صوت مجلس الشيوخ في الأرجنتين، بفارق صوت واحد، لصالح حزمة تشريعات تطلق يد الرئيس خافيير ميلي وحكومته لتنفيذ "خطة تقشف قاسية" أثارت احتجاجات عنيفة في أنحاء البلاد على مدى الأشهر الماضية.
الرئيس اليميني المتطرف يريد إطلاق يده لبيع الشركات العامة وتقليص الضرائب المفروضة على الشركات واتخاذ إجراءات أخرى تتعلق بالمعاشات والأمن، وهو ما أثار احتجاجات ضخمة، وصف ميلي المشاركين فيها بأنهم "إرهابيون"، بحسب تقرير لوكالة AP الأمريكية.
يواجه الاقتصاد الأرجنتيني وضعاً كارثياً ويبلغ التضخم نحو 300% وفقدت العملة المحلية "البيزو" أكثر من نصف قيمتها منذ تولى ميلي رئاسة البلاد أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، ويسعى الآن لتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة، فماذا يحدث في الأرجنتين؟
صندوق النقد الدولي والأرجنتين
تتصدر الأرجنتين قائمة الدول المدينة لصندوق النقد الدولي، حيث حصلت عام 2018 على قرض بقيمة 57 مليار دولار وتعثرت في سداد أقساطه وفوائده، ما أدى إلى وضع اقتصاد البلاد على حافة الانهيار. وفي عام 2019، قام الرئيس السابق ماوريسيو ماكري بالتفاوض مع الصندوق لإعادة جدولة القرض ليصل إلى اتفاق بقيمة 44 مليار دولار مع بداية عام 2022.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، قالت حكومة ميلي إنها تتفاوض مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض يبلغ 44 مليار دولار، وقدمت تعهدات بتحقيق التوازن في المالية العامة هذا العام وتخفيض الإنفاق، ويتضمن الرقم دفع فوائد الدين العام.
كانت حكومة ميلي قد تعهدت بإنهاء الأزمة في الأرجنتين، حيث أفادت التقارير الرسمية أن نحو 40% من السكان يعيشون تحت خط الفقر. لكن هذه النسبة قفزت إلى 57% بعد أقل من 6 أشهر من تولي الرئيس الجديد منصبه.
مجلس الشيوخ الأرجنتيني وافق، الخميس 13 يونيو/حزيران، على الإصلاحات الحكومية الرئيسية ومشاريع القوانين الضريبية التي اقترحها ميلي، وهو ما يمثل انتصاراً تشريعياً أولياً للزعيم في إطار مساعيه لتفعيل وعوده بـ"التغيير الجذري".
جاء التصويت بأغلبية 37 صوتاً مقابل 36 بعد 11 ساعة من النقاش الساخن حول "قانون الإصلاح الشامل"، في الوقت الذي كانت الاشتباكات العنيفة تدور أمام مقر مجلس الشيوخ، حيث سعى المحتجون إلى جعل المشرعين يرفضون خطة ميلي التقشفية القاسية.
ماذا يريد ميلي؟
يعطي هذا التشريع الرئيس صلاحيات واسعة في مجالات الطاقة والمعاشات والأمن ومجالات أخرى، ويتضمن العديد من الإجراءات التي تعتبر مثيرة للجدل بما في ذلك خطة حوافز سخية للمستثمرين الأجانب والعفو الضريبي لأولئك الذين لديهم أصول غير معلنة وخطط لخصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة في الأرجنتين.
ولا يزال يتعين على مجلس النواب الموافقة على مشاريع القوانين قبل أن يتمكن ميلي من تحقيق أول فوز تشريعي له منذ توليه منصبه.
هذه هي المرة الثانية التي يسعى فيها ميلي للحصول على هذا التفويض، حيث قدمت حكومته خلال مارس/آذار الماضي مشروع "تفكيك الدولة" لإقراره في مجلس النواب، لكنه اضطر إلى سحب نصف القوانين التي يتضمنها، وبلغ عددها 664 قانوناً، حتى يضمن تمريره، وهو ما حدث بالفعل حيث صوت لصالحه 144 عضواً مقابل 109 رفضوه.
اعتبر ذلك انتصاراً جزئياً مؤقتاً، انتظاراً لإقرار المشروع في مجلس الشيوخ ليصبح نافذاً، وكان متوقعاً أن يواجه معارضة شديدة عند مناقشة قوانين تفويض الصلاحيات التشريعية وخصخصة المؤسسات العامة، التي طلبها صندوق النقد الدولي في ذلك الوقت، عندما أقرَّ منح الأرجنتين قرضاً استثنائياً بقيمة 5 مليارات دولار.
سوّق ميلي تلك الصلاحيات الواسعة التي يريدها بالقول إنه "حان الوقت لكي يقرر ممثلو الشعب إذا كانوا بجانب حرية المواطنين أو بجانب مزايا الطبقة السياسية".
ماذا يقول المعارضون؟
آنا إيباراغيري، المحللة الاستراتيجية الأرجنتينية قالت لوكالة AP: "لدينا أضعف رئيس رأيناه على الإطلاق، وهو يحاول تمرير أكبر مشروع قانون رأيناه على الإطلاق. هذا هو التناقض بعينه".
وبينما كان أعضاء مجلس الشيوخ يدققون في مشاريع القوانين، قام المتظاهرون في وسط مدينة بوينس آيرس بإلقاء العصي والحجارة وقنابل المولوتوف على الشرطة التي قامت برش خراطيم المياه ورذاذ الفلفل والغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود الضخمة.
وسكب المتظاهرون البنزين على سيارتين وأشعلوا النار فيهما، ما حول الساحة المركزية إلى ساحة معركة مليئة بالدخان. وأفادت السلطات عن إصابة 20 ضابط شرطة على الأقل واعتقال أكثر من عشرة متظاهرين بسبب أعمال العنف.
ومن القوانين الأكثر إثارة للجدل في المشروع الذي قدَّمه ميلي قانون خصخصة المؤسسات العامة الذي يواجه معارضة شعبية واسعة. واضطرت الحكومة إلى خفض عدد المؤسسات التي تقترح تخصيصها من 41 إلى 27. وتخلّت عن اقتراحها تخصيص شركة النفط الرسمية، واكتفت بطرح تخصيص جزئي لمعظم الشركات العامة الكبرى.
كما تواجه الحكومة معارضة شديدة للموافقة على طلبها الحصول على صلاحيات تسمح لها بالاقتراض الخارجي وتشديد الإجراءات الأمنية من غير الرجوع إلى البرلمان، كما تطالب وزيرة الداخلية.
ومنذ وصوله إلى الحكم، يسعى ميلي إلى أن يكون مُطلَق اليد في طلب قروض خارجية، كما حدث مع الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي حصل على قرض ضخم من صندوق النقد الدولي في عام 2018 وما زالت الأرجنتين إلى اليوم عاجزة عن تسديده.
ومنذ وصول ميلي إلى السلطة وإعلان برنامجه الإصلاحي، تشهد العاصمة الأرجنتينية احتجاجات شعبية واسعة تقودها القوى السياسية والنقابية اليسارية، ونفذت تلك القوى إضراباً عاماً شلّ الحركة في معظم أنحاء البلاد، منتصف شهر مارس/آذار الماضي.
"بلادنا ليست للبيع"
تواجه تشريعات ميلي المقاومة الأشد من جانب النقابات العمالية في البلاد، إذ تجمع المصرفيون والمعلمون وسائقو الشاحنات وآلاف العمال من النقابات الأخرى حول الكونغرس، وهم يقرعون الطبول ويطلقون الأبواق ويهتفون: "بلادنا ليست للبيع!" و"سندافع عن الدولة!".
المعلمة ميريام راجوفيتشر البالغة من العمر 54 عاماً، وهي تحتج قبل التصويت إلى جانب زملائها من الطبقة المتوسطة في الأرجنتين الذين يقولون إنهم اضطروا إلى التصويت، قالت لوكالة AP: "إذا تم إقرار هذا القانون، فسنخسر الكثير من حقوقنا في العمل والمعاشات التقاعدية. سيؤدي هذا إلى إعادة تشكيل حياتنا مرة أخرى بعد أن خفض ميلي ميزانيات المدارس وخفض قيمة العملة، ما دفع التضخم نحو 300٪. أنا الآن أسوأ حالاً بكثير".
ويقول المحللون إن المستثمرين الأجانب وصندوق النقد الدولي، الذي تدين له الأرجنتين بمبلغ مذهل قدره 44 مليار دولار، كانوا يراقبون التصويت عن كثب لمعرفة ما إذا كان ميلي قادراً على بناء توافق في الآراء مع خصومه.
فخلافاً لزعماء الأرجنتين السابقين منذ عودة الديمقراطية في عام 1983، فشل ميلي في تمرير أي تشريع خلال الأشهر الستة الأولى من توليه منصبه، وبدلاً من ذلك، اعتمد على السلطات التنفيذية لخفض الإنفاق الحكومي وإزالة القيود الاقتصادية. لوكاس روميرو، مدير شركة سينوبسيس الاستشارية قال للوكالة الأمريكية: "اليوم، من المهم جداً أن يثبت ميلي أنه قادر على إقرار القوانين في الكونغرس".
كان ميلي قد صعد إلى قمة السلطة بناءً على وعود بأنه سيحل أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها الأرجنتين منذ عقدين، لكن حزبه السياسي المؤلف من مبتدئين نسبياً، بحسب وصف AP، لا يشغل سوى أقلية صغيرة من المقاعد في مجلس النواب، ويكافح من أجل عقد صفقات مع المعارضة.
"الجميع في وضع الانتظار والترقب، بحسب مارسيلو جارسيا، مدير الأمريكتين في شركة هورايزون إنجيدج للمخاطر الجيوسياسية: "يقول المستثمرون (لميلي): نعم، نحن نحب ما تقوله، لكننا بحاجة إلى أن نرى أن هذا مستدام".
"الفقراء يزدادون فقراً"
أحد الإجراءات الأكثر إثارة للجدل هو برنامج الحوافز الذي يقدم للمستثمرين الأجانب إعفاءات ضريبية مربحة لمدة 30 عاماً، وعدم فرض رسوم جمركية على الواردات من الآلات وغيرها من الامتيازات للشركات الكبرى التي يقول المعارضون إنها ستؤدي إلى ضرر كبير على الصناعة المحلية في الأرجنتين.
خوان باريتو، موظف بنك يبلغ من العمر 36 عاماً، قال وهو يتدافع وسط حشود من زملائه أعضاء النقابة: "أكثر ما يضر هذا القانون هو جيوب العمال، وليس الشركات الكبرى التي ستصبح أكثر ثراءً".
كما أعربت النقابات الأرجنتينية عن معارضتها الشديدة للإجراءات التي من شأنها أن تسهل على الشركات فصل الموظفين وكذلك خطط خصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة. وتركزت ردود الفعل العنيفة ضد مشروع قانون الضرائب بشكل خاص على العفو الذي من شأنه أن يسمح للأرجنتينيين بتسجيل الأصول غير المعلنة في الداخل والخارج من دون دفع ضرائب باهظة، فضلاً عن عتبة ضريبة الدخل المنخفضة التي من شأنها أن تجبر المزيد من العمال على دفع الضرائب، وهو ما سيرفع من نسبة الفقراء في البلاد.
وبسبب إحباطه من المقاومة التشريعية، لجأ ميلي على نحو متزايد إلى تعديل نهجه السابق المتمثل في "كل شيء أو لا شيء". ففي وقت سابق من هذا الشهر، وفي محاولة لكسر الجمود، أقال ميلي رئيس حكومته الذي يفتقر إلى الخبرة واستبدله بوزير الداخلية غييرمو فرانكوس، وهو سياسي محترف ماهر في التعامل مع الكونغرس.
وعلى مدى الشهر الماضي، تصاعدت التوترات السياسية وازدادت حدة الاحتجاجات الشعبية، الأمر الذي ألقى بظلال من الشك على قدرة ميلي على الحكم وبث حالة من عدم اليقين في الاقتصاد الأرجنتيني.
فقد انخفضت قيمة السندات السيادية، كما انخفضت قيمة عملة البلاد، البيزو، ما أدى إلى اتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء إلى ما يقرب من 40%. وتم تداول البيزو بسعر 1255 مقابل الدولار في السوق غير الرسمية، وهو معدل أقل بكثير مما كان عليه في وقت سابق من هذا العام.
لكن حتى عندما أشاد صندوق النقد الدولي بأجندة الليبراليين وأطلق سراح شرائح من القروض المجمدة، فقد أحجم الصندوق عن تسليم الأرجنتين أموالاً جديدة يقول ميلي إنه يحتاج إليها لرفع الضوابط على العملة. وفي الوقت نفسه، كان ميلي قد توجه إلى وادي السيليكون والتقى بالمديرين التنفيذيين الكبار في مجال التكنولوجيا، إيلون ماسك وتيم كوك ومارك زوكربيرغ، لكن الاجتماعات لم تسفر عن أي إعلانات عن استثمارات كبيرة في الأرجنتين.
قال جارسيا: "ما تراه في الأسابيع الثلاثة الماضية هو أن السوق والمستثمرين أصبحوا متوترين بعض الشيء. السوق يقول: أرني أنك قادر على الحكم".