رغم مقتل مئات الجنود وجرح آلاف آخرين، وخسارة مئات الدبابات والآليات، وعدم تحرير الأسرى الذين في قبضة حماس، يقول كبار الضباط في جيش الاحتلال الإسرائيلي هذا الأسبوع بفخرٍ إن "المناورة العسكرية البرية في غزة نجحت".
لكن هناك السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الذي كان فشلاً ذريعاً ذا أبعاد أسطورية، والذي سيقضي الإسرائيليون حياتهم كلها في التعامل مع صدمته. ثم هناك الحرب التي لا أحد يعرف الآن حجم خسائرها وإلى أين تتجه. ثم هناك "المناورة": حدث له بداية ونهاية، كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
ما الذي نجح به الجيش الإسرائيلي في غزة؟
بدأت العملية البرية الإسرائيلية في غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عندما دخلت أولى فرق اللواء القتالي التابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي إلى غزة، بعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع من الغارات الجوية المدمرة. وانتهت، على الأقل حتى الآن، في الساعات الأولى من يوم 7 أبريل/نيسان عندما غادرت الفرقة 98 خان يونس. أما لواء ناحال، الذي يسيطر على ممر نتساريم الذي يقسم قطاع غزة، فلا يُعتَبَر ضمن تلك العملية بحسب "هآرتس".
يقول الصحفي أنشيل فيفر، كاتب العمود بصحيفة Haaretz الإسرائيلية، إنه من أجل فهم سبب اعتبار كبار الضباط ذلك "نجاحاً"، لابد أولاً من فهم طريقة تفكير هؤلاء الضباط. كان معظم هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي اليوم قادة كتائب في أوائل الثلاثينيات من عمرهم إبان حرب لبنان الثانية عام 2006، وهي المرة الأخيرة التي نشر فيها الجيش الإسرائيلي كتائب مدرعة كاملة.
ورغم رتبتهم الصغيرة آنذاك، كانوا يدركون تماماً أن رئيس الأركان حينها دان حالوتس لم تكن لديه ثقة كبيرة بالقوات البرية. كان يعتقد في البداية أن الحرب مع حزب الله يمكن خوضها إلى حد كبير باستخدام القوة الجوية والمدفعية، مع وجود عدد قليل من القوات الخاصة على الأرض على الأكثر. عندما أُرسِلَت الفرق، كانت غير مستعدة، وغير مجهزة بشكل جيد، وفشلت إلى حد كبير في تحقيق أهدافها.
في أعقاب تلك الحرب، توقع بعض المنظرين العسكريين الإسرائيليين "نهاية المناورة البرية". وستهيمن على ساحة المعركة في المستقبل مركبات غير مأهولة، سواء في الجو أو على الأرض، مع شبكة من أجهزة الاستشعار التي تحدد أهداف الذخائر "الذكية".
ومع ذلك، فبينما كان الجيش الإسرائيلي يطور بالفعل كل هذه الأشياء، فإنه بعد تجربة حالوتس قصيرة الأمد، ظل في المقام الأول منظمةً يقودها رجالٌ نشأوا في ألوية المشاة، مع المظليين أو خريجي لواء غولاني على رأس القيادة.
لقد رفضوا فكرة أن فرق الجيش الإسرائيلي بأكملها لن تقوم بالمناورة مرة أخرى في أراضي العدو. وللتأكد من أن هذا سيحدث في يوم من الأيام، طالبوا بتمويل مئات الدبابات الجديدة المزوَّدة بأنظمة حماية نشطة، والتي يمكن أن تحميها من الصواريخ المضادة للدبابات روسية الصنع التي يستخدمها حزب الله وحماس.
وحصل المشاة على مركبات قتالية مدرعة ثقيلة جديدة، تتمتع بحماية مماثلة للدبابات، وكل هذه الدروع الجديدة محملة بشاشات وأجهزة استشعار وأنظمة اتصالات تربطها بنفس الشبكة مثل الطائرات المسيَّرة التي تحوم أمامها.
وباعتماد عقيدة "الأسلحة المشتركة" الأمريكية، تفكَّكت ألوية المشاة والدبابات التقليدية وأُعيدَ تجميعها في فرق ألوية قتالية. لقد تدرب الجنود المشاة وأطقم الدبابات والمهندسون القتاليون معاً على نفس النوع من المناورة التي بدأت قبل خمسة أشهر ونصف.
"المناورة نجحت، لمجرد أنها حدثت"
تقول صحيفة هآرتس، يرى كبار ضباط الجيش الإسرائيلي أن المناورة نجحت لمجرد أنها حدثت. وعملت الفرقة النظامية المكونة من فرقتين ونصف في الجيش الإسرائيلي (الفرقة 98 عبارة عن مزيج من الوحدات النظامية والاحتياطية) على الأرض في غزة، كما فعل لواء احتياطي كامل وعناصر أخرى. وهكذا عادت المناورة.
ولكن هل كان هذا نجاحاً؟ تعترف إسرائيل بمقتل نحو 300 جندي منذ 27 تشرين الأول/أكتوبر فقط، رغم أن تقديرات حماس تشير إلى أعداد أكبر من ذلك بكثير، وعموماً هذا ثمن باهظ. ومن الناحية العسكرية الموضوعية، فمن المتوقع أن تكون هناك خسائر فادحة عندما تقاتل لأكثر من خمسة أشهر في بيئة حضرية كثيفة ضد "عدو راسخ" مثل حماس داخل أرضه، كما تقول هآرتس.
ويعتبر المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أنهم حققوا نجاحاً عسكرياً لأنهم يدّعون أنهم قتلوا حوالي 12 ألف من مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي علاوة على آلاف آخرين من الجرحى، لكن لا يوجد شيء يؤكد هذه الأرقام في ظل استمرار المقاومة واستهداف الدبابات والكمائن المميتة التي تستهدف الجنود مثل كمين "الزنة" في خان يونس مؤخراً.
لذلك فإن اعتبار العملية العسكرية البرية ناجحة بشكل تلقائي يعني عدم طرح الأسئلة الصعبة، كما تقول صحيفة هآرتس. وتشمل هذه الأسئلة ما إذا كان قتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين والدمار واسع النطاق لقطاع غزة مبرراً لإنجاح العملية أو تقويض قدرات المقاومة التي تعمل بالأساس من أسفل الأرض.
مقاتلو حماس يعودون للمناطق التي يقول الجيش الإسرائيلي إنه سيطر عليها
وهذا يعني أيضاً تجاهل حقيقة أن الجيش الإسرائيلي لم يجهِّز حلولاً للكارثة الإنسانية الحتمية حتى الآن. ويعني في المقام الأول عدم السؤال عن الغرض من كل ذلك. ربما دُمِّرَت بعض البنية العسكرية لحماس ولكن الحركة نفسها لم تُدمَّر، ويعود مقاتلوها إلى المناطق التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي.
وفي السر، يلوم الجنرالات نتنياهو ووزراءه على الافتقار إلى استراتيجية اليوم التالي لملء الفراغ في غزة. وهم بالطبع على حق، كما تقول هآرتس. لكن الأمر لا يبدو كما لو أنهم التقوا بنتنياهو للمرة الأولى في 7 أكتوبر/تشرين الأول. فقد كانوا يعلمون أنه مماطل سيئ السمعة يتجنب التوصل إلى استراتيجية حتى لا يعرض ائتلافه الحاكم اليميني المتطرف للخطر. كانوا يعلمون أنهم سيُدفَعون إلى غزة دون استراتيجية.
وبعد فوات الأوان، أصبح الإسرائيليون يطالبون بشن هجوم بري محدود، والذي كان ليتسبب في قدر أقل من الضرر لحماس وغزة، ولكنه كان ليترك لإسرائيل المزيد من الخيارات بينما يحسم ساستها قرارهم، ربما فقط بعد استبدال نتنياهو أخيراً، وهم يطالبون بذلك في الأساس لأن الأهداف المعلنة لم تتحقق، على الأقل تحرير أي من "الرهائن" لدى حماس.
يعتبر الجيش أن "المناورة" في غزة نجحت، لكن المناورة دون وجود استراتيجية قابلة للتطبيق أو أهداف ملعنة يتم تحقيقها تظل مجرد مناورة. مناورة من أجل المناورة كما تقول الصحيفة الإسرائيلية.