لا تتوقف الخلافات الإسرائيلية الداخلية عن التصاعد حول مجريات العدوان الجاري على غزة، وتدخل فيها الاعتبارات الشخصية والحزبية للوزراء من أعضاء المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية خصوصاً وزراء اليمين، أو أعضاء الكنيست من داخل الائتلاف اليميني ذاته، مما يعطي صورة مشوهة عن الواقع السياسي الإسرائيلي.
عديدة هي مواطن الخلاف بين جنرالات الجيش والأجهزة الأمنية من جهة، وبين وزراء اليمين في الحكومة من جهة أخرى، لا سيما حالة استبعاد هؤلاء من أي جلسات تقييم يعقدها العسكر الإسرائيليون، مما يحمل إقراراً بعدم أهليتهم للمشاركة في هذه النقاشات، ويدفع تلك الأوساط الحزبية لاتهام الجيش بالكذب على الإسرائيليين، واستغلال القاعدة القائلة: "عندما تدوي المدافع تصمت الألسنة"، وممارسة إرهاب فكري عليهم لعدم انتقاده.
الوزراء الثرثارون آخر الأزمات التي تشهدها الحلبة السياسية والحزبية الإسرائيلية تمثلت فيما كشف النقاب عنه من قيام الأجهزة الأمنية بحجب معلومات أمنية حساسة عن وزراء في (الكابينت) خشية تسريبها، أو تشكيل خطر على أمن إسرائيل، وبالتالي أصبح هؤلاء الوزراء مستبعدين عن هذه المعلومات الاستخبارية، مما يدفعهم لاتخاذ قرارات دون اطلاعهم على المعلومات الكاملة.
عند ذكر الأجهزة الأمنية التي تحجب تلك المعلومات الحساسة، فإن الحديث يدور عن جهاز الأمن العام (الشاباك)، وجهاز العمليات الخارجية (الموساد)، وجهاز الاستخبارات العسكرية (أمان)، ويعتبرون من الحاضرين الدائمين في اجتماعات "الكابينت"، وهو الجهة المسؤولة عن صوغ السياسات الأمنية والسياسية والعلاقات الخارجية، ويجري فيه خوض مناقشات معمّقة، واتخاذ قرارات بقضايا حساسة، ويوجد فيه 13 وزيراً، برئاسة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
مثلت هذه الخطوة من قبل رؤساء الأجهزة الأمنية ذروة عدم الثقة من قبلهم بأعضاء الكابينت الذين يوصف بعضهم بـ"الثرثرة"، وإفشاء معلومات أمنية حساسة لوسائل الإعلام وفي المجالس الخاصة، ومنذ بداية الحرب على غزة سُجلت عدة حالات تسريب لمعلومات مفصلة من جلسات الكابينت، شكّل بعضها خطراً على عمليات عسكرية وعلى جنود الاحتلال في الميدان في قلب غزة.
أكثر من ذلك، ففي العديد من جلسات الكابينت في الأشهر الأخيرة، ومنذ اندلاع حرب غزة، سُئل رؤساء الأجهزة الأمنية من قبل الوزراء حول قضايا حساسة، لكنهم ردّوا عليهم بأنهم لا يستطيعون الإجابة عن أسئلتهم خشية تسريب المعلومات، والمسّ بأمن الدولة، لأنهم بدلاً من حفاظ الوزراء على الأمن، فإنهم يشكّلون خطراً عليه"، ولذلك زادت التحذيرات في الآونة الأخيرة من مخاطر هذه التسريبات الأمنية، وزعم نتنياهو أنه سيتخذ جملة خطوات لرصد الوزراء المسرّبين، دون جدوى، كما طرحت إمكانية عرض الوزراء على آلة كشف الكذب، لكن هذا لم يحدث أيضاً.
حتى أن الإسرائيليين يطلقون على ابن غفير بأنه "وزير التيك توك"، بسبب إدمانه على هذه المنصة، وانشغاله الدائم بها على حساب مهامه الوزارية الحساسة، ويسعى بصورة حثيثة لأن يتصدر عناوين الأخبار من خلال تحقيق سبق صحفي، والحصول على "تريند" لدى المتابعين الإسرائيليين، حتى أن جهاز الشاباك أبرم اتفاقاً مع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال العام الماضي لعدم تصعيد إضرابهم عن الطعام، دون إشراك ابن غفير في تفاصيل الاتفاق، رغم أنه وزير الأمن القومي، ومن مهامه الأساسية الإشراف على السجون الإسرائيلية، مما جعله مادة دسمة لسخرية الإسرائيليين منه بسبب تجاهله المهين.
حجب المعلومات عن وزراء اليمين
لا يمكن النظر لهذه المسألة بأنها مهنية بحتة، تتعلق بتسريب المعلومات، أو ثرثرة الوزراء فقط، بل تعود في جذورها إلى خلاف مستحكم بين وزراء اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو، خاصة إيتمار بن غفير وبيتسلئيل سموتريتش، وزيرا الأمن القومي والمالية على التوالي، ورؤساء الأجهزة الأمنية خاصة رونين بار رئيس الشاباك، وديفيد بارنياع رئيس الموساد، وقائد الجيش هآرتسي هاليفي، فهؤلاء الثلاثة يتبنون موقفاً من حرب غزة مفاده أنه لابد من إيجاد حل سياسي في نهاية الحرب التي لا يمكن لها أن تستمر حتى إشعار آخر، وبلا نهاية.
أما وزراء اليمين الذين يُحكمون سيطرتهم على نتنياهو فليس لهم من موقف من الحرب إلا استمرارها، رغم أن أعضاء حزبيهما "العصبة اليهودية والصهيونية الدينية"، لا يخدمون في صفوف الجيش، وبالتالي فهم لا يدفعون ثمناً بشرياً في حال واصلت المقاومة الفلسطينية حصد المزيد من أرواح جنود الاحتلال في معارك غزة.
وفيما تدفع المؤسسة الأمنية والعسكرية قُدماً باتجاه إبرام صفقة تبادل أسرى مع حماس، فإنها تواجه برفض صارم من قبل هذا التيار المتشدد في الحكومة، بزعم أن أي صفقة مع حماس تعني إقراراً بوجودها، وإفشالاً لأهداف الحرب، وتعبيد الطريق أمام الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم في الصفقة للعودة من جديد إلى مسيرة المقاومة، وهي كلها تبريرات يرفضها جنرالات الجيش والمخابرات الذين لا يترددون في اتهام هؤلاء الوزراء بالتفريط بحياة الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، وعدم الاهتمام بعودتهم لعائلاتهم.
في الوقت ذاته، يحتفظ قادة الأجهزة الأمنية بمعلوماتهم الحساسة لعرضها في مكان آخر غير الكابينيت، وهو "مجلس الحرب" ويتكون من نتنياهو رئيساً، وعضوية الجنرالات غالانت وبيني غانتس وغادي آيزنكوت وهاليفي، وهؤلاء الأربعة مجتمعون على خلاف حاد مع وزراء الحكومة من اليمين الفاشي، ليس لأنهم أقل منهم يمينية، ولكن لأن مواقفهم منسجمة مع الجيش في الميدان، وهم بحكم خبرتهم القتالية يفهمون ويدركون مرامي استمرار الحرب بهذه الطريقة العبثية، أكثر بكثير من زمرة "الثرثارين" في الحكومة والكابينيت، الذين يتصدرهم سموتريتش وابن غفير، اللذين طالبا نتنياهو عدة مرات بإقالة أولئك الجنرالات، وحلّ مجلس الحرب.
وزراء اليمين يعطلون صفقة طائرات للجيش
ينتقل الخلاف هذه المرة بين وزراء اليمين الفاشي والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى تباين مواقفهما حول صفقة عاجلة لشراء طائرات مقاتلة جديدة طلبها وزير الأمن يوآف غالانت وقائد الجيش هاليفي بغرض استخدامها في مجريات الحرب على غزة، الأمر الذي كان يُتوقع منه موافقة سموتريتش عليها، وبدون تردد، مع العلم أنه بجانب حيازته لوزارة المالية، فهو كذلك وزير بوزارة الأمن، لكنه بدلاً من ذلك غادر في الساعات الأخيرة اجتماع الكابينيت السياسي الأمني، بسبب هذا الخلاف.
يدور الحديث عن سربين من طائرات مقاتلة من طراز F35 وF15، حصل عليها غالانت خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة نهاية آذار/ مارس، ووافقت عليها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. لم يتوقف الخلاف عند هذا المستوى غير اللائق بمغادرة اجتماع يناقش قضية أمنية عسكرية حساسة، بل أصدر سموتريتش بياناً هاجم فيه غالانت وهاليفي، ووصف سلوكهما بـ"الغطرسة والاستهتار"، مما حدا بهما للرد عليه بقوة، متهمينه بإعاقة إبرام هذه الصفقة، وتأخيرها إلى ثلاث سنوات قادمة، والتسبب بارتفاع آخر في سعرها بنحو مليار شيكل.
ليس ذلك فحسب، بل إن أوساط وزارة الأمن وهيئة الأركان اتهمت سموتريتش بإدخال الاعتبارات الحزبية الضيقة إلى داخل "قمرة قيادة الطائرة"، وينسى أننا نخوض حرباً متعددة الجبهات، مما يعني إضراراً خطيراً بأمن الدولة. في ذات الجلسة العاصفة، طلب غالانت وهاليفي من سموتريتش زيادة في ميزانية الدفاع الخاصة بالجيش لمواجهة النفقات المتصاعدة في حرب غزة، لكنه خاطبهم قائلاً: "خسارة على الوقت، سنناقشها الأسبوع القادم"، مما حمل استهتاراً بمطالب الجيش الملحّة في هذه المرة، ودفعت أوساطه لتحميل رئيس الحكومة مسؤولية حالة اللامبالاة تجاه وضع غير مريح يشعر به الجيش في المعارك التي يخوضها في غزة، لا سيما حاجته الماسة للذخيرة والمعدات العسكرية.
قانون التجنيد
انتقل الخلاف الثالث هذه المرة بين وزراء اليمين الديني المتطرف ومؤسسة الجيش إلى مسألة قانون التجنيد الذي تسبب بضجة كبيرة داخل الحكومة، ففيما كرروا مواقفهم التقليدية بعدم الخدمة العسكرية في صفوف الجيش، بزعم تفرغهم للقضايا الدينية ومدارس التوراة، لكن ممثلي الجيش والأجهزة الأمنية اعتبروا أن تخلّي الأحزاب الدينية عن الجيش في الحرب التي وصفوها بـ"الوجودية" التي يخوضها في غزة يتنافى مع قسم الولاء للدولة، وتنصلاً من مسؤولياتهم الوطنية والدينية تجاه الدولة.
مع العلم أن رفض مواقف الأحزاب الدينية في الائتلاف الحكومي لم يقتصر على غالانت وهاليفي وقادة الجيش، بل انتقل إلى مزيد من أعضاء حزب الليكود المسيطر على الائتلاف، وأهمهم: يولي إدلشتاين، دان إيلوز، وإيلي دلال، وتالي غوتليب، الذين اعتبروا جميعاً أن قانون التجنيد بصيغته الحالية يضرّ بشكل خطير بمسألة المساواة في العبء بين الإسرائيليين تجاه الحفاظ على أمن الدولة، وأعلنوا أنهم لن يصوتوا لصالحه، بزعم أننا "في زمن الحرب العظمى"، واصفين القانون الحالي بأنه "مثير للاشمئزاز، يمزّق الإسرائيليين، وغير عادل، ويجب إزالته من جدول أعمال الكنيست".
حاول زعماء اليمين "الدفاع" عن مواقفهم برفض الانخراط في الجيش من خلال اتباع سياسة "الهجوم" على جنرالاته، سواء في مداخلاتهم على منصة الكنيست، وأمام شاشات التلفزة، وفي تصريحاتهم الصحفية، رافضين تبني روايات الجيش وبلاغاته، بل يطالبون بالتدقيق فيها، وعدم التردد في القول إن أكاذيبه باتت مفضوحة حول ما يدعيه عن تحقيق النصر في غزة. مع العلم أن كل ذلك يساهم في زيادة أزمة الثقة بين الإسرائيليين وجيشهم، عقب تحوّل شبكات التواصل الاجتماعي ساحة للمعارك والسجال بين معسكر الجيش وأنصاره، وتيار اليمين ومؤيديه، لأنها زخرت بتعليقات ومنشورات متناقضة لمسؤولين وقادة أحزاب ووزراء تهاجم الجيش، وتتهمه بالعجز أمام المقاومة الفلسطينية في غزة، مما اعتُبر واحداً من مظاهر "شق عصا الطاعة" على "الإجماع القومي الصهيوني" حول الحرب.
مستقبل غزة
خلاف رابع وجد طريقه إلى حكومة اليمين بين وزرائها وجنرالات الجيش، تمثل في مستقبل السيطرة على قطاع غزة، ففي حين يرفض الجيش وأجهزة الأمن عموماً، وغالانت وهاليفي خصوصاً، أي تواجد إسرائيلي في غزة مستقبلاً، فإن ذلك الموقف يواجه بهجوم حادّ من قبل وزراء اليمين الذين يعتبرون الحرب على غزة فرصة تاريخية قد لا تتكرر لعودة الاستيطان مجدداً إليها، بزعم تصحيح خطأ تاريخي ارتكبه رئيس الحكومة الراحل أريئيل شارون حين انسحب منها في 2005.
بل إن هؤلاء الوزراء وأعضاء الكنيست اليمينيين شاركوا في مؤتمر عقد قبل أسابيع جمع العشرات من قادة اليمين الإسرائيلي، يدعو الحكومة لإعادة بناء مستوطنات غوش قطيف ونتساريم في وسط قطاع غزة، الأمر الذي جوبه حينها بغضب كبير في أوساط الجيش وأجهزة الأمن، لأنه يحرف الحرب عن مسارها المتفق عليه، ويسعى لتوظيفها لاعتبارات حزبية وأيديولوجية مرفوضة من وجهة نظره، رغم أن أعضاء الكنيست من حزب الليكود ذاته، مثل موشيه سعدة وعاميت ليفي، يتهمون الجيش بالفشل في أدائه العسكري في غزة، مما يؤلّب الرأي العام الإسرائيلي ضده.
في الوقت ذاته، يواصل وزراء اليمين وأعضاء الكنيست الهجوم على غالانت وهاليفي اللذين دعوا لإيجاد حل سياسي في غزة بالتزامن مع استمرار الحرب، مما دفع ابن غفير وشلومو كرعي وزير الاتصالات لاتهامهما بأنهما ناشطان في حزب يساري، وليس الليكود، وغير قادرين على تحقيق الانتصار على حماس.
مع العلم أن المؤسسة العسكرية والأمنية عموماً تتبنى موقف الوزير والجنرال، انطلاقاً من قناعتها بأن استمرار الحرب بهذه الطريقة التي تصفها بـ"العبثية" لن تؤدي إلا لمزيد من الخسائر في صفوف الجنود، فيما تواصل حماس تقوية نفسها، وعودتها للأماكن التي ينسحب منها الجيش عقب كل عملية، وقد أثبتت اجتياحات أحياء جباليا والزيتون من جديد هذه الفرضية.
تساحي هنغبي رئيس مجلس الأمن القومي لم يسلم هو الآخر من هجوم أعضاء الكنيست اليمينيين المتطرفين ووزراء الحكومة، مع أنه الأكثر قرباً من نتنياهو، لكنه جوبه بهجوم كبير عليه عقب اعترافه بعدم تحقيق أهداف الحرب رغم مرور ثمانية أشهر عليها: فلا تم استعادة المختطفين من غزة، ولا تم القضاء على حماس، ولا إعادة المستوطنين لمنازلهم في غلاف غزة، مما دفع عضوة الكنيست من الليكود تالي غوتليب وآخرين لمهاجمته، وعدم التردد في القول خلال اجتماع للجنة الخارجية والأمن البرلمانية، أننا "لا نثق بكم، ولا بالقيادة، أنتم جبناء، لستم قادرين على النصر".
لا يحتاج المراقب إلى عناء كبير كي يدرك أنه في الوقت الذي تخوض فيه إسرائيل حربها الدموية ضد الفلسطينيين في غزة، فإن هناك حرباً أخرى، ليست أقل دموية، سائدة بين الإسرائيليين أنفسهم، وعلى كل المستويات، وفيما يقرر الجيش تنفيذ المزيد من عملياته العسكرية العدوانية على الفلسطينيين، ينخرط الإسرائيليون في جدل عقيم أخذ طابع الاصطفافات الحزبية حول هذه العمليات، بين مؤيد ومعارض، خاصة زيادة انتقادات اليمين المتشدد، ودعوتهم لتشديد العدوان، وتوجيه سيل من التحليلات التي تمحورت حول مفردات "فشل الجيش"، و"خيبة الأمل"، و"خسارة المعركة أمام حماس"، و"تآكل قوة الردع".