في يوم الجمعة الماضي 20 سبتمبر/أيلول 2024، هاجمت "إسرائيل" اجتماعاً لقادة حزب الله في "حي القائم" بالضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت. وكانت عملية الاغتيال الكبيرة في أعقاب تفجير آلاف أجهزة النداء "البيجر" واللاسلكي المحشوة بالمتفجرات، التي كان يستخدمها عناصر حزب الله.
وتباهى الجيش الإسرائيلي بـ"الضربات الدقيقة" في "قلب معقل حزب الله في بيروت". واستحضرت اللغة الإعلامية الإسرائيلية عملية "ضد مجمع عسكري محمي جيدًا"، مبنى من نوع البنتاغون الأمريكي، لكن لم يكن ذلك صحيحاً على الإطلاق.
ففي واقع الأمر، كانت هذه ضربة هائلة دمرت مبنى سكنيا بالكامل، وأدت إلى مقتل قادة حزب الله بقدر ما أدت إلى مقتل عدد لا يحصى من العائلات داخل المبنى. ولا يزال العديد من هذه العائلات والأطفال تحت الأنقاض، في حين لا يزال آخرون في عداد المفقودين.
الإعلام الأمريكي يردد الدعاية الإسرائيلية لتبرير قصف المدنيين
يقول موقع The Intercept الأمريكي، إنه في كل مرة تقريبا تظهر فيها أنباء من جنوب بيروت، تردد وسائل الإعلام الغربية لغة الجيش الإسرائيلي والبروباغاندا الخاصة به، وكأن "معقل حزب الله" جزء من اسم الحي بشكل رسمي. وقد يشير المدافعون عن هذا النوع من اللغة المضللة إلى استخدام "المعاقل" لوصف قواعد الدعم للحزب الديمقراطي أو حزب العمال البريطاني، ولكن هذه استخدامات في سياق غربي، وهو استخدام لا يختلط على أحد.
وفي لبنان، تبدو الدلالات واضحة، وهي تخدم المصالح الإسرائيلية بشكل مباشر فقط بتشويه صورة أعدائها وتبرير الجرائم ضد المدنيين في غزة أو لبنان أو غيرها عند كل عملية قصف أو اغتيال يقتل فيها عشرات الأطفال والنساء.
وتجعل "إسرائيل" المدنيين يدفعون ثمن أي شيء يزعمون أن حزب الله يفعله، وبعد ذلك تلقي دولة الاحتلال باللوم على حزب الله في وقوع الضحايا التي يتسبب فيها الإسرائيليون أنفسهم.
يقول الموقع الأمريكي "ذي إنترسبت"، إن تحويل جنوب بيروت، المعروف في باسم الضاحية الجنوبية، إلى معقل عسكري، يمنح "إسرائيل" الإذن باستخدام القوة الهائلة التي تشمل استهداف البنية الأساسية المدنية كجزء من هجومها الرئيسي والهدف الإسرائيلي المعلن هو "ردع أي هجمات مستقبلية من خلال ضرب القاعدة الأكثر تركيزاً لدعم حزب الله". وتجعل إسرائيل المدنيين الأبرياء يدفعون ثمن أي نشاط لحزب الله.
وهذه الاستراتيجية تحمل اسماً: "عقيدة الضاحية"، الذي صيغ بعد أن كادت إسرائيل أن تدمر جنوب بيروت عن بكرة أبيها في حربها مع حزب الله عام 2006. وقد أصبح هذا المبدأ هو أسلوب العمل الذي تنتهجه إسرائيل في الحروب المستقبلية، وخريطة الطريق لتدمير قطاع غزة بالكامل اليوم.
والآن، ومع تصاعد الهجمات الإسرائيلية على لبنان بسرعة، عادت "عقيدة الضاحية" إلى الظهور من جديد ــ مبررة باللغة الدعائية الإسرائيلية التي تصف المنطقة بأنها "معقل للإرهابيين" ويجب سحقها.
"عقيدة الضاحية"
الضاحية عبارة عن مجموعة من الأحياء ذات الأغلبية الشيعية المسلمة الواقعة جنوب مدينة بيروت، حيث يعيش مئات الآلاف من السكان. وهي أكثر كثافة سكانية بكثير من العاصمة نفسها. وفي داخل الضاحية توجد عدة مخيمات للاجئين الفلسطينيين وغيرهم من المجموعات، وهي أكثر كثافة سكانية من البلديات الحضرية المحيطة بها.
وفي ثمانينيات القرن العشرين، خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا في البلاد، تعرضت المنطقة لمذابح على يد أعضاء الميليشيات المسيحية اللبنانية اليمينية المدعومة من إسرائيل. ثم عانت الضاحية من القتل الجماعي مرة أخرى في عام 2006 عندما تعرضت لقصف إسرائيلي مكثف خلال حرب تموز بين إسرائيل وحزب الله.
ويتمتع حزب الله اللبناني بدعم كبير في المنطقة، ويمتلك جناحان: عسكري ومدني، وهو حزب له نصيب مع مؤسسات الدولة ويخوض الانتخابات مثل أي حزب سياسي آخر في لبنان. والمشي في الضاحية، وخاصة في هذه الأيام، يتطلب أن تكون أعمى حتى لا تفوتك صورة تلو الأخرى لمقاتلي حزب الله الذين ارتقوا في المعارك مع الاحتلال، أو صور الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
ورغم أن اسم "عقيدة الضاحية" جاءت بعد عام 2006، إلا أن المسؤولين العسكريين الإسرائيليين تحدثوا بعد الحرب بفترة وجيزة عن نهجهم في الضاحية وأعلنوا عن سياسة صريحة في نيتهم بعدم التمييز بين البنية التحتية المدنية والعسكرية.
وفي مقابلة أجريت معه عام 2008، أوضح الجنرال الإسرائيلي غادي آيزنكوت، الذي ساعد في صياغة "عقيدة الضاحية"، أن الهجمات ضد البنية التحتية المدنية في لبنان كانت الاستراتيجية، وليس التأثير غير المقصود خلال القصف. وقال "إن ما حدث في الضاحية الجنوبية في بيروت عام 2006 سوف يحدث في كل قرية يتم إطلاق النار منها على إسرائيل. وسوف نستخدم القوة غير المتناسبة على القرية ونسبب أضراراً ودماراً كبيرين هناك. ومن وجهة نظرنا فإن هذه ليست قرى مدنية، بل هي قواعد عسكرية". وأضاف" "هذه ليست توصية، هذه خطة إسرائيل، وقد تمت الموافقة عليها".
يقول الموقع الأمريكي، إنه بالنسبة لإسرائيل، فإن أرواح اللبنانيين يمكن التضحية بها في الحرب ضد حزب الله، بكل بساطة. وقد أصبحت تداعيات هذا التحول الصريح أكثر وضوحاً في قطاع غزة.
"غزة قاعدة حماس"
عام مدار عام كامل من الحرب الطاحنة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، شهدنا في الإعلام الأمريكي والغربي عشرات التقارير التي تردد الدعاية الإسرائيلية التي تقول إن "كل شيء تقريباً في قطاع غزة هو قاعدة لحماس"، "مكان لإيواء إرهابيي حماس"، و"مركز قيادة لحماس"، حتى المشافي والكوادر الطبية والمدارس.
ومثلما كل شيء في غزة يتعلق بحماس، فإن أي شيء يمس حزب الله يصبح تلقائيا هدفا عسكريا على أوسع نطاق ممكن بالنسبة لإسرائيل. لقد سارت وسائل الإعلام الغربية السائدة على هذا النهج الإسرائيلي، فأرست الأساس لتدمير أماكن مثل مستشفى الشفاء دون ضجة كبيرة، وهذا مثال من عشرات الأمثلة، عشرات المستشفيات والمراكز الطبية والمدارس ومقرات الأونروا.
ولكن وسائل الإعلام الغربية لن تتسامح مطلقاً مع هذا النوع من اللغة المستخدمة ضد الإسرائيليين. ولن تقبل أي وسيلة إعلامية أميركية على الإطلاق بجدية الحجة القائلة بأن "القوات الإسرائيلية تستخدم دروعاً بشرية من خلال إقامة مقرها في وسط مدينة تل أبيب".
من جانبه، رد الجيش الإسرائيلي على غارة بطائرة بدون طيار يمنية في تل أبيب برسم توضيحي للمنطقة يظهر قربها من البنية التحتية المدنية المهمة، واستنكر تهورها، على ما يبدو دون أن يشعر بأي سخرية من نفسه.
إن هدف هذه اللغة واضح: محو وجود هذه الأماكن والمدن والبلدات والأحياء مثل الضاحية باعتبارها مراكز سكانية نابضة بالحياة، ذات تعقيدات سياسية مثل العديد من الأماكن الأخرى، ولكنها في المقام الأول موطن لملايين الأشخاص الذين يمضون أيامهم.
وما دام هؤلاء الناس موجودين خارج نطاق النفوذ الأميركي والإسرائيلي، فإن حياتهم تُعَد رخيصة، وتُرمى جانباً باعتبارها "أضراراً جانبية" على نحو لا يتسامح معه الأميركيون والإسرائيليون أبداً. ولا تُعطى حياتهم أي أهمية إلا عندما يمكن استخدامها كأداة ضد الجماعات التي يعارضها الغرب، وعندما يرفضون الانصياع، يتم نسيانهم بنفس السرعة.