تُعتبر صناعة السيارات واحدة من أكثر الصناعات تعقيداً في العالم، مع أنها الأكثر انتشاراً في الوقت نفسه. فالشركات الكبرى التي تدخل في تلك الصناعة كثيرة، وتسعى كلٌّ منها إلى خلق تمايزها الخاص في طرق الإنتاج والتسويق.
لكن كل الشركات، وبلا استثناء تقريباً، تتفق على انتهاك حقوق الإنسان في تعاملها مع الموظفين والعمال خلال جميع مراحل عمليات التصنيع، وصولاً إلى التسويق؛ منذ الانتهاء من أول قطعة، وحتى عرض السيارة الفارهة للبيع.
وحين نقول انتهاك حقوق الإنسان، فنحن نتحدث هنا عن عملٍ قسري، وعمالة أطفال، مع سرقة حقوق العمال، إضافةً إلى محاربة النقابات العمالية، وغيرها.
مضطهدو الإيغور يصنعون السيارات لكل العالم
في ديسمبر/كانون الأول 2022، نشرت جامعة Sheffield Hallam البريطانية تقريراً موسعاً من 80 صفحة، أعدّه فريقٌ من الباحثين بقيادة لورا تي مورفي، أستاذة حقوق الإنسان والعبودية المعاصرة في الجامعة.
تناول التقرير الرابط بين الشركات الصينية التي تنشط أعمالها في منطقة شينجيانغ الصينية، وبين عمالقة صناعة السيارات في العالم التي تعتمد على تلك الشركات الصينية في سلاسل إمدادها، مثل: المعادن، والبطاريات، والأسلاك، والعجلات.
التقرير، الذي حَمَل عنوان "القوة الدافعة: سلاسل توريد السيارات والعمل الجبري في منطقة الإيغور"، سلّط الضوء على برامج العمل القسري الذي تفرضه السلطات الصينية على ملايين مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ، شمال غرب البلاد.
وبحسب الدكتور مورفي، رئيس الفريق الذي أعدّ التقرير، "لم يكن هناك أي جزء من أي سيارة بحثنا عنها ليس ملوثاً بالسخرة الإيغورية"؛ ما يعني باختصار أنها "مشكلة على مستوى صناعة السيارات كلها".
خلُص التقرير إلى أن ما يقارب 100 شركة صينية تقوم بعملية التعدين، أو معالجة المواد التي تدخل في صناعة السيارات، في مناطق تمركز الإيغور، وأن نحو 38 منها على الأقل أعلنت عن مشاركتها في برامج "العمل القسري" الذي ترعاه الدولة.
على سبيل المثال، قالت مجموعة "باو" -التي تصنّع أنظمة تعليق السيارات والمحاور والفولاذ الذي يغذي سلاسل التوريد لمعظم الشركات العالمية- إنها "ملتزمة بسياسة الزعيم الصيني والحزب الشيوعي".
وأضافت أن فرعها في شينجيانغ "نفذ بالكامل سياسة الحزب العرقية، وقام بإعادة تنظيم 364 عاملاً من العائلات الفقيرة في قرى جنوب شينجيانغ، ودمجهم في نظام العمل"؛ وهي كلها عبارات ملطفة تشير إلى عمليات النقل الجماعي القسري لعمال الإيغور إلى المصانع.
يشمل هذا التورط كل عمالقة صناعة السيارات تقريباً، بما في ذلك "مرسيدس"، و"بي إم"، و"إم جي"، و"فورد"، و"تويوتا"، كما يشمل عملاق صناعة السيارات الكهربائية "تسلا".
وما يحصل أن بعض الشركات، من بينها شركة "كاتل" الصينية في شينجيانغ، تقوم بمعالجة الليثيوم اللازم لصناعة البطاريات القابلة لإعادة الشحن؛ وهي أساس صناعة السيارات الكهربائية، وتعتمد عليها كبرى الشركات العالمية في هذا المجال.
وكانت العديد من التقارير الحقوقية قد تحدثت عن السياسات الحكومية الصينية القمعية بحق مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ، من بينها التقرير الذي نشرته منظمة "هيومان رايتس ووتش" في أبريل/نيسان 2021، بعنوان "جرائم الصين ضد الإنسانية التي تستهدف الإيغور".
يفصل التقرير "الهجوم واسع النطاق والممنهج (من قِبل السلطات الصينية) الموجه ضدّ السكان المسلمين في الإقليم، والذي شمل الاعتقال التعسفي الجماعي، والتعذيب، والاختفاء القسري، والمراقبة الجماعية، والمحو الثقافي والديني، وفصل العائلات، والإكراه على العودة إلى الصين، والعمل القسري، والعنف الجنسي وانتهاكات الحقوق الإنجابية".
"الأيدي الصغيرة" توفر المعادن اللازمة لصناعة السيارات
في يوليو/تموز 2016، نشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً وضع العديد من كبار مصنعي السيارات -خاصةً "بي إم دبليو"، و"فولكس فاغن"، و"أودي"- في حرجٍ شديد، بعد أن ربطت سلاسل توريد معدن الميكا بمناجم غير قانونية في الهند تعتمد بشكل رئيسي على عمالة الأطفال.
والميكا هو معدن، وإن يكن غير معروف للمستهلكين، إلا أنه يُستخدم على نطاقٍ واسع في العديد من الصناعات، بسبب قدرته الكبيرة على عكس الضوء وانكساره. وفي صناعة السيارات، يُستخدم في الطلاء.
وعبر زيارات مراسليها إلى مناجم عدة في ولايات هندية مختلفة، وثقت الصحيفة البريطانية أطفالاً -يبلغون من العمر 12 عاماً- وهم يقومون بتعدين الميكا تحت الأرض في مناجم خطرة.
كما وثقت الأطفال وهم يطرقون رقائق الصخور في الجدران، ثم يحملون الصخور الثقيلة عبر أنفاق غير آمنة حتى سطح الأرض. والمثير للعجب فعلاً أنه كانت هناك فتيات لا تتجاوز أعمارهن الـ10 أعوام، يعملن على فرز مادة الميكا من المواد الأخرى.
يتم بيع الميكا من المناجم غير القانونية لشبكات التجار المحليين؛ فيبيعون المعدن لشركات التصدير الهندية، التي تقوم بدورها بتصنيع الأصباغ المختلفة ومن ثم بيعها إلى كبرى الشركات، وخاصة شركات صناعة السيارات.
ورغم الإنكار الشديد والتنديد الرسمي، لا تأبه تلك الشركات عملياً لهذه الانتقادات. وبحسب التقرير، فإن "الشركات تشتري بعين مفتوحة على السعر، وأخرى مغلقة أمام إساءة الاستخدام وعمالة الأطفال".
التسامح مع عمالة الأطفال هي التهمة التي أُلصقت أيضاً بالشركات العاملة في صناعة السيارات الكهربائية. فقد نشرت منظمة العفو الدولية (Amnesty) تقريراً قبل سنوات، أعدّته بالتعاون مع منظمة مراقبة موارد إفريقيا (Afrewatch)، عن الأمر.
تحدث التقرير عن انخراط عشرات آلاف الأطفال، في مناجم تعدين الكوبالت، بالعمل تحت ظروف خطرة وغير مؤهلة في مناطق شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. يحدث ذلك قبل أن ينقل الوسطاء هذا المعدن إلى شركات صناعة بطاريات الليثيوم، المُستخدمة في صناعة السيارات الكهربية.
نحو 40 ألف طفل يعملون في مناجم الكوبالت، الذي توفر الكونغو نحو 50% من الإنتاج العالمي منه. ونتحدث هنا عن أطفالٍ لا تتعدى أعمارهم 12 عاماً، يعملون لأكثر من 12 ساعة يومياً، وفي ظروف بالغة القسوة.
لا تتوفر لهؤلاء الأطفال معدات الحماية الأساسية، مثل القفازات أو الأقنعة الواقية، ما يجعلهم عرضة للإصابة بتليفات الرئة أو الأمراض الجلدية الخطرة؛ كل ذلك في مقابل دولار واحد، أو دولارين فقط، يومياً.
في أبريل/نيسان 2018، نشرت منظمة Bread for the World غير الحكومية تقريراً عن تعدين البلاتين في جنوب إفريقيا، مشيرةً إلى ظروف العمل الخطرة والتهجير القسري وتلوث مياه الشرب الناتجة عن طرق التعدين البدائية.
وفي تقريرها، سلّطت المنظمة الضوء على مسؤوليات عمالقة صناعة السيارات الألمانية -مثل "بي إم دبليو"، و"فولكس فاغن"، و"ديملر"- التي تستورد البلاتين مباشرةً من جنوب إفريقيا.
تويوتا نموذجاً.. الشركات الكبرى وانتهاك حقوق العمال
إذا ما نحينا جانباً سلاسل التوريد، وانتقلنا إلى مصانع السيارات مباشرةً، فإن سجلات شركات صناعة السيارات الكبرى حافلة بالانتهاكات ضد العمال، وظروف العمل السيئة في مقابل أجور مخفضة للغاية، وعدم المساواة في الأجور، ورفض الاعتراف بالنقابات العمالية ومحاربتها؛ إن وُجدت أصلاً.
ففي يونيو/حزيران من العام 2017، وبعد 6 أشهر من المفاوضات الفاشلة بين العمال وإدارة الشركة، ألقت الشرطة القبض على العديد من ممثلي العمال في أحد فروع تصنيع "فولكس فاغن" بمدينة تشانغتشون شمال شرق الصين.
كان العمال يطالبون بالمساواة في الأجور بينهم، وقد طلب ممثلوهم بعد إطلاق سراحهم من مسؤولي الشركة تحمل مسؤولياتهم إزاء الانتهاكات المتكررة لحقوق عمالها.
بدورها، ورغم النجاح التجاري الساحق، تواجه "تويوتا" مثلاً اتهامات متكررة بالسطو على حقوق العمال، وتحميلهم أكثر من طاقتهم. وقد استغرق الأمر 10 سنوات، لتعترف الشركة باتحادٍ مهني نظمه عمالها في الفلبين، بعد أن فصلت مئات الموظفين هناك.
لم يكن الأمر أفضل حالاً في مسقط رأس "تويوتا" باليابان، فقد سُجلت العديد من حالات وفاة موظفين ومهندسين بسبب الإرهاق المتواصل في العمل. بعض الموظفين كانوا مُجبرين على العمل لمدة 97 ساعة أسبوعياً، فيما تمّ تجريد العمال الأجانب من جوازات سفرهم.
في مطلع عام 2021، واجه فرع "تويوتا" في الهند احتجاجات عمالية مستمرة بسبب رغبة المصنع في زيادة إنتاج السيارات بمقدار الربع من دون أي زيادة في القوة العاملة.
خطوة اعتبرها العمال المحتجون غير علمية وغير قانونية، وقد تم اتخاذها من دون دراسات فنية كافية. ورداً على هذه الاحتجاجات، قامت الشركة بإغلاق المصنع مؤقتاً، قبل أن تعاود استئناف العمل فيه بعد فترة.
تحدث العمال عن ظروف عمل غير آدمية؛ يعملون لـ18 ساعات من دون الحصول على راحة لأكثر من 20 دقيقة لتناول الطعام والشراب والدخول إلى دورات المياه، يرافق ذلك غياب التدريبات الكافية، وإجراءات ضمان السلامة المهنية، وليس هناك بالطبع تأمين على الإصابات التي تلحق بهم خلال ساعات العمل.
وفقاً للإحصاءات، كان العاملون بقطاع صناعة السيارات في الهند مثلاً يمضون ساعات طويلة في عملهم الشاق، نحو سُدس هذا الوقت فقط يمضيه العامل من أجل كسب رزقه ومعيشة أسرته.
فيما يمضي الجزء الأطول من العمل لضمان الأرباح الرأسمالية للملاك، الذين حرصوا طوال الوقت على منع العمال من تنظيم أنفسهم في تجمعات مهنية للمطالبة بحقوقهم، بتواطؤ مع السلطات المركزية والمحلية في كثير من الأوقات.