حشدت الحكومة المصرية أسلحتها استعداداً لمراجعة سجلها الحقوقي أمام مجلس حقوق الإنسان العالمي في 28 يناير/كانون الثاني الجاري وسط تخوفات من زيادة حدة الانتقادات الموجهة إليها من جانب خبراء الأمم المتحدة والمقررين الخواص (خبراء مستقلين) الذين عقدت معهم جلسة نقاشية الشهر الماضي تهدف من خلالها التسويق لجهودها في مجال حقوق الإنسان.
غير أن انعقاد الجلسات تزامن مع الحديث عن ضعف الاستجابة لمطالب الإفراج عن المحبوسين وإمكانية تراجع تصنيف المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، والذي سيتولى تقديم الملف المصري، يجعل احتمالات تمرير المناقشات دون مشكلات أمراً مستحيلاً.
وتنعقد المراجعة الدورية لمصر كل أربع سنوات وتأتي في إطار آلية الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان التي انطلقت عام 2008، وبموجبها تم استعراض أوضاع حقوق الإنسان في جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة (193 دولة) ثلاث مرات، وهي الآلية التي تتيح لحكومة كل دولة تقديم تقرير رسمي عن أوضاع حقوق الإنسان لديها.
محاولات عديدة لتحسين صورة السجل الحقوقي
قدمت مصر بالفعل تقريرها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والذي تضمن ردها على 372 توصية وُجهت إليها خلال الدورة الثالثة التي انعقدت في 2019، وأكدت خلاله أنها حرصت على تنفيذ التوصيات رغم "تصاعد خطر الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود في واقع إقليمي مضطرب، وزيادة معدلات الهجرة واللجوء نتيجة الأوضاع الصعبة في المنطقة، لا سيما دول الجوار، مروراً بجائحة كورونا، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة عالمياً، بالإضافة إلى استمرار الزيادة السكانية"، بحسب ما ذكر في التقرير.
وكشف مصدر حقوقي قريب من الحكومة المصرية، إن البعثة المصرية في جنيف عقدت خلال الأيام الماضية اجتماعات عديدة مع المحكمين والمنظمات الحقوقية والمفوضيات التعاقدية المعنية بأوضاع حقوق الإنسان التي ستشارك في أثناء العرض المصري، وذلك لتحسين صورة السجل الحقوقي للدولة المصرية، وأن ردود الأفعال الأولية لم تكن إيجابية، إذ إن القاهرة تسوق رؤيتها بناء على التشريعات والقرارات التنفيذية التي اتخذتها الحكومة أو مؤسسة الرئاسة في حين أن انعكاس ذلك على أرض الواقع يبقى محدوداً.
فمثلاً عند التسويق لإجراءات العفو الرئاسي فإنها لا تتجاوز 1700 حالة، وهناك أكثر من 4000 حالة أخرى كان هناك تساؤلات حول أسباب إلقاء القبض عليهم وعبر ذلك عن تراجع تجاه الالتزام بأوضاع المحبوسين السياسيين والحريات العامة.
وأضاف المصدر ذاته أن الحكومة المصرية تتحسب للنقاش حول أوضاع العمال اللاجئين على أراضيها، وكانت ضمن التوصيات الصادرة سابقاً وقبلتها لكنها لم تدخل التعديلات المطلوبة التي تضمن عدم استغلالهم بالرغم من إقرار قانون اللجوء، كما أن الحكومة تسعى من خلال المراجعة تقديم مبررات لعدم صدور تشريع موحد لمكافحة العنف ضد المرأة وتضع أسبابها نحو أسباب تأخر إنشاء مفوضية مكافحة التمييز باعتبارها التزاماً دستورياً، وتجميد إصدار قانون تداول المعلومات، ووضع مزيد من الضمانات للحد من استخدام عقوبة الإعدام وتقليص عدد الجرائم التي تؤول إليها.
تسويق "إنجازات" الحكومة
واستكمل المصدر "في المقابل فإن الحكومة المصرية سوف تعمل على تسويق بعض النقاط التي تراها إيجابية بينها، إطلاق الحوار الوطني مع المعارضة قبل ثلاث سنوات، وعرض ما تخلص عنه من توصيات وتنفيذ بعضها أبرزها التوصيات الخاصة بمواد الحبس الاحتياطي وتقليص مدده وضمان الحق في التعويض المادي والمعنوي عن الحبس الاحتياطي الخاطئ، إلى جانب إتاحة القانون الطعن على الأحكام الصادرة من محاكم الجنايات".
وذكر أن الحكومة المصرية ستروج أيضاً إلى تعديلات قانون تنظيم السجون وقيامها بهدم 15 سجناً وإنشاء ما تسميه بمراكز الإصلاح والتأهيل بديلاً عنها، وكذلك قانون لجوء الأجانب الذي أقره البرلمان مؤخراً، يضمن حقوقاً واضحة لهم ويمنع ترحيلهم القسري أو إعادتهم إلى دول قد يواجهون فيها خطراً، ونهاية باستجابتها لتوصيات تعديل قانون العمل الأهلي ووضع لائحته التنفيذية قبل ثلاث سنوات والذي ساهم في إعادة تقنين أوضاع أكثر من 50 ألف جمعية أهلية.
وقبلت مصر 87.4% من إجمالي التوصيات المقدمة لها في إطار المراجعة الثالثة لآلية الاستعراض من بينهم 270 توصية بشكل كلي، بالإضافة إلى 24 توصية اعتبرتها مصر منفذة، في حين تم قبول 31 توصية جزئياً بينما لم تقبل 30 توصية من بينها توصيتان اعتبرتها مصر غير متعلقين بمجلس حقوق الإنسان، كما اعتبرت مصر أن هناك توصيتين عدائيتين، بينما تم اعتبار 15 توصية خاطئة وقائعية بسبب عدم الدقة في الصياغة والمضمون.
مخاوف من خفض التصنيف
ويعد الاستعراض الدوري الشامل من أهم الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان غير أنه ليس لديه سلطة على إجبار أي دولة على تنفيذ توصياتها، لكن في حال قبلت الدولة التوصيات الموجهة إليها بشكل كامل، فإن ذلك يحول التوصية إلى تعهد ويبقى هناك واجب أخلاقي ودبلوماسي على الدولة المصرية لكي تنفذ ما جاء ما قبلت به من توصيات، وأن تنفيذها يعبر عن تعزيز التعاون بين تلك الدولة والمجلس الدولي لحقوق الإنسان.
قال مصدر حكومي مسؤول إن المخاوف من تزايد وتيرة الانتقادات أثتاء المراجعة الدورية الشاملة تتمثل في خلق رأي عام عالمي يسلط الضوء على الانتهاكات المرتكبة في الملف الحقوقي بخاصة إذا ارتبط الأمر بخفض تصنيف المجلس القومي لحقوق الإنسان، لأن ذلك يعني أن الجهة الحقوقية المحلية لا يمكن الاعتداد بتقاريرها خارجياً.
وأشار المصدر إلى أن القاهرة تتوجس من أن يكون ملف حقوق الإنسان مدخلاً للضغط عليها مع اتجاهها للحصول على منح ومساعدات اقتصادية من دول الإتحاد الأوروبي التي تعلق بشكل مستمر على الحالة الحقوقية المصرية، كما أن تزايد معدل التوصيات الصادرة عن آلية المراجعة يمنح إشارات على أن مصر لا تبدي التزاماً بتحسين الملف الحقوقي.
وقال مصدر حقوقي آخر قريب من الحكومة، إن التشريعات والإجراءات السياسية ستكون مقدمة للتعامل مع الانتقادات المتوقعة التي ستواجهها الحكومة المصرية في سجلها الحقوقي تحديداً فيما يتعلق بأوضاع السجون وزيادة أعداد المحبوسين على ذمة قضايا سياسية، والتضييق على حرية الرأي، مشيراً إلى أن الحكومة ستقدم تبريرات تجاه عدم تطبيق بعض التوصيات نتيجة للأوضاع الإقليمية المتوترة خلال الثلاث سنوات الماضية بدءاً من الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيراتها على الاقتصاد المصري ونهاية بالحرب المشتعلة في غزة.
وذكر أن أكثر ما تخشاه القاهرة خلال المراجعة الدورية يتعلق بتصنيف المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي أضحى قاب قوسين أو أدنى من خفض تصنيفه، وسيكون ذلك محل نقاشات موسعة أثناء المراجعة الدورية التي سبق وأن طالبت بمزيد من الاستقلالية في أدواره، غير أن ما حدث هو العكس بعد أن أضحى معبراً عن توجهات الحكومة دون أن تكون لديه القدرة على إصدار تقارير موضوعية عن حالة حقوق الإنسان في مصر، وسيكون لذلك تأثير سلبي على الملف المصري، إذ إنها آلية وطنية مستقلة لديها معايير معينة يجب أن تحافظ على استقلاليتها وأن الحكومة سيكون عليها مراجعة أدوار المجلس لما يخدم مصالحها.
ويعتقد المصدر أن تخفيض التصنيف ليس في مصلحة الحكومة المصرية التي تعتزم الترشح لعضوية المجلس العالمي لحقوق الإنسان على أحد مقاعده الـ47 ممثلة عن قارة إفريقيا كما صرح وزير الخارجية المصري.
وقبل شهرين تقريباً، صدرت توصية من اللجنة الفرعية للاعتماد التابعة للتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان (GANHRI)، بخفض تصنيف المجلس القومي لحقوق الإنسان المصري، إلى الفئة "ب"، وكان المجلس القومي قد حصل سابقاً على الفئة "أ" من اللجنة الفرعية في عامي 2006 و2018، وذلك بسبب التشكيك في استقلاليته وعدم إصداره أي تقارير منذ أربع سنوات.
وشدد المصدر ذاته على أن القاهرة عملت على فتح الباب أمام إمكانية الحد من استخدام عقوبة الإعدام للتخفيف من حدة الانتقادات الموجهة إليها في ملفات أخرى واستضافت الشهر الماضي ورشتين عمل شهدتا تقديم وعود بعدم التوسع في استخدام العقوبة من خلال تعديلات قانون الإجراءات الجنائية الذي يضع مزيداً من الضمانات للمتهم ليكون أمام محاكمة عادلة ودرجات تقاضي مختلفة تكون فيها فرصة لتخفيف الأحكام ومن ثم تتراجع تلقائياً قرارات الإعدام أو تنفيذها على نحو أكبر مما هو قائم الآن.
وفقاً لرصد الجبهة المصرية (حقوقية) لحالة عقوبة الإعدام في العام 2023، فإن المحاكم المصرية أصدرت أحكاماً بالإعدام على 348 شخصاً على الأقل (من بينهم 16 شخصاً في قضايا سياسية)، وتأييد محاكم النقض لأحكام الإعدام على 27 شخصاً على الأقل (من بينهم 3 أشخاص في قضايا سياسية)، ونفذت السلطات أحكام الإعدام على 8 أشخاص على الأقل في قضايا جنائية خلال العام، وهو رقم ضئيل مقارنة بتنفيذ الحكم بحق 126 شخصاً في العام 2020.
وقالت الجبهة إن أرقام عام 2023 أيضاً ضئيلة مقارنة بعام 2022، والذي صدر فيه 538 حكماً بالإعدام في هذا العام، وقامت السلطات بتنفيذ أحكام 30 شخصاً على الأقل، وفيما يخص إصدار محاكم النقض لأحكام نهائية بالإعدام فقد تم رصد تأييد 39 حكماً على الأقل، مقارنة بتأييد 27 حكماً العام الماضي.
ومؤخراً وثقت 13 منظمة حقوقية مدى تجاوب الحكومة المصرية مع توصيات آلية الاستعراض الدوري الشامل خلال السنوات الـ14 الماضية، بما في ذلك توصيات الاستعراض السابق في عام 2019، ورصد التقرير مظاهر عدم الاستجابة الجادة للتوصيات.
وفيما يتعلق بعقوبة الإعدام التي قبلت مصر خلال جلسة المراجعة الدورية الماضية 29 توصية بشأن تعليقها، أكدت المنظمات الحقوقية أنه ما زالت التشريعات المصرية تعاقب بها في 105 جرائم، وأشار التقرير المشترك كذلك إلى الإخفاء القسري الذي قبلت الحكومة بشأنه ثلاث توصيات خلال جلسة المراجعة الدورية السابقة، حول التحقيق في البلاغات المتعلقة بمزاعم التعذيب والقتل خارج نطاق القانون والإخفاء القسري والتصدي للإفلات من العقاب، وتعهدت بتشكيل سلطة مستقلة تباشر التحقيق في هذه الجرائم.
وفيما يخص أوضاع السجناء وأماكن الاحتجاز، حيث تلقت الحكومة 20 توصية بخصوصها في المراجعة السابقة، أفاد التقرير بأن السلطات توسعت خلال الأربع سنوات الماضية في الاستخدام التعسفي للحبس الانفرادي المطول، ونقلت عن مساجين أن تلك العقوبة تأتي بعد مشاجرات مع إدارة السجن أو إضرابات أو احتجاجات على أوضاع السجن.
مغازلة المجلس الدولي لحقوق الإنسان
بحسب مصدر حقوقي مصري، فإن القاهرة تمكنت من التعامل مع الانتقادات الموجهة إليها خلال العرض السابق بفعل تصدير معاناتها من موجات إرهابية التي قد خفتت الآن، وأن التركيز على الحقوق السياسية والمدنية سيكون حاضراً بقوة في المراجعات المقبلة وكان ذلك محل نقاشات بين البعثة المصرية وبعثات الدول المشاركة في المراجعة الدورية الشاملة خلال النقاشات التي جرت في جنيف الشهر الماضي، مشيراً إلى أن حديث الحكومة المصرية عن إصدار استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان قابله مطالب بالتعرف على الإجراءات التنفيذية التي ترتب عليه، كما أن التسويق لإلغاء حالة الطوارئ واجهه انتقادات بسبب التوسع في استخدام قانون مكافحة الإرهاب على بعض المدنيين.
وأوضح أن الحكومة المصرية تتعامل مع إجراءاتها التنموية من خلال المبادرات التي تطلقها لتنمية الريف المصري مثل "حياة كريمة" وكذلك إجراءات التكافل الاجتماعي مثل "معاش تكافل وكرامة"، على أنها ضمن خطوات تحسين سجلها الحقوقي وهو ما سيواجه اعتراضات حقوقية أثناء المراجعة الدورية التي من المتوقع أن تخرج بتوصيات أكثر من التي قدمتها خلال المراجعة السابقة، مشيراً إلى أن الحكومة قد تتجه لإطلاق سراح بعض المحبوسين قبل الاتجاه إلى المراجعة الدورية وذلك لتخفيف حدة الحديث عن وجود إضرابات داخل السجون من جانب ولمغازلة المجلس الدولي لحقوق الإنسان على الناحية الأخرى.
وتستند المراجعة الدورية إلى 3 مصادر رئيسية، وهي "التقرير الوطني الذي تقدمه الدولة نفسها، وتقارير خبراء الأمم المتحدة والمقررين الخاصين، وتقارير المنظمات غير الحكومية وأصحاب المصلحة الآخرين"، وتتم المراجعة من خلال مناقشة تفاعلية بين الدولة المستعرضة والدول الأخرى خلال اجتماعات الفريق العامل المعني بالاستعراض الدوري، وتتولى الدول المشاركة طرح أسئلة وتقديم توصيات، فيما تقدم الدولة المستعرضة ردودها وتوضح جهودها.
يمكن للمنظمات غير الحكومية تقديم تقارير ومعلومات يتم تضمينها ضمن الوثائق التي تُراجع أثناء الاستعراض، كما يحق لها حضور الجلسات وتقديم مداخلات أثناء مناقشة النتائج، يصدر مجلس حقوق الإنسان "تقرير النتائج" المزمع إعلانه في 31 يناير، ويشمل توصيات الدول الأخرى للدولة المستعرضة، مع تحديد التوصيات المقبولة والمرفوضة، ويتم اعتماد التقرير في جلسة علنية لمجلس حقوق الإنسان، مع فتح المجال للدولة المستعرضة لتقديم تعليقاتها، وتتحمل الدولة مسؤولية تنفيذ التوصيات المقبولة والتي يمكن الرد عليها في نفس الوقت، ويحق للوفد إرسال الرد مكتوب بعد فترة قريبة.