نكأت محاولة اغتيال دونالد ترامب جرحاً غائراً في جسد الامبراطورية الأمريكية، رغم نجاة الرئيس السابق والمرشح الجمهوري المحتمل في الانتخابات المقبلة، فالاغتيالات السياسية في أمريكا بمثابة تقليد راسخ، فمتى بدأت؟ ومن أشهر ضحاياها؟
كان ترامب قد تعرض لمحاولة اغتيال، السبت 13 يوليو/ تموز، عندما قام شاب يبلغ من العمر 20 عاماً بإطلاق النار من بندقية من طراز 15 إيه آر نحو المرشح الجمهوري المحتمل، الذي كان يخطب في أنصاره خلال تجمع انتخابي في ولاية بنسلفانيا.
أصيب ترامب إصابات طفيفة في أذنه اليمنى، لكنه نهض واقفاً ورفع يده بعلامة التحدي مطالباً أنصاره "بالقتال"، بينما قتل أفراد الخدمة السرية مطلق النار. أصدر ترامب وحملته الانتخابية بيانات تؤكد أن محاولة الاغتيال لن تثنيه عن حضور المؤتمر العام للحزب الجمهوري، الذي ينطلق الاثنين 15 يوليو/ تموز ويمتد حتى الخميس 18 يوليو/ تموز، ويشهد إعلان ترامب رسمياً المرشح الجمهوري لانتخابات 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
الاغتيالات السياسية في أمريكا
تسلط هذه المحاولة الفاشلة الضوء على تاريخ الاغتيالات السياسية الممتد في الولايات المتحدة، والذي هدد أرواح كثير من السياسيين في البلاد؛ رؤساء في المنصب أو سابقين ومرشحين للرئاسة ووأعضاء في الكونغرس ونشطاء حقوقيين وغيرهم.
فقد انضم ترامب إلى ما وصفه تقرير لموقع The Conversation الأمريكي ب"النادي غير الحصري" من رؤساء الولايات المتحدة والرؤساء السابقين والمرشحين الرئاسيين الذين كانوا هدفًا لرصاص الاغتيال؛ فمن بين 45 شخصاً شغلوا منصب الرئيس الأمريكي، تم اغتيال أربعة منهم خلال وجودهم في المنصب.
ويرجع تاريخ الاغتيالات السياسية في أمريكا إلى عام 1847 عندما اغتيل تشارلز بينت حاكم منطقة نيو مكسيكو، وذلك في أعقاب الحرب الأمريكية-المكسيكية. ولم يكن بينت منتمياً لحزب سياسي بعينه. وكانت وسيلة الاغتيال الأسهم والأقواس وقتل في منزله.
كان ذلك الاغتيال إيذاناً ببداية سلسلة ممتدة من عمليات العنف السياسي في بلد يحق لمواطنيه حمل الأسلحة النارية دون قيود، ويزيد عدد الأسلحة النارية التي يمتلكها الأفراد عدد السكان أنفسهم، حسبما تظهر الإحصائيات الرسمية في الولايات المتحدة.
وبالتالي فإن أصوات إطلاق النار ومنظر ترامب وهو يسقط على الأرض، مع اندفاع عملاء الخدمة السرية لإلقاء أنفسهم فوقه لحمايته، أيقظ قائمة طويلة من الصدمات التاريخية الخطيرة، بحسب تحليل لشبكة CNN الأمريكية.
إذ على الرغم من أن ترامب لا يشغل منصب الرئيس حالياً، إلا أن نجاته من محاولة الاغتيال تسلط الضوء على التهديد الدائم الذي يحيط دائماً بالمنصب وأولئك الذين يترشحون له.
وقد أنهى تعرض ترامب لمحاولة الاغتيال فترة أربعين عاماً افترض فيها كثيرون أن هذه السلسلة قد ولت إلى غير رجعة، إذ أدت خبرة الخدمة السرية إلى الحد بشكل كبير من احتمالات وقوع مثل هذه الاعتداءات. فقد كان آخر رئيس أمريكي يتعرض لمحاولة اغتيال هو رونالد ريغان مطلع ثمانينات القرن الماضي.
4 رؤساء من 45 تم اغتيالهم
يعد اغتيال الرئيس الأسبق أبراهام لينكولن في عام 1865 واغتيال جون كينيدي في عام 1963 من اللحظات الرئيسية في تاريخ الولايات المتحدة. لكن هناك رئيسان آخران تعرضا للاغتيال أيضاً؛ جيمس جارفيلد (1881) وويليام ماكينلي (1901). صحيح أن أحداً لا يتذكرهما تقريباً، لكن اغتيالهما تسبب أيضاً في هزات عنيفة في ذلك الوقت.
فبعد اغتيال ماكينلي، تم إنشاء جهاز الخدمة السرية الأمريكي وتكليفه بمهمة توفير الحماية الدائمة للرؤساء. وكان آخر رئيس أمريكي تم إطلاق النار عليه هو رونالد ريغان، الذي أصيب بجروح خطيرة واحتاج إلى عملية جراحية طارئة في عام 1981.
كان ريغان يغادر أحد فنادق واشنطن بعد إلقاء خطاب عندما أطلق المسلح جون هينكلي جونيور أعيرة نارية من مسدس عيار 22، وارتدت إحدى الرصاصات من سيارة ليموزين الرئيس وأصابته تحت الإبط الأيسر. أمضى ريغان 12 يوماً في المستشفى قبل أن يعود إلى البيت الأبيض. كما تم إطلاق النار على رؤساء آخرين، ولكن لحسن الحظ، لم يصابوا.
ففي عام 1933، أطلق مسلح خمس طلقات على سيارة الرئيس المنتخب آنذاك فرانكلين روزفلت. لم يصب روزفلت ولكن عمدة شيكاغو، أنطون سيرماك، الذي كان يتحدث إلى روزفلت بعد أن أدلى الرئيس المنتخب حديثاً ببعض التصريحات الموجزة للجمهور، أصيب وتوفي بعد 19 يوماً.
ترامب وروبرت كينيدي
أثارت محاولة الاغتيال التي نجا منها دونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية الرئاسية مقارنات باغتيال المرشح الديمقراطي روبرت كينيدي عام 1968، وهو عام يعرف أمريكياً بأنه عام العنف.
إذ تعرضت شخصيات أخرى تتمتع بسلطة سياسية كبيرة، حتى وإن لم تكن شخصيات منتخبة، للاغتيال بإطلاق النار، وأبرزها مارتن لوثر كينغ جونيور في ذلك العام الدموي، وكان ذلك قبل أشهر قليلة من اغتيال روبرت كينيدي.
ففي بلد يفوق عدد الأسلحة عدد سكانه، وحيث تتوفر الأسلحة النارية بسهولة، فليس من المستغرب أن تكون عمليات إطلاق النار هي الوسيلة المفضلة لقتل أو محاولة قتل أصحاب المناصب السياسية.
وكما حدث مع ترامب، فإن معظم محاولات الاغتيال تقع عندما يكون المرشحون والسياسيون في الأماكن العامة مع حشود من الناس بالقرب منهم. وهناك تاريخ طويل من إصرار السياسيين، خلافاً لنصيحة مستشاريهم الأمنيين، على "التواجد الجسدي" في الأحداث التي تعرض سلامتهم للخطر. وفي هذا الإطار، يعتبر ترامب محظوظاً للغاية إذ نجا من الحادث بإصابات طفيفة فقط.
العنف السياسي في أمريكا عرض مستمر
لكن العنف السياسي في أمريكا لم يتوقف تقريباً؛ ففي عام 2011، أصيبت غابرييل جيفوردز، النائبة الديمقراطية عن ولاية أريزونا، بتلف في الدماغ بعد أن أصيبت برصاصة في رأسها خلال حفل قتل فيه ستة أشخاص.
وفي عام 2017، فتح مسلح النار على تدريب للبيسبول تابع للحزب الجمهوري في الكونغرس، وأطلق النار على ستيف سكاليز، الذي كان يشغل منصب الأغلبية في مجلس النواب آنذاك، وثلاثة آخرين. كما يصنف الديمقراطيون الهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي من قبل أنصار ترامب في 6 يناير/ كانون الثاني 2021 بأنه عنف سياسي.
وفي ظل حالة الاستقطاب العميقة التي تعيشها أجواء السياسة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، والتي وصلت لنقطة الغليان خلال هذه الانتخابات، بدأت تبادل الاتهامات على الفور بين المعسكرين الجمهوري والديمقراطي بشأن المسؤولية عن حالة العنف السياسي، التي كاد ترامب أن يدفع حياته ثمناً لها.
فحملة بايدن تسعى إلى تصوير ترامب على أنه خطر على الديمقراطية بسبب مزاعمه الكاذبة المستمرة حول التلاعب بنتائج الانتخابات السابقة، إلا أنها أوقفت إعلاناتها التلفزيونية مؤقتاً وعلقت جميع الاتصالات الخارجية الأخرى، وذلك في أعقاب محاولة اغتيال ترامب.
بينما قال بعض حلفاء ترامب الجمهوريين إنهم يعتقدون أن الهجوم له دوافع سياسية، وذكر النائب ستيف سكاليز، ثاني أهم نائب جمهوري في مجلس النواب، "على مدى أسابيع، كان الزعماء الديمقراطيون يؤججون الهستيريا السخيفة بأن فوز دونالد ترامب بفترة جديدة سيكون نهاية الديمقراطية في أمريكا"، مضيفاً: "من الواضح أننا رأينا مجانين من اليسار المتطرف يتصرفون بناء على خطاب يحض على العنف في السابق. هذا الخطاب التحريضي يجب أن يتوقف".
بايدن ومحاولة "لم الشمل"
أظهر استطلاع للرأي أجرته رويترز/إبسوس في الآونة الأخيرة أن الأمريكيين يخشون تصاعد العنف السياسي، إذ قال اثنان من كل ثلاثة مشاركين في الاستطلاع الذي أُجري في شهر مايو/ أيار إنهما يشعران بقلق من احتمال حدوث أعمال عنف بعد الانتخابات.
وبعد ساعات من الهجوم، استدعت لجنة الرقابة في مجلس النواب الأمريكي الذي يقوده الجمهوريون، مديرة جهاز الخدمة السرية كيمبرلي تشيتل للإدلاء بشهادتها في جلسة يوم 22 يوليو/ تموز. وسرعان ما ندد كبار الأعضاء في الحزبين الجمهوري والديمقراطي بالعنف، كما ندد به الزعماء الأجانب.
لكن بينما قال مسؤولو إنفاذ القانون للصحفيين إنهم لم يحددوا بعد الدافع وراء الهجوم، سيبحث كل من الجمهوريين والديمقراطيين عن دليل على انتماء منفذ محاولة اغتيال ترامب السياسي وهم يسعون إلى تصوير الحزب المنافس على أنه يمثل التطرف.
ووفقا لسجلات الناخبين بالولاية، فإنه مسجل ضمن ناخبي الحزب الجمهوري لكن سبق له التبرع عندما كان يبلغ من العمر 17 عاما بمبلغ 15 دولاراً إلى لجنة عمل سياسية تجمع الأموال للساسة ذوي الميول اليسارية والديمقراطيين. وقال بايدن في تصريحات بالبيت الأبيض "لا يوجد مكان في أمريكا لهذا النوع من العنف…أحث الجميع، الجميع من فضلكم ألا يضعوا افتراضات حول دوافع (مطلق النار) أو انتماءاته. لا مكان لهذا النوع من العنف في أمريكا. يجب أن نتحد كأمة واحدة لإدانته".