وقد أنتجت شيكة نتفلكس مسلسلاً من جزأين عن رحلات ماركو بولو.