يظهر بنيامين نتنياهو على الشبكات الأمريكية بشكل مكثف للغاية ويركز على "الاستعطاف"، بينما رسائله للإسرائيليين بالعبرية مليئة بالتحدي لجو بايدن وإدارته، فماذا يريد رئيس وزراء إسرائيل؟
ففي الوقت الذي تتعرض إسرائيل لعزلة دبلوماسية متصاعدة عالمياً وفشل عسكري ذريع بعد نحو 8 أشهر من عدوانها المدمر على قطاع غزة، وفي الوقت الذي تشهد الساحة الداخلية انقسامات على جميع المستويات، يقضي رئيس الوزراء الإسرائيلي جانباً كبيراً من وقته في إجراء المقابلات التليفزيونية مع الشبكات الأمريكية، متحدثاً باللغة الإنجليزية.
ما الذي يسعى نتنياهو لتحقيقه، في ظل الدعم الأمريكي العسكري والدبلوماسي الذي تحظى به حكومته الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية؟ وما طبيعة الرسائل التي يوجهها باللغة الإنجليزيه للأمريكيين عبر شاشاتهم في مقابل رسائله باللغة العبرية للداخل الإسرائيلي؟
نتنياهو ورسائله عبر الشاشات الأمريكية
يركز نتنياهو في ظهوره على الشاشات الأمريكية على نفس المزاعم التي يرددها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ مظلومية إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها والتعويل على الدعم الأمريكي والتحالف الصلب بين تل أبيب وواشنطن.
يوم 23 مايو/أيار، أجرى نتنياهو مقابلة مطولة مع أحد مذيعي شبكة Foxnews اليمينية، أعاد خلالها نفس الأكاذيب بشأن هجوم المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي مزاعم قطع رؤوس أطفال وحرقهم وغيرها، رغم ثبوت عدم حدوثها على الإطلاق وتراجع وسائل الإعلام الغربية التي سقطت في فخ التضليل في بداية الحرب الجارية. واسترسل نتنياهو في رواياته الخاصة عن إسرائيل التي "تحارب الإرهاب" كما كان الغرب يحارب "النازية" خلال الحرب العالمية الثانية.
أما الهجوم على رفح، حيث يوجد أكثر من 1.4 مليون نازح فلسطيني، فقد كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي مزاعمه بوجود "4 فرق لحماس" في المدينة الجنوبية، وهو ما يمثل 20% من قوة الحركة الفلسطينية، حسب مزاعمه، مبرراً تصميمه على اجتياح المدينة رغم تحذيرات إدارة جو بايدن. لكن نتنياهو كان حريصاً على عدم الخوض في تفاصيل الخلاف مع إدارة الرئيس الأمريكي، رغم سعي محاور الشبكة الداعمة للجمهوريين إلى جره لتلك المنطقة.
كان لافتاً في هذه المقابلة، ومقابلات أخرى أجراها نتنياهو مع شبكات CNN و ABC وغيرهما في اليوم نفسه، ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي أن "80% من الأمريكيين يدعمون إسرائيل مقابل 20% فقط يدعمون حماس"، علماً بأن هذه الأرقام مناقضة تماماً لجميع استطلاعات الرأي التي تظهر تراجعاً كبيراً في الدعم الشعبي الأمريكي لإسرائيل بسبب الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين في غزة. فقد كشف استطلاع لمعهد غالوب الأمريكي في مارس/آذار الماضي أن غالبية الأمريكيين يعارضون الحرب الإسرائيلية على إسرائيل.
التحالف بين أمريكا وإسرائيل استراتيجي
النقطة الرئيسية الأخرى التي يركز عليها نتنياهو في مقابلاته المكثفة مع الإعلام الأمريكي هي أن التحالف بين واشنطن وتل أبيب "مقدس"، وأن "بعض الخلافات في وجهات النظر مع الرئيس جو بايدن واردة. وهذه الخلافات، إن وجدت، سرعان ما يتم التعامل معها في إطار الأهداف المشتركة".
وحتى عندما اتخذ بايدن ذلك القرار "النادر" بتعليق شحنة أسلحة واحدة لإسرائيل، جاءت تصريحات نتنياهو لوسائل الإعلام الأمريكية متوازنة تماماً، فقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي في مقابلة مع التلفزيون الأمريكي عن أمله في أن يتمكن هو وبايدن من تجاوز خلافاتهما إزاء الحرب على غزة، مركزاً مرة أخرى على "التحالف المقدس".
لكن في الوقت نفسه، يواصل نتنياهو تجاهل "مناشدات" بايدن بشأن اجتياح رفح تحديداً، رغم إرسال الرئيس الأمريكي قادة فريقه الأمني والدبلوماسي إلى تل أبيب لإقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بالاستماع "للنصائح قبل فوات الأوان"، بحسب تحليل لصحيفة Asiatimes.
نتنياهو ورسائله بالعبرية
على النقيض تماماً من هذه الرسائل التي يوجهها نتنياهو للأمريكيين عبر شاشاتهم، نجد وجهاً آخر ولغة أخرى يستخدمها رئيس الوزراء اليميني عند توجيه حديثه للإسرائيليين. إذ يرفع نتنياهو راية التحدي في وجه إدارة بايدن ويقول للإسرائيليين إنه سيواصل الحرب حتى لو وقفت إسرائيل بمفردها، وإنهم "سيحاربون بأظافرهم" إذا استدعت الضرورة.
بعيداً عن الطبيعة الشعبوية لتلك التصريحات، يدرك نتنياهو تماماً أن إسرائيل لا يمكنها أن تتحمل فقدان الدعم العسكري الأمريكي، وذلك بسبب حجم المساعدات العسكرية لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فعلى الرغم من أن الإحصائيات الدقيقة قد لا تكون متوفرة بشكل كامل حتى الآن، وذلك لعدد من الأسباب منها حرص إدارة بايدن على ألا تتجاوز كثير من شحنات الأسلحة حدود الإفصاح أو الاعتماد على موافقات قديمة من الكونغرس وبعضها يعود إلى سنوات مضت، وهو ما يمكّن الإدارة من مواصلة إرسال شحنات الأسلحة دون الحصول على تصاريح أو موافقات جديدة، لكن حتى الإفصاح المحدود حتى الآن يكشف عن مدى أهمية إمدادات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل حتى تتمكن من شن الحرب على غزة، بحسب تقرير من واشنطن لصحيفة الغارديان البريطانية.
وعلى الرغم من قرار بايدن "تعليق" شحنة أسلحة إلى إسرائيل مكونة من 1800 قنبلة تزن كل منها ألفي رطل (907 كيلوغرامات) و1700 قنبلة تزن كل منها 500 رطل، إلا أنه ما زالت أسلحة أمريكية بمليارات الدولارات في طريقها إلى إسرائيل، بحسب تقرير لرويترز. بينما قال مساعدون في الكونغرس إن القنابل المؤجلة تقدر قيمتها "بعشرات الملايين" من الدولارات.
كما أخبر المسؤولون في الإدارة أعضاء الكونغرس بشكل سري في مارس/آذار الماضي أن أكثر من 100 من مبيعات أسلحة أجنبية قد تم إرسالها لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ووصلت الأمور إلى حد أن البنتاغون واجهت أحياناً "صعوبات للعثور على طائرات شحن كافية لإيصال أنظمة التسليح وشحنات الذخائر، وذلك بسبب الكم الهائل من تلك الشحنات"، بحسب تقرير لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهي مؤسسة أمريكية.
أخطاء نتنياهو الكارثية
لكن ما يبدو أن نتنياهو لا يدركه هو أنه يقود إسرائيل إلى مسار تدميري بسرعة الصاروخ، بحسب مقال لصحيفة جيروزاليم بوست. "هل يدرك نتنياهو أن مواصلته المسار الحالي سيضمن له يقيناً مكاناً في التاريخ كأكثر قادة إسرائيل تدميراً وإثارةً للجدل؟"، تتساءل كاتبة المقال.
التركيز في هذا المقال ينصبّ على استراتيجية نتنياهو للتعامل مع واشنطن على مدى الأشهر الثمانية الماضية، في ظل الدعوة التي قد يتلقاها نتنياهو في أي لحظة للسفر إلى واشنطن وإلقاء خطاب أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأمريكي.
الموقف الآن شبيه بما قام به نتنياهو أيضاً عام 2015 أثناء الولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي أيضاً على خلاف مع أوباما بسبب سعي الأخير لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران. سافر نتنياهو إلى واشنطن دون علم البيت الأبيض، حسبما أفاد تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، وألقى خطاباً أمام جلسة مشتركة للكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ (وكان كلاهما فيه أغلبية جمهورية).
وجّه نتنياهو انتقادات حادة لأوباما وإدارته الديمقراطية وحذر الأمريكيين من توقيع اتفاقية نووية مع إيران. لكن جهود رئيس الوزراء الإسرائيلي فشلت في الإتيان بأي ثمار لها، حيث وقعت إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران بالفعل بعد أشهر قليلة من خطاب نتنياهو ذاك.
لكن نتنياهو لم يتوقف وواصل جهوده لدعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي فاز بالرئاسة في انتخابات 2016، وحقق لنتنياهو ما سعى إليه وانسحبت أمريكا ترامب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، معيداً فرض العقوبات على طهران، فماذا كانت النتيجة؟
بعد خسارة ترامب ومجيء بايدن إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021، حاول الرئيس الديمقراطي إعادة إحياء الاتفاق النووي مرة أخرى، وسط معارضة شرسة أيضاً من جانب نتنياهو. لكن مع مرور الوقت تعالت الأصوات، داخل إسرائيل والولايات المتحدة، واصفة انسحاب ترامب من الاتفاق النووي بأنه كان "أكبر خطأ تم ارتكابه في السياسة الأمريكية تجاه إيران خلال عقود". نتنياهو بالطبع تلقى النصيب الأكبر من هذا اللوم.
هل تواجه إسرائيل المجهول؟
الآن يكرر التاريخ نفسه ويسعى نتنياهو إلى التوجه لواشنطن ومخاطبة الكونغرس أيضاً على أمل المساعدة في التخلص من رئيس ديمقراطي آخر وإعادة ترامب إلى البيت الأبيض، لكن هذه المرة يمكن وصف ما يسعى إليه نتنياهو بأنه "الرقصة الأخيرة للمهزوم"، لماذا؟
– لم يحقق نتنياهو وحكومته وجيش الاحتلال أياً من أهدافهم المعلنة من الحرب على غزة بعد ما يقرب من 8 أشهر؛ لم يتم تحرير الأسرى ولم يتم القضاء على حركة حماس، ولم يتم تأمين غلاف غزة ولا مستوطنات شمال إسرائيل، ولم يقترب أي من هذه الأهداف من التحقيق.
– في الوقت الذي يصر نتنياهو على مواصلة الحرب واقتحام رفح، بدعوى وجود 4 كتائب لحماس هناك بعد القضاء على 80% من قوة المقاومة الفلسطينية في شمال ووسط قطاع غزة، لا تزال المقاومة صامدة وتوقع خسائر فادحة في صفوف جيش الاحتلال في جميع مناطق القطاع، وبخاصة في جباليا في الشمال، ولا تزال الصواريخ تنطلق من غزة باتجاه المناطق الإسرائيلية وصولاً إلى تل أبيب.
– يواصل جيش الاحتلال ارتكاب مجازره بحق المدنيين الفلسطينيين، وكان آخرها مجزرة المخيمات في رفح، والتي ارتقى وأصيب بسببها مئات المدنيين، وهو ما تسبب في زيادة الغضب حول العالم تجاه الاحتلال وجرائمه، لتزداد عزلة إسرائيل بشكل لافت، ويزداد الانقسام بأن دعمها على أراضي الحليف الأكبر والأهم وهو الولايات المتحدة.
يضاف إلى هذا المشهد انقسام داخلي غير مسبوق في تاريخ الدولة العبرية وخلافات حادة على جميع المستويات، العسكرية والسياسية والاجتماعية، وكل هذا في وقت الحرب.
لكن نتنياهو لا يبالي، بل يخطط لأن "يترشح في الانتخابات القادمة إذا ما أجريت ولا شك لديه بأنه سيفوز"، بحسب تقرير لصحيفة تايمز أوف إسرائيل، فعلى ماذا يعول نتنياهو؟
"لا يفكر نتنياهو إلا في بقائه رئيساً للوزراء ولا يوجد أي سبب يدعونا للاعتقاد أن نتنياهو سيقول "كفى!" بصورة طوعية، ولو حتى لأجل خاطر بقاء إسرائيل كدولة"، بحسب مقال جيروزاليم بوست.
في هذا السياق، يبدو نتنياهو أكثر انشغال بالانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين المقبل منه بالوضع الكارثي الذي تواجهه إسرائيل الآن ولا بالتداعيات المستقبلية الكارثية التي تنتظرها، بحسب معارضيه في إسرائيل والولايات المتحدة.
هل يهاجم بايدن ويدعم ترامب فعلاً؟
رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري مايك جونسون قال الخميس 23 مايو/أيار إن نتنياهو سيلقي كلمة قريباً أمام جلسة مشتركة للكونغرس، وسط تصاعد التوتر مع الرئيس جو بايدن بشأن التعامل الإسرائيلي مع الحرب على غزة. جونسون أعلن ذلك خلال خطاب ألقاه في حفل سنوي للسفارة الإسرائيلية في واشنطن، مضيفاً أن ذلك سيكون "مؤشراً قوياً على الدعم للحكومة الإسرائيلية في وقت تشتد فيه حاجتها إليه".
من المؤكد أن مثل هذه الخطوة ستزيد من غضب بعض الديمقراطيين الذين يتزايد انتقادهم للحرب الإسرائيلية على غزة ودعم بايدن لها، بحسب تقرير لرويترز.
ورفض البيت الأبيض التعليق عندما سئل عما إذا كان قد تم استشارته بشأن الدعوة الموجهة لنتنياهو أو ما إذا كان بايدن، الذي نفى عقد اجتماع مع الزعيم الإسرائيلي في المكتب البيضاوي، قد يلتقي به في واشنطن.
وجه جونسون انتقاداً مبطناً لبايدن، قائلاً إن "بعض القيادات" سعت إلى حجب "أسلحة حيوية" عن إسرائيل. وعلق بايدن مؤقتاً شحنة من القنابل وحذر من أنه قد يؤخر شحنات أخرى إذا نفذ نتنياهو هجوماً برياً شاملاً على مدينة رفح المكتظة بالنازحين في جنوب غزة. لكن تدفق الأسلحة مستمر في الغالب.
نتنياهو، في حالة توجهه إلى واشنطن لإلقاء هذا الخطاب، سيدلي بدلوه على الأرجح في السباق الانتخابي الأمريكي، وميله نحو الجمهوريين ليس سراً، لكن السؤال هنا: كيف قد يهاجم إدارة بايدن الآن وهو يعوّل عليها لحمايته من الملاحقة الدولية إذا ما أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال بحقه كما طلب مدعيها العام كريم خان؟ هكذا تساءل مقال جيروزاليم بوست.