الأحداث التي تشهدها الجامعات الأمريكية، من احتجاجات ضد الحرب على غزة وانتقادات لإسرائيل وإدارة بايدن، حديث العالم، خاصة بعد تدخل الشرطة العنيف لفضها، فمن يمول تلك المؤسسات؟ وما قصة "الأوقاف" الخيرية؟ ومن يديرها؟
التساؤلات بشأن "الأوقاف" أو التمويل لتلك الجامعات الأشهر عالمياً، مثل هارفارد وييل وكولومبيا وغيرها، تأتي على خلفية المطالب التي يسعى المحتجون لتحقيقها، ومنها "وقف الاستثمارات مع الاحتلال الإسرائيلي"، فأي استثمارات تديرها الجامعات من الأساس؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير تلقي الضوء على تمويل تلك الجامعات الأمريكية، وهو بالأساس يأتي من "أوقاف" خيرية، أي تبرعات من أثرياء هدفها دعم تلك المؤسسات التعليمية، ويرصد هذا التقرير قصة تلك "الأوقاف" ومن يتحكم فيها وحجمها وغيرها من التفاصيل.
"أوقاف" الجامعات الأمريكية
تعتمد الجامعات الأمريكية وأشهر المؤسسات التعليمية في الغرب عموماً على "أوقاف" لأغراض تعليمية، يتبرع بها أفراد وتتحول تلك الأوقاف إلى ما يشبه "صناديق الاستثمار"، ومن عوائد تلك الاستثمارات يتم تمويل الأنشطة التعليمية وكل ما يتعلق بها. تشيد المباني الجامعية والمعامل وجميع المنشآت وتدفع رواتب وأجور العاملين من أساتذة وباحثين وإداريين وموظفي أمن وخلافه من تلك العوائد بشكل أساسي.
وبشكل عام، فكرة "الوقف التعليمي" ليست غريبة على المسلمين، لكن الغرب توسع فيها وأولاها اهتماماً خاصاً، فأصبحت تلك "الأوقاف" حجر الأساس لأكبر وأشهر المؤسسات التعليمية هناك.
تمثل أوقاف الجامعة أي أموال أو أصول مالية يتم التبرع بها للكليات بهدف استثمارها وتحقيق عوائد مجدية يتم استخدامُها لدعم الميزانية التشغيلية للجامعة ولمساعدتها على الاستثمار في مستقبلها، بما في ذلك تقديم المنح الدراسية والمساعدات المالية للطلاب ولتمويل البحوث وغيرها من المبادرات. وتعامل الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات في أمريكا تلك الجامعات على أنها منظمات غير ربحية، أي أنها معفاة من الضرائب.
جامعة هارفارد، على سبيل المثال، تتصدر ترتيب الجامعات حول العالم في أغلب، إن لم يكن جميع التصنيفات. تأسست تلك الجامعة عام 1636 على يد جون هارفارد، ثري بريطاني أراد مضاهاة جامعتي كامبريدج وأوكسفورد في بلاده. وبعد ما يقرب من 4 قرون، أصبحت قيمة أوقاف جامعة هارفارد أكثر من 50 مليار، بحسب تقرير صادر عن الرابطة الوطنية للكليات والجامعات في أمريكا.
وتضم الرابطة الوطنية للكليات والجامعات ما يربو على 700 جامعة ومؤسسة تعليمية، تحتل أغلبها مراكز متقدمة في ترتيب جامعات العالم، وبشكل عام تحتل الجامعات الأمريكية المراكز الأولى في هذا الترتيب بشكل دوري، مقارنة حتى بنظيرتها الأوروبية.
كيف تتم إدارة تلك الأموال الضخمة؟
أوقاف بهذا الحجم من الصعب أو المستحيل عملياً حتى أن تديرها إدارات الجامعات بشكل مباشر، فتلك الإدارات تعليمية بالأساس ولا تمتلك خبرة الإدارة الاستثمارية.
فالحديث عن هنا استثمارات تتخطى قيمتها عشرات المليارات. جامعة كولومبيا في نيويورك، على سبيل المثال، تمتلك أوقافاً تبلغ قيمتها ما يقرب من 14 مليار دولار، حسب تقارير 2023. وبالتالي فإن هذه المؤسسات التعليمية، أو أغلبيتها، تلجأ إلى مديري استثمار خارجيين، مثل البنوك الاستثمارية أو صناديق الاستثمار طويلة الأمد أو الشركات المتخصصة في مجال الأوعية الاستثمارية التي لا تتوفر لمستثمري التجزئة، بحسب تود إلاي، الأستاذ المساعد في كلية الشؤون العامة بجامعة كولورادو دينفر.
"الجامعات والكليات لديها معرفة محدودة بالاستثمارات الفعلية التي تتوجه نحوها صناديقها الاستثمارية لأن تلك الجامعات تستأجر خبراء خارجيين لاتخاذ تلك القرارات. وأحياناً تكون تلك القرارات سرية"، حسبما نقلت أسوشيتدبرس عن إلاي، والمقصود بالسرية أن المستثمرين ملزمين قانونياً بعد الإفصاح عن محتويات حقيبتهم الاستثمارية علناً.
وتختلف نماذج إدارة أموال الأوقاف في الجامعات الأمريكية، فأوقاف جامعة هارفارد، الأكبر على الإطلاق، تضم 12 ألف صندوق استثماري، ثلثها تقريباً تديره شركة تابعة للجامعة هي شركة إدارة أعمال هارفارد، أما النسبة المتبقية فتتم إدارتها من جانب شركات متخصصة.
هل يمكن تغيير استثمارات هذه "الأوقاف"؟
الحديث عن هذه الأوقاف التعليمية جاء انطلاقاً من الاحتجاجات العارمة التي تشهدها الجامعات الأمريكية تنديداً بالحرب الإسرائيلية على غزة، فأحد أبرز مطالب المحتجين يتمثل في "وقف الاستثمارات" مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل تام.
لكن يبدو أن تحقيق هذا الأمر ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض، حسبما قال جورج داير، المدير التنفيذي وأحد مؤسسي شبكة الأوقاف ذات الأهداف المحددة، لأسوشيتدبرس: "الأمر ليس بالسهولة التي يعتقدها البعض، وربما يكون عبارة عن بيع لبعض الأسهم في شركة بعينها. لكن رغم ذلك، أعتقد أن أي شيء وارد في صناعة الخدمات المالية اليوم".
تعمل الشبكة التي يديرها داير في المساعدة على ربط المنظمات بالأوقاف للتعلم من بعضها البعض كيفية تحقيق الترابط بين الأوقاف وأهدافها وجعل الاستثمارات مستدامة ومسؤولة، كما هو الحال في سياق التغير المناخي على سبيل المثال. كما تنصح الشبكة بأن تكون الشفافية أحد مبادئ الاستثمار المستدام الذي يخدم الهدف من الوقف.
فالمطالبات بوقف الاستثمار في شركات الوقود الأحفوري، التي بدأت منذ عام 2011، فيها جانب أخلاقي لكنها تحمل أيضاً جانباً مادياً، حسبما يرى داير، مضيفاً أن هذا الجانب المادي يساهم في الحصول على دعم القائمين على إدارة الوقف ومجالس الإدارات التي تدير الاستثمارات الجامعية بشكل مباشر.
وتعليقاً على المطالبات بوقف الاستثمارات انطلاقاً من قضايا جيوسياسية، يقول داير إن "الصلة بين الجامعة والاستثمار وقضية الأداء المالي قد لا تكون دائماً واضحة للغاية".
أما إلاي فيرى أن مطالب المحتجين في الجامعات الأمريكية تثير أيضاً تساؤلات بشأن أولويات ومسؤوليات تلك الجامعات: "هل تحاول إدارة الجامعة تعظيم العوائد أو دعم أجندة مجتمعية أو سياسية؟ وبالنسبة لمن يديرون تلك الأوقاف بشكل يومي، يكون تركيزهم على المخاطر والعوائد حتى يتم توجيههم نحو مسار آخر من جانب السلطة الحاكمة للوقف أو الأوقاف في الكلية أو الجامعة".
هل قامت الجامعات بأي تغيير؟
على الرغم من الضغوط التي يمارسها المحتجون في الجامعات الأمريكية لوقف الاستثمارات مع إسرائيل، من جامعة كولومبيا إلى جامعة كاليفورنيا وغيرهما، قال داير إنه لم "يسمع الكثير من إدارات تلك المؤسسات بشأن وقف الاستثمارات مع إسرائيل "حتى الآن".
ويزعم الساسة ورجال الأعمال في الولايات المتحدة أن أحد أسباب تردد إدارات أوقاف الجامعات في الإقدام على خطوة فك الارتباط الاستثماري مع إسرائيل يتمثل في "الانقسام" داخل الحرم الجامعي بين المنددين بالحرب على غزة وبين الداعمين لإسرائيل.
ففي هذا السياق، تبرر إدارة جو بايدن تلك الاحتجاجات الداعمة لوقف الحرب على غزة والمنددة بإسرائيل عن طريق وصفها بأنها "معاداة السامية" وترفع مؤسسات وأعضاء في الكونغرس تلك الاتهامات ضد المشاركين في الاحتجاجات، وهذا هو التوجه العام في الإعلام الأمريكي.
رئيس مجلس النواب، الجمهوري مايك جونسون، معه عضوي مجلس الشيوخ، جوش هولي وتوم كوتون، زاروا حرم جامعة كولومبيا، الأربعاء، معلنين دعمهم للطلاب اليهود ومطالبين إدارة بايدن بنشر الحرس الوطني في الجامعة لمنع من وصفوهم بالمروجين "لخطاب الكراهية والمعادين للسامية" من "نشر الأفكار الإرهابية في المؤسسات التعليمية"، بحسب تقرير لمجلة بوليتيكو الأمريكية.
هذا الموقف الذي يخلط التنديد بما يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي من فظائع بحق المدنيين في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وبين "معاداة السامية" هو ما يتبناه أغلب السياسيين الأمريكيين، وبخاصة الجمهوريين، في عام انتخابي شرس، وذلك سعياً لإرضاء اللوبي اليهودي المؤثر، بحسب كثير من المراقبين.
ما موقف الجامعات من التغير المناخي؟
لكن إدارات الأوقاف الجامعية في الولايات المتحدة يمكنها أن تفعل الكثير بشأن مطالب المحتجين بوقف الاستثمار مع إسرائيل على ما يبدو. جيني ستيفنز، أستاذة في جامعة نورثإيسترن، أعدت كتاباً تحت النشر عن حركة العدالة المناخية في الجامعات، التي من مطالبها وقف الاستثمارات في الوقود الأحفوري. قالت ستيفنز لأسوشيتدبرس إن رد الفعل المبدئي من الجامعات عندما ارتفعت المطالب بوقف الاستثمار في شركات الوقود الأحفوري كان أيضاً القول إن استثماراتهم متشابكة مع مستثمرين آخرين ويديرها طرف ثالث أو أنهم لا يعرفون أين يتم استثمار أموال أوقاف الجامعة. لكن في نهاية المطاف، تمكنت الجامعات التي التزمت بوقف الاستثمار في الوقود الأحفوري من التوصل لطرق تنفيذ ذلك الالتزام.
"هذه المؤسسات التعليمية العريقة ذات الأوقاف الضخمة تمتلك قدراً كبيراً من السلطة وهم يراكمون الثروة والقوة عبر إدارة تلك الأوقاف وعوائدها ولهم سيطرة على كيفية إدارة تلك الأموال"، بحسب ستيفنز.
هل تستمع الجامعات لمطالب المحتجين؟
كلا، ولكن حملات وقف الاستثمار الجامعي نجحت عبر استخدام تكتيكات مختلفة من قبل. إذ كانت ساحات ومباني جامعة كولومبيا قد تصدرت المشهد في قضية الكفاح ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما تفعل الآن مع الاحتجاجات المنددة بالحرب الإسرائيلية على غزة.
ففي 5 أبريل/نيسان عام 1985، قام 7 طلاب أعضاء في "الائتلاف من أجل جنوب أفريقيا حرة" بإغلاق مدخل المبنى الإداري للجامعة "هاميلتون هول Hamilton Hall"، حيث قيدوا أنفسهم بأغلال وسلاسل في مدخل المبنى وعلى الدرج المؤدي إليه.
لم تكن تلك الخطوة المشهد الأول في الاحتجاجات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فساحات الحرم الجامعي في كولومبيا شهدت على مدى أسابيع وأشهر بل سنوات سابقة مظاهرات شارك فيها آلاف الطلاب بالفعل. لكن هذه الخطوة (في شهر أبريل/نيسان)، الذي يبدو مرتبطاً بالتصعيد الطلابي منذ حرب فيتنام وحتى الحرب على غزة كانت على مسار التصعيد لتحقيق المطلب الأساسي وهو قطع جامعة كولومبيا أي تعاون أو استثمارات مع بريتوريا العنصرية.
استمر هذا التصعيد وازداد حجماً على مدى نحو 3 أسابيع، حتى جاء النصر للحركة والطلاب يوم 25 أبريل/نيسان 1985، حين قررت إدارة جامعة كولومبيا أخيراً الاستماع لمطالب طلابها واتخاذ قرار وقف التعامل مع نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا بشكل كامل، على الصعيد الأكاديمي والأصعدة الأخرى.
كان "الائتلاف من أجل جنوب أفريقيا حرة" قد تأسس في عام 1982، ونجح في إقناع "مجلس شيوخ طلاب جامعة كولومبيا" بعدالة المطالب ليقوم المجلس بالتصويت لصالح تلك المطالب والمشاركة بقوة في المظاهرات الهادفة للضغط على إدارة الجامعة، حتى تحققت الأهداف في نهاية المطاف.
وكانت الاحتجاجات الطلابية المنددة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قد شهدت اتساعاً في رقعتها مؤخراً لتضم عشرات الجامعات والمؤسسات التعليمية في مختلف الولايات. ومنذ أيام، يواصل طلاب احتجاجهم في عدة جامعات أمريكية للمطالبة بـ"وقف دائم لإطلاق النار في غزة ووقف المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل وسحب استثمارات الجامعات من الشركات التي تتربح من الاجتياح الإسرائيلي".
اجتاحت قوات الأمن الأمريكية العديد من الجامعات ونكّلت بمئات الطلاب والباحثين وأعضاء هيئة التدريس واعتقلت العشرات منهم. لكن ذلك التنكيل أدى إلى إشعال الموقف وتوسعت الاحتجاجات بشكل يومي لتغطي عدداً أكبر من الجامعات الأمريكية.