- موقف الكونغرس تجاه احتجاجات الطلاب الأمريكيين أشبه بسياسات مجلس صيانة الدستور في إيران
- التذرع بالمظلومية اليهودية يؤدي إلى ابتذال معاداة السامية
- لماذا تحولت فلسطين لمحور للحركة الطلابية الأمريكية؟ إليك ما يقوله التاريخ
- أنصار إسرائيل يعرض أموالاً طائلة لهزيمة الفريق التقدمي الداعم لحقوق الفلسطينيين
- ولكن هناك مؤشرات على عدم نجاح هذه الحملة
على غرار ما يحدث في دول العالم المستبدة قمعت الشرطة احتجاجات الطلاب الأمريكيين المؤيدة للفلسطينيين في العديد من جامعات البلاد، في دليل واضح على كيفية تغيير حرب غزة البلد الأقوى في العالم داخلياً، بعدما أصبحت فلسطين محوراً لـ"الحركة الطلابية الأمريكية" التي لها دور كبير تاريخياً في تغيير السياسة الأمريكية.
إذ حولت قضية فلسطين إلى مسألة أمريكية داخلية، بل باتت محوراً لصراع سياسي داخل الولايات المتحدة وأيضاً دافعاً للصراع بين الأجيال، كما تظهر احتجاجات الطلاب الأمريكيين التي انتشرت كالنار في الهشيم في أنحاء البلاد.
في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد عملية طوفان الأقصى، أجرت مؤسسة "يوجوف" استطلاعاً توضيحياً. ووجدت أن نسبة التعاطف بين الأمريكيين مع الفلسطينيين أكبر من الإسرائيليين في الفئة التي تتراوح أعمارها بين 18 و29 عاماً في الصراع الحالي، وهي الفئة العمرية الوحيدة التي تتبنى هذا التوجه، وفقاً لما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وحتى بين مجمل الأمريكيين تراجع تأييد إسرائيل حيث إن 58% من الأمريكيين، لديهم وجهة نظر "جداً" أو "إيجابية في الغالب" تجاه إسرائيل، بانخفاض عن 68% في العام الماضي، حسب استطلاع لمعهد غالوب لاستطلاعات الرأي نشر في مطلع مارس/آذار 2024.
وهذا هو أدنى تصنيف إيجابي لإسرائيل منذ أكثر من عقدين.
وانعكس هذا الانقسام على المواقف السياسية في الكونغرس، حيث يطالب بعض الديمقراطيين بوقف إطلاق النار (24 عضواً)، ولكن مازالت موازين القوى داخل الكونغرس والإعلام لصالح مؤيدي إسرائيل بشكل واضح، ولكن في المقابل، فإن اتجاهات رفض الحرب تزداد بين الطلاب والنشطاء وحتى بين أعضاء هيئة التدريس وبعض السياسيين الليبراليين، بما في ذلك موظفون في إدارة بايدن الديمقراطية.
موقف الكونغرس تجاه احتجاجات الطلاب الأمريكيين أشبه بسياسات مجلس صيانة الدستور في إيران
وبينما كان مشهد قمع احتجاجات الطلاب الأمريكيين في أعرق جامعات العالم أبرز مظهر لمحاولة من مؤيدي إسرائيل لوأد الحراك الداعم للشعب الفلسطيني، فإن اللافت أن ذلك يتم عبر طرق غير ديمقراطية وبأساليب تهدد ما يفترض أنه أهم ثوابت الحياة السياسية والأكاديمية الأمريكية، وهي حرية التعبير والحقوق المدنية.
كما يمثل قمع احتجاجات الطلاب الأمريكيين انتكاسة للجامعات الأمريكية باعتبارها مؤسسة مستقلة ذاتية الإدارة، وتتيح مساحة كبيرة لحرية التفكير بما في ذلك ما يخالف التيار السائد، وهي مسألة ليست مهمة فقط لهذه الجامعات بل للريادة العلمية الأمريكية التي قامت في جزء منها على حق التفكير خارج الصندوق وتحطيم ثوابت المجتمع، باعتبار ذلك عاملاً أساسياً في التقدم العلمي.
على الصعيد الخارجي، يمثل قمع احتجاجات الطلاب الأمريكيين هزة كبيرة لصورة أمريكا في عهد إدارة ترى في الديمقراطية رأسمال واشنطن الحقيقي في مواجهة ما تصفه باستبداد خصومها مثل الصين وروسيا وإيران.
إذ يبدو تحريض الكونغرس الأمريكي لرؤساء الجامعات ضد حرية التعبير، ومحاولة شيطنة احتجاجات الطلاب الأمريكيين أشبه بدور مجلس صيانة الدستور في الرقابة على النظام السياسي الإيراني، وحجبه لأي أصوات مخالفة لما يعتبره النظام ثوابت لا يجوز المساس بها، ولإبقاء التنافس الانتخابي محصوراً بين أجنحة النظام وحجب ما هو خارجه.
التذرع بالمظلومية اليهودية يؤدي إلى ابتذال معاداة السامية
وأدى قمع احتجاجات الطلاب الأمريكيين على ما يبدو لاتساع الاضطرابات، وخلق حالة من الاستياء من قبل الطلاب والأساتذة، ففي جامعة تكساس، تتصاعد الأزمة حيث أضرب مدرسون عن العمل بعد اعتقال طلاب تضامنوا مع غزة، فيما لا يزال الاعتصام مستمراً في جامعة كولومبيا الشهيرة بمدينة نيويورك التي تحولت لأيقونة الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين والرافضة للحرب.
كما لا يعرف بعد مدى تأثير قمع احتجاجات الطلاب الأمريكيين على الرأي العام في البلاد، وكيف سيكون رأي الآباء الأمريكيين وهم يرون أبناءهم وزملاء أبنائهم المعتصمين سلمياً يقمعون ويلقى القبض عليهم.
وقبيل انطلاق حملة قمع احتجاجات الطلاب الأمريكيين، زعم بعض الطلاب اليهود في الجامعات الأمريكية أن الكثير من الانتقادات الموجهة لإسرائيل انحرفت إلى معاداة السامية وجعلتهم يشعرون بعدم الأمان، وتروج وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية ذلك دون دليل قوي غالباً أو دليل على أنها ممارسات واسعة الانتشار، وفي الوقت ذاته تتجاهل المواقف المعادية للحريات وكذلك المعادية للمسلمين والفلسطينيين.
واستغل أعضاء بالكونغرس ذلك للتحريض على احتجاجات الطلاب الأمريكيين المؤيدة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك رئيس مجلس النواب الأمريكي، رغم أن كثيراً من النشطاء يؤكدون على رفضهم لمعاداة السامية، والتمييز بينها وبين رفض الصهيونية، فعلى سبيل المثال يقول بيول يون، طالب الحقوق بجامعة نيويورك: إن "معاداة السامية ليست مقبولة على الإطلاق"، "هذا ليس ما نمثله على الإطلاق، ولهذا السبب يوجد الكثير من الرفاق اليهود هنا معنا اليوم".
كما أن هناك يهوداً من بين الطلاب والنشطاء المشاركين احتجاجات الطلاب الأمريكيين المناهضة للحرب، حسب تقارير إعلامية متعددة.
وقد نظم المشاركون في احتجاجات الطلاب الأمريكيين في جامعة كولومبيا صلوات إسلامية ويهودية في مخيم الاعتصام، وألقى بعضهم خطابات تدين إسرائيل والصهيونية وتشيد بالمقاومة الفلسطينية المسلحة، حسب ما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
بل حذر بعض اليهود المشاركين في احتجاجات الطلاب الأمريكيين من أن ابتذال فكرة معاداة السامية بهذا الشكل يضر بها ويفقدها قيمتها، كما أن المفارقة أن الدعم غير المشروط المقدم لإسرائيل يأتي من التوجهات اليمينية التي كانت تتركز فيها معاداة السامية، وكما يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه فإن دعم إسرائيل في الغرب يأتي نتيجة عنصرية مزدوجة من اليمين المعادي للمسلمين واليهود تقليدياً، ويبدو هذا الموقف نابعاً من العداء للعرب والمسلمين وتأييداً للقمع الإسرائيلي للفلسطينيين، ولكن في الوقت ذاته فإن خطابه الخفي كأنه لا يريد اليهود في أمريكا.
ولم يؤدِّ استدعاء ذكريات المحرقة النازية ضد اليهود إلا لمزيد من الاستفزاز للعديد من المشاركين في احتجاجات الطلاب الأمريكيين الذين يرون أنه ليس مفهوماً أن تكون المحرقة التي وقعت من قبل الأوروبيين منذ 70 عاماً، مبرراً للسكوت على عملية إبادة جماعية تجري أمام ناظريهم في الوقت الحالي، لشعب ليس له أي دور في المآسي التي لحقت باليهود في أوروبا.
لماذا تحولت فلسطين لمحور للحركة الطلابية الأمريكية؟ إليك ما يقوله التاريخ
في الأوقات العادية لا تمثل أحداث السياسة الخارجية أهمية كبيرة لدى الطلاب الجامعيين، بل هم متهمون بنقص الوعي بقضايا السياسية الخارجية، ويميل نضال الطلاب عادة للتركيز على القضايا الداخلية مثل محاربة العنصرية وحقوق الأقليات، ويعد التغير المناخي، القضية الرئيسية ذات البعد العالمي في أجندة النضال الطلابي في الأوقات العادية.
لقد نشأت الحركة الطلابية للمطالبة بحرية التعبير في الحرم الجامعي، وتحديداً في جامعة كاليفورنيا في بيركلي في عام 1964، عندما غضب الطلاب المشاركون في نشاط للحقوق المدنية من محاولة الجامعة المفاجئة لمنعهم من التنظيم سياسياً في الحرم الجامعي، وتوسعت الحركة لجامعات أخرى.
ولكن مع توسع تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، أصبحت الحرب الهدف الرئيسي للاحتجاجات التي قادها الطلاب، حسب ما ورد في دراسة بعنوان "الحركة الطلابية والحركة المناهضة للحرب".
إذ أدت التغطية الإخبارية للحرب، والتي تضمنت شهادات مرئية مصورة عن الموت والدمار في فيتنام، إلى تحويل الرأي العام الأمريكي بشكل متزايد ضد الحرب.
كما أدى الكشف عن كذب إدارتي جونسون ونيكسون على الشعب الأمريكي بشأن الحرب إلى تقويض ثقة الجمهور في الحكومة.
واليوم بفضل مواقع التواصل الاجتماعي والنقل اللحظي للحرب المدمرة في غزة، وصعوبة السيطرة على السردية من قبل وسائل الإعلام الرئيسية، إضافة للطابع الحقوقي المتأصل في الحركة الطلابية الأمريكية والمرتبط بنضالها ضد العنصرية في الداخل الأمريكي، تحولت فلسطين لمحور للنضال الطلابي الأمريكي، في مشهد يعيد للأذهان أحداثاً مفصلية غيرت توجهات السياسة الأمريكية، بل التاريخ الأمريكي، مثل النضال الطلابي الرافض لحرب فيتنام أو العنصرية الأمريكية ضد السود أو النضال الطلابي الداعي لمقاطعة جنوب أفريقيا، وهي نضالات آتت أكلها وباتت الأجندة التي دعت إليها هذه الحركات النضالية في قلب السياسة الأمريكية بعدما كانت مدانة ومضطهدة كما يحدث للحراك المؤيد للشعب الفلسطيني حالياً.
ومثلما هو الحال الآن، فإن احتجاجات الطلاب الأمريكيين كان على مدار عقود عادة محط انتقاد من قبل القوى المحافظة بل حتى من قبل الديمقراطيين غير التقدميين، وحدث عمليات قمع للنضال الطلابي في قضايا مثل حرب فيتنام ومناهضة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولكن رغم ذلك فرضت الأجندة الطلابية نفسها في نهاية المطاف في كثير من القضايا (وليس كلها).
ففي حال النضال ضد العنصرية، تحولت العنصرية النظامية التي كانت قانونية في كثير من دساتير الولايات الأمريكية إلى سلوك مدان من المجتمع الأمريكي حالياً (رسمياً على الأقل) ومرفوض قانونياً، كما خضعت الجامعات الأمريكية في نهاية المطاف لضغوط الطلاب لسحب الاستثمارات من جنوب أفريقيا، ثم انضمت الولايات المتحدة رسمياً لمقاطعة نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، وتحول حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وزعيمه نيلسون مانديلا لأيقونة مبجلة في العالم والغرب والولايات المتحدة التي كانت تعتبره يوماً طابوراً خامساً لصالح الاتحاد السوفييتي.
وقد تكون المفارقة أن جامعة كولومبيا التي تعد محوراً ل"احتجاجات الطلاب الأمريكيين المؤيدين للشعب الفلسطيني"، وشهدت أول حلقة من موجات فض الاعتصامات، قد عرفت شكلاً مماثلاً من الاعتصامات قبل نحو عقدين من الزمان، لدعم كفاح شعب جنوب أفريقيا ضد العنصرية.
ففي 5 أبريل/نيسان عام 1985، قام 7 طلاب أعضاء في "الائتلاف من أجل جنوب أفريقيا حرة" بإغلاق مدخل المبنى الإداري للجامعة "هاميلتون هول Hamilton Hall"، حيث قيدوا أنفسهم بأغلال وسلاسل في مدخل المبنى وعلى الدرج المؤدي إليه.
واستمر هذا التصعيد وازداد حجماً على مدى نحو 3 أسابيع، حتى جاء النصر للحركة والطلاب يوم 25 أبريل/نيسان 1985، حين قررت إدارة جامعة كولومبيا أخيراً الاستماع لمطالب طلابها واتخاذ قرار وقف التعامل مع نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا بشكل كامل، على الصعيد الأكاديمي والأصعدة الأخرى.
وفي مقارنة ذات دلالة قوية، وصفت المداهمة التي قامت بها الشرطة لقمع طلاب جامعة كولومبيا المعتصمين ضد الحرب بأنها الأولى التي تتم فيها اعتقالات جماعية في الحرم الجامعي منذ احتجاجات حرب فيتنام في عام 1968، وهنا يجب تذكر أن أمريكا انسحبت في نهاية المطاف من فيتنام بسبب شراسة المقاومة الفيتنامية والحراك المعارض للحرب الذي قادته الجامعات، واليوم فيتنام هي واحدة من أهم حلفاء أمريكا المحتملين ضد الصين.
أنصار إسرائيل يعرض أموالاً طائلة لهزيمة الفريق التقدمي الداعم لحقوق الفلسطينيين
لا يعرف إلى أي مدى يمكن أن ينعكس هذا التأييد الشعبي والطلابي للقضية الفلسطينية ومشاهد القمع لـ"احتجاجات الطلاب الأمريكيين" على موازين القوى السياسية وتحديداً في الكونغرس.
ولكن الجماعات المؤيدة لإسرائيل ، شحذت أسلحتها السياسية بقوة، حيث استهدفت المشرعين التقدميين في الانتخابات التمهيدية، بالنظر لمواقفهم الرافضة للحرب وللدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، وذلك بالتزامن مع الحملة ضد احتجاجات الطلاب الأمريكيين.
وقالت لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية (AIPAC)، وهي المجموعة المؤيدة لإسرائيل الأكثر نفوذاً، إنها تخطط لإنفاق 100 مليون دولار لاستهداف المرشحين التقدميين، إضافة لإعلانات مماثلة من جماعات أخرى مؤيدة لإسرائيل.
وفي واقعة مدوية، عرض رجل أعمال مؤيد لإسرائيل 20 مليون دولار كدعم على هيل هاربر، المرشح الديمقراطي لمجلس الشيوخ عن ولاية ميشيغان، إذا وافق على التخلي عن الترشح لهذا المجلس، وليرشح نفسه بدلاً من ذلك في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمجلس النواب أمام النائبة الحالية ذات الأصول الفلسطينية رشيدة طاليب، وقال هاربر، في منشور على موقع X إنه رفض الاقتراح.
ولكن هناك مؤشرات على عدم نجاح هذه الحملة
وفي مؤشر على أن هذه الحملة لم تحقق نجاحاً على الأرض حتى الآن، تمكنت سمر لي، عضوة الكونغرس التقدمية عن ولاية بنسلفانيا، في الانتخابات التمهيدية من التغلب بسهولة على منافستها بهافيني باتيل، التي انتقدت "لي" بسبب دعواتها لوقف إطلاق النار في غزة. وقدمت باتيل نفسها على أنها ديمقراطية مؤيدة لبايدن.
وتوصف سمر لي، بأنها صنعت التاريخ في عام 2022 عندما أصبحت أول امرأة سوداء تُنتخب لعضوية الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، حيث تصدرت في انتخابات التمهيدية لعام 2022 عناوين الأخبار في أمريكا بسبب مشاركة لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، آنذاك في إنفاق 3.3 مليون دولار ضدها، ولكنها في النهاية هزمت منافسها، المحامي ستيف إيروين، بأقل من 1000 صوت، أو 0.9 نقطة.
ومع اقتراب انتخابات الرئاسة والكونغرس، فإن مشاهد قمع الطلاب سوف تنضم للجدل حول حرب غزة وفلسطين الذي بات في قلب السياسة الأمريكية، وبينما لا يعرف كيف سيؤدي ذلك إلى تغيير الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل والداعم للحرب، فبالتأكيد فإن الحزب الديمقراطي (حزب الرئيس) بات منقسماً بشكل غير مسبوق منذ سنوات، وهو ليس مهدداً فقط بفقدان أصوات المسلمين القليلة ولكن الثمينة في الولايات المتأرجحة، ولكن أيضاً مهدد بفقدان الزخم الذي ميز الحزب في السنوات الماضية الذي وفرته الأقلية التقدمية داخل الحزب، والتي تمثل الثقل الموازن لليمين المتطرف الذي أوصل دونالد ترامب للسلطة عام 2016.