بعد 7 أشهر من الحرب على غزة٬ لا يمكن أن تكون المخاطر أعلى كما هي اليوم في رفح، ففي الوقت الذي تزعم به إسرائيل أن هجومها على آخر معقل لحماس٬ يرى آخرون أن الهجوم الكارثي أفشل المفاوضات حول صفقة الرهائن، ويخشى العالم أن يتحول الأمر إلى مأساة إنسانية غير مسبوقة، تؤدي إلى مقتل آلاف آخرين من الفلسطينيين وتشريد نحو مليون إنسان٬ في ظل حالة من العجز تبديه إدارة بايدن أمام حكومة نتنياهو٬ لا تستطيع ردعه عن مواصلة هذه الحرب.
وتقول مجلة Economist البريطانية إن حالة من الدراما أحاطت بالحملة العسكرية الإسرائيلية التي عاد الجيش الإسرائيلي ليشنها على مناطق مثل حي الزيتون أو جباليا بشمال غزة٬ والتي بدأت بالتزامن مع القتال في رفح. وحارب الجيش الإسرائيلي هناك العام الماضي، ثم عاد لشن هجوم استمر أسبوعين في فبراير/شباط٬ والآن يعود للمرة الثالثة، وربما ليست الأخيرة٬ ليصبح الجيش الإسرائيلي عالقاً في حلقة من الموت في غزة.
الجيش الإسرائيلي عالق بحلقة الموت في غزة
تقول الحملتان العسكريتان الكثير عن المجهود الحربي الإسرائيلي المتعثر في رمال غزة. وتقول الإيكونومست إن الحديث عن رفح باعتبارها آخر معقل لحماس مبالغ فيه بشكل كبير٬ فمقاتلي حماس يختفون مثل الأشباح. وتحاول الحركة إعادة تأكيد سيطرتها على أجزاء واسعة من غزة٬ وبعد ثمانية أشهر من الحرب، ليس لدى إسرائيل خطة لكيفية منع ذلك.
وكان رفض بنيامين نتنياهو، الحديث عن ترتيبات ما بعد الحرب، سبباً في نفور الرئيس الأمريكي جو بايدن، وعلى نحو متزايد، جنرالاته أيضاً. وبدأت إسرائيل توغلها في رفح يوم 6 أيار/مايو، عندما أسقطت منشورات تحث السكان على إخلاء المناطق الواقعة على أطراف المدينة. تحركت القوات ببطء، حيث سيطرت أولاً على معبر رفح بين مصر وغزة وعلى عدة كيلومترات من الأراضي على طول الحدود. وبحلول 14 مايو/أيار، وردت تقارير عن وجود دبابات إسرائيلية في الأحياء السكنية شرق رفح، لكنها كانت لا تزال على مسافة من وسط المدينة.
بالنسبة لإسرائيل٬ الحدود لها قيمة استراتيجية. لعقود من الزمن، كانت المنطقة مليئة بالأنفاق، التي استخدمتها حماس لتهريب الأسلحة ومعدات البناء وغيرها من المواد إلى غزة في ظل حصار خانق. وتظن إسرائيل أنه لا يزال هناك أنفاق رغم تشديد مصر٬ وأن قطع خطوط إمداد الحركة أمر مهم، على الرغم من أنه يخاطر أيضاً بحدوث أزمة مع مصر المجاورة، التي كانت غاضبة لأن إسرائيل لم تعطها إشعاراً قبل الاستيلاء على المعبر.
حرب عصابات في رفح وجباليا
مع ذلك، بالنسبة للعديد من السياسيين الإسرائيليين، فإن التركيز الحقيقي للهجوم على رفح هو حماس نفسها. ويزعم الجيش الإسرائيلي أن 19 كتيبة من أصل 24 كتيبة قد تم "تفكيكها" (وهذه مزاعم مفتوحة للتأويل)، ولا تزال أربع منها سليمة في رفح. وقد اكتسبت هذه الكتائب أهمية رمزية بالنسبة لبعض المسؤولين الإسرائيليين: لقد تحدث نتنياهو عنها منذ أشهر.
ومع بدء الهجوم الإسرائيلي، يعتقد مسؤولو الجيش أن حماس قد نقلت بالفعل جزءاً من قواتها إلى أماكن أخرى. وسوف تترك كتيبة في رفح لمهاجمة جيش الدفاع الإسرائيلي، ولكن لن تكون هناك مواجهة دراماتيكية: فمثلها مثل أغلب حركات حرب العصابات، سوف ترغب حماس في تجنب الدخول في صراع مباشر مع عدو أفضل تسليحاً مع استنزاف الجيش الإسرائيلي.
وبدلاً من ذلك، فإنها تهاجم إسرائيل في أماكن أخرى أيضاً٬ وفي الأيام الأخيرة، قصفت حماس ممر نتساريم، وهو خط من المواقع الاستيطانية الإسرائيلية سابقاً٬ كان يمتد بعرض قطاع غزة؛ وأطلقت حماس الصواريخ على قاعدة عسكرية في كرم أبوسالم؛ وأطلقت وابلاً من الصواريخ على سديروت وعسقلان في جنوب إسرائيل٬ كما وجهت ضربات مميتة للجيش الإسرائيلي في جباليا شمال قطاع غزة٬ مما يعني أن الحركة لا تزال تتمتع بقوة ومرونة تكتيكية في أرض المعركة.
وتحاول كتائب القسام المحافظة على نقاط قوتها وتمركزها في شمال غزة٬ وصد الاختراقات الإسرائيلية المتعثرة في جبهات عديدة تحاول تطويق مناطق الشمال واختراق جباليا التي لا يزال بها نحو 200 ألف مدني يرفضون النزوح منها.
بايدن لم يستطِع الحفاظ على تهديداته بقطع الدعم العسكري عن إسرائيل
يتحدث الاستراتيجيون في كثير من الأحيان عن نهج "السيطرة والبناء" في "مكافحة التمرد": تطهير منطقة ما من المسلحين٬ والتمسك بالمكاسب وبناء بديل. إسرائيل تقول إنها تحاول فعل الجزء الأول فقط. وباستثناء ممر نتساريم، لم تكن هناك أي قوات إسرائيلية تقريباً في غزة طوال الشهرين الماضيين، الأمر الذي أدى إلى خلق فراغ حاولت حماس حتماً ملئه والاستعداد لتوجيه ضربات للإسرائيليين العالقين في حلقة الموت الآن.
وقبل أسبوعين، قام بايدن بتأخير شحنة مكونة من 3500 قنبلة موجهة كان من المقرر تسليمها إلى إسرائيل. وفي مقابلة أجريت معه يوم 8 أيار/مايو، هدد بالذهاب أبعد من ذلك، قائلاً إنه سيقطع إمدادات القنابل وقذائف المدفعية إذا مضت إسرائيل قدماً في هجومها على رفح. كانت كلمات بايدن مفاجئة للإسرائيليين، لكن بعد أسبوع، أخطرت إدارته الكونغرس بأنها تقدم شحنة بقيمة مليار دولار من المساعدات العسكرية، والتي تضمنت قذائف دبابات ومدافع هاون. ومع ذلك فقد أثار ضجة في واشنطن حيث اتهمه الجمهوريون وبعض الديمقراطيين بتقييد أيدي إسرائيل في رفح.
مع ذلك، لم يطالب بايدن أبداً إسرائيل بالامتناع عن مهاجمة المدينة التي تؤوي عشرات آلاف النازحين، واكتفى بوضع خطة لإجلاء المدنيين إلى المناطق التي تتوفر فيها مساعدات إنسانية كافية. وتجري الآن عملية الإخلاء: فقد نزح ما يقدر بنحو 600.000 فلسطيني من رفح هذا الشهر تحت القصف الجوي الذي قتل مئات المدنيين. لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق. وتوجه بعض الفلسطينيين إلى المواصي، وهو شريط ساحلي قاحل صنفته إسرائيل على أنه "منطقة إنسانية". وعاد آخرون إلى مدن أبعد شمالاً، مثل خان يونس ودير البلح، والتي كانت قد تعرضت بالفعل لشهور من القتال.
ويصف الوافدون الجدد إلى المواصي الظروف غير الإنسانية، حيث تتكدس الخيام على الكثبان الرملية، ولا يتوفر سوى القليل من الطعام والمياه، ولا توجد بنية تحتية للصرف الصحي. وبعد أن استولت إسرائيل على معبر رفح في وقت سابق من هذا الشهر، أوقفت مصر تسليم المساعدات. وقد تم إغلاق معبر كرم أبو سالم مراراً.
وفي الأسبوع الذي بدأ يوم 6 مايو/أيار، دخلت فقط ست شاحنات محملة بالمساعدات إلى جنوب غزة. ويقول عمال الإغاثة إن الإمدادات تتضاءل في جميع أنحاء الجنوب مع تحرك مئات الآلاف من الأشخاص، وليس الإخلاء المنظم الذي حث عليه بايدن على الإطلاق.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتجاهل فيها نتنياهو مطالب بايدن. وقد رفض الحديث عن "اليوم التالي" في غزة، على الرغم من مناشدات المسؤولين الأمريكيين. لقد روَّج الأمريكيون لخطتهم الخاصة، والتي تبدأ بالتزام إسرائيلي بالسماح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى غزة. ومن هناك يأملون في التوسط في اتفاق ثلاثي تقوم فيه السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقد يؤدي ذلك إلى إطلاق العنان للدعم العربي لإعادة الإعمار واستئناف عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
إسرائيل سوف تخوض حرباً بلا نهاية مع حماس
في النهاية٬ فإن القول بكل هذا أسهل من الفعل: فمن الصعب أن نتصور، على سبيل المثال، أن السلطة الفلسطينية الضعيفة والفاسدة قادرة على حكم غزة بشكل فعال. واستبعد نتنياهو إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة وأمضى أشهراً في مساواة السلطة الفلسطينية بحماس. ويريد حلفاؤه من اليمين المتطرف إعادة بناء المستوطنات اليهودية التي قامت إسرائيل بتفكيكها في عام 2005. ورغم أن نتنياهو لا يشاركهم هذا الهدف، فإنه لا يريد أن يزعجهم من خلال الوعد بالسيطرة الفلسطينية على غزة. وبدلا من ذلك، سمح للمنطقة بالانتقال إلى الفوضى وتوريط الجيش في رمال غزة.
وقد تذمر الجنرالات الإسرائيليون بشأن هذا الأمر سراً لعدة أشهر. وفي مؤتمر صحفي عُقد في 14 أيار/مايو، سُئل دانييل هاغاري، المتحدث باسم الجيش، عما إذا كانت الهجمات المتكررة في شمال غزة هي نتيجة لفشل الحكومة في وضع خطط ما بعد الحرب. وقال: "ليس هناك شك في أن وجود بديل لحماس سيشكل ضغطاً عليها، لكن هذه مسألة تتعلق بالمستوى السياسي". بالنسبة للعديد من الإسرائيليين، بدت كلماته وكأنها توبيخ نادر لسياسة نتنياهو.
وفي اليوم التالي، حذَّر يوآف غالانت، وزير الدفاع، من أن إسرائيل قد تتجه نحو حكم عسكري طويل الأمد في غزة. وقال أنتوني بلينكن، وزير الخارجية، لشبكة سي بي إس، وهي شبكة إذاعية، محذراً من مخاطر ترك الفراغ لحماس٬ على حد تعبيره؛ حيث إن الحركة تستطيع إعادة بناء نفسها في كل مرة.
ودفع جيش الدفاع الإسرائيلي باتجاه شن هجوم بري كبير في أكتوبر/تشرين الأول، وهو يعلم تمام العلم أن نتنياهو سيكون كارهاً للحديث عن دبلوماسية ما بعد الحرب. ودعمت أمريكا هذا الهجوم. لقد أدركوا متأخرين ما كان ينبغي أن يكون واضحاً قبل أشهر: أنه بدون خطة لتأمين غزة وحكمها، فإن إسرائيل سوف تخوض حرباً بلا نهاية مع حماس التي لن تستسلم بسهولة.