أوضح مصدر مسؤول بوزارة التخطيط لـ"عربي بوست"، أن إعلان الحكومة المصرية عن انخفاض أعداد المواليد في مصر، وتسجيل أقل معدل للنمو السكاني خلال الخمسين عاماً الأخيرة يحمل دلالات عديدة تتعلق برؤية المصريين لمستقبل بلادهم، وتأثرهم بالأوضاع الاقتصادية الصعبة، وانعكاس تراجع الدعم الحكومي للخدمات العامة المجانية على قراراتهم بشأن الإنجاب.
وأضاف: "ما حصلنا عليه من معلومات يؤكد أن هناك حالةً من التفكك الأسري يعكسها ارتفاع معدلات الطلاق بسبب الحالة الاقتصادية، والتي تترك آثارها على معدلات الإنجاب"، على حد تعبيره.
وأعلنت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية مؤخراً عن تراجع معدلات النمو السكاني في مصر من 2.6% في العام 2017 إلى 1.4% خلال 2023، وأن معدلات النمو السكاني انخفضت في الفترة من 2017 إلى 2023 بنسبة 46%، مشيرةً إلى أن عدد المواليد خلال عام 2023 بلغ حوالي مليوني مولود، منخفضاً بمقدار 15% مقارنةً بعام 2018، و7% مقارنةً بعام 2022.
مشاكل اجتماعية بسبب تراجع الإنجاب
هذه الأرقام التي أعلنت عنها الحكومة تَظهر بوضوح ليس في المدن الرئيسية فقط، ولكن حتى في المدن الصغيرة والقرى، وهو ما أشارت إليه إحدى الطبيبات التي تعمل بوحدة قرية طهما، التابعة لمركز العياط بمحافظة الجيزة.
وأوضحت الطبيبة في حديثها لـ"عربي بوست" أن الأرقام التي جاءت في بيانات الحكومة المصرية واقعية ومنطقية، وأن قريتها التي لم تكن سيداتها يقبلن على حبوب منع الحمل، أضحت الآن تستهلكه بكميات كبيرة، وهو ما يظهر في زيادة تردد السيدات لهذا الغرض إلى الوحدة الصحية في القرية.
وذكرت أنها دائماً ما تدخل في نقاش مع السيدات اللواتي يؤكدن أن هدفهن من هذا هو ترشيد الإنفاق العام قدر الإمكان، وأن أزواجهن ليس لديهم الإمكانيات التي تساعد على إنجاب أكثر من طفلين.
"تنشب في القرية العديد من المشاكل الاجتماعية جراء تراجع الإقبال على الإنجاب. يدخل الزوجات والأزواج في صراعات مع أسرهم الذين اعتادوا على إنجاب الأطفال بشكل سريع خلال سنوات الزواج الأولى، ويعتبرون أن ذلك يُسهم في تقوية نسل الأسرة ويحافظ على مستقبل وضعهم الاجتماعي بين باقي الأسر في القرية، وهي أفكار تأخذ في التغير الآن، بفعل الصعوبات الاجتماعية، حسبما أوضحت الطبيبة.
وتؤكد أن الإلحاح على الحد من الإنجاب يأتي من أرباب الأسر الذين يواجهون صعوبات معيشية جمة، تحديداً مع تراجع الأرباح التي يجنيها هؤلاء جراء عملهم في الزراعة، وعدم كفايتها مع ارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة، لكن الزوجات تكون لديهن رغبة جامحة في زيادة عدد الأبناء والمقارنات بين الأسر والعائلات المختلفة، ما يتسبب في العديد من المشكلات الزوجية التي لم تكن حاضرة بهذا الشكل في السنوات الماضية.
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في مصر قفز إلى 35.7%، في فبراير/شباط من 29.8%، في يناير/كانون الثاني 2023، مدفوعاً بشكل أساسي بارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات.
انخفاض أعداد المواليد في مصر.. بين الترهيب والترغيب
وقبل عقود كان لدى مصر برنامج لتنظيم الأسرة، بدعم من الولايات المتحدة، وهو ما تسبب في انخفاض أعداد المواليد في مصر ليهبط معدل الإنجاب من 5.6 طفل عام 1976 إلى ثلاثة أطفال في 2008، في حين ارتفع استخدام وسائل منع الحمل من 18.8% إلى 60.3%. ووفرت السلطات حينها كميات هائلة من وسائل منع الحمل، وزادت الإعلانات التي تحث على الحد من المواليد.
ويشير مصدر حكومي مطلع إلى أن الأوضاع الاقتصادية قد تكون إحدى العوامل المؤثرة في تراجع معدلات الإنجاب لكنها ليست الوحيدة، لأن الحكومة المصرية ركزت في برامجها التوعوية على أنواع مختلفة من أساليب الإقناع، منها ما يتعلق بالترهيب مثل عدم منح منحة تكافل وكرامة سوى لطفلين فقط، أو بالترغيب من خلال الاتجاه لتقديم مكافأت للأسر التي تلتزم بذلك مثل التكفل بتكاليف تعليمهم.
كان الهدف من ذلك هو تقليل تكلفة الإنفاق الحكومي على الأطفال الذين يعدون أكثر فئات المجتمع تكلفة وتوفير الموارد وتوجيهها إلى قطاعات أخرى.
وشدد على أن الحكومة المصرية أولت اهتماماً بالمبادرات التي تحافظ على صحة المواطنين في القرى والنجوع تحت مظلة "100 مليون صحة"، وفي الوقت ذاته وظّفت تلك الحملة في توعية أبناء الريف، وبدأ التواصل المباشر مع تقديم خدمات صحية عاملاً محفزاً نحو الاستجابة والإقناع.
وأطلقت الحكومة المصرية مشروع "اثنين كفاية" للعمل على الحد من الزيادة السكانية بين الأسر المستفيدة من برنامج تكافل، ويأتي ضمن التدخلات الرئيسة التي تتخذها الدولة من أجل تحقيق رؤيتها في تحقيق التنمية الاجتماعية الشاملة لهذه الأسر، كما قدمت حوافز مالية للسيدات لإنجاب طفلين: تم إطلاق وثيقة تأمينية بقيمة 60 ألف جنيه، تصرف للسيدة عند بلوغها الــ45 عاماً، بشرط الالتزام بعدد من الضوابط التي تشمل إنجاب طفلين على الأكثر.
هذا بجانب الشروط الصحية التي يجب على المرأة الالتزام بها، مثل الفحوصات الدورية، والالتزام بجدول التطعيمات، والتباعد بين الولادات بفترة كافية، والالتزام بتطعيم الأطفال والكشف الدوري على صحة الأم.
مصر مقبلة على تراجع أعداد المواليد والوفيات
باحث بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (تابع للحكومة المصرية)، يشرح أن عوامل انخفاض أعداد المواليد في مصر والتراجع المستمر في معدلات الإنجاب المصرية تأتي نتيجة تحول ديموغرافي تمر به العديد من المجتمعات من خلال ثلاث مراحل، أولها ارتفاع معدلات المواليد والوفيات، وهو ما يخلق مجتمعاً متوازناً مثلما كان الوضع في مصر منذ عهد الفراعنة، وحتى الحملة الفرنسية قبل سنوات قليلة من العام 1800 ميلادية، وعلى مدار فترة طويلة تراوح عدد سكان مصر ما بين 4 إلى 6 ملايين نسمة.
تبدأ بعد ذلك المرحلة الثانية، وفقاً للمتحدث ذاته، مع وجود تحسن في الأوضاع الصحية، وهو ما قاد لزيادة في أعداد المواليد وتراجع أعداد الوفيات، وهو ما حدث في المجتمع المصري خلال العقود الماضية.
والآن تشير مقدمات إلى أن مصر ستكون مقبلة على المرحلة الثالثة، وهي تراجع أعداد المواليد والوفيات أيضاً، مثل الوضع في أوروبا وأمريكا والدول الاسكندنافية، غير أن أسباب دخول هذه المرحلة في مصر تختلف عما حدث في تلك الدول.
وأوضح الباحث لـ"عربي بوست" أن مصر تشهد في السنوات الأخيرة تراجع معدلات الزواج، وزيادة في معدلات الطلاق، ومن الطبيعي أن يقل الإنجاب وبالتالي نشاهد انخفاض أعداد المواليد في مصر، وأن تلك التحولات ترجع بالأساس لأسباب اقتصادية تتعلق بارتفاع مستوى المعيشة وزيادة تكلفة إنجاب الفرد، وهو ما يدفع الشباب للعزوف عن الزواج، وتتزايد معدلات العنوسة، كما أن من تزوجوا تتولد لديهم رغبة تلقائية في تخفيض أعداد المواليد مع ارتفاع تكاليف الخدمات الصحية والتعليمية بسبب انسحاب الدولة من دعمها.
وشدد على أن ارتفاع معدلات الطلاق أيضاً يكون مقترناً بأسباب اقتصادية، لأن الفتاة أضحت على قناعة بأنها قد تجد نفسها أمام مأزق كيفية الإنفاق على ثلاثة أو أربعة أبناء بمفردها، في حال انفصلت عن زوجها، وفي ظل تراجع أدوار محاكم الأسرة وقدرتها على إجبار المتزوجين على الإنفاق بالشكل الذي يكفي الأبناء.
تدرك المرأة في ذلك الحين أن فرصها في الزواج مرة أخرى قد تكون شبه معدومة مع صعوبة الانفاق عليها وعلى أبنائها، وبالتالي فإن الخوف من الإنجاب يبقى سائداً، ما دامت هناك مشكلات زوجية بين الطرفين.
وقبل عدة أشهر كشف نقيب المأذونين في مصر، إسلام عامر، انخفاض معدلات الزواج خلال العام 2023، مقارنةً بالعام الذي سبقه، مشيراً إلى أن نسب الزواج منذ بداية 2023 وحتى شهر يوليو/تموز من العام الماضي تراجعت بقيم تتراوح بين 30 و40% وفقاً لإحصائيات الأعداد.
وفي شهر مايو/أيار 2023، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقريراً كشف عن ارتفاع معدلات الطلاق، بنسبة 14.7% خلال عام واحد، مشيراً إلى أنّ حالات الطلاق على مستوى الجمهورية وفقاً لآخر إحصاء لعام 2021 بلغت أكثر من 254 ألف حالة طلاق، مقارنة بالعام الذي سبقه، والذي شهد تسجيل 222 ألف حالة طلاق، وأن نسبة 65% من حالات الطلاق تقع في العام الأول من الزواج.
ويتوقع خبراء الاقتصاد في مصر أن ترتفع معدلات الفقر خلال العام المقبل، وأن 36% من تعداد السكان سيكونون تحت خط الفقر، وأنهم شكلوا العام الماضي 33.3% من إجمالي السكان، مقابل 29.5% في عام 2019، بما يدفع إلى زيادة عدد الفقراء إلى نحو 37 مليون شخص يعيشون في حالة فقر خلال العام الماضي، ويؤكد هؤلاء أن 40% من المصريين ينفقون دخولهم على شراء السلع الغذائية.
ندرة مستقبلية في العمالة الشابة
وأوضح أستاذ جامعي متخصص في علم الاجتماع السياسي لـ "عربي بوست"، أن تأثير حملات التوعية الحكومية يبقى ضعيفاً، لكن توجيه اهتمامات الحكومة نحو الحد من الانفجار السكاني لقي استجابة من البعض الذين يعانون أوضاعاً اقتصادية صعبة، ووجدوا المبرر الكافي للحد من الإنجاب، والدليل على ذلك أن حملات التوعية الحكومية التي تستمر منذ سنوات لم ينتج عنها شيء إلا عندما تعرض المواطنون لأزمات معيشية صعبة.
وأكد أن الريف المصري تعرّض لتغييرات كبيرة، في حين أنه كان يحظى بمعدلات الإنجاب الأكبر خلال السنوات الماضية، لأن المواطنين هناك تأثروا بالعولمة، وأضحت لديهم أطباق الدش المرتبطة بالأقمار الصناعية، ولديهم إدراك بمشكلات الاقتصاد، مثل تراجع قيمة الجنيه وارتفاع سعر الدولار.
كما أن المزارعين الذين كانوا يحرصون على أن تكون لهم عزوة تساعدهم في أعمال الري والفلاحة لم تعد لديهم الآن الرغبة ذاتها في إنجاب أعداد كبيرة من الأبناء، لأن الآلات والماكينات الحديثة حلت محل الأيدي العاملة. كما أن الزراعة لم تعد هي الشغل الرئيس لكثير من الفلاحين الذين يبحثون عن فرص أخرى تكفي احتياجاتهم المعيشية.
واعتبر المصدر ذاته أن الحكومة تستفيد من تراجع معدلات الإنجاب وانخفاض أعداد المواليد في مصر لأن ذلك يقلل من موازنات الإنفاق على الأسر الفقيرة ذات الأعداد الكبيرة، كما أن موازنات دعم الخدمات العامة لكي تكفي احتياجات المواطنين والمواليد الجدد سوف تتراجع أيضاً، إلى جانب أن أحوال المواطنين الاقتصادية ستأخذ في التحسن مستقبلاً لمحدودية الإنفاق على عدد قليل من الأبناء.
لكن الأزمة -وفقاً للمصدر ذاته- في أن مصر سوف تعاني مستقبلاً من ندرة العمالة الشابة التي تشكل الآن ما يقرب من 60% من إجمالي أعداد السكان، ومن المتوقع أن تواجه نفس المشكلات التي تواجهها الصين واليابان وألمانيا مثلاً في الوقت الحالي، وهو ما يجعل هناك قناعة بأن الاستفادة من القوى البشرية تحولها إلى طاقة اقتصادية هائلة، وأن عدم التوظيف الإيجابي يؤدي إلى اختلال المجتمعات ويؤدي للثورات والانتفاضات.
لدى المصدر ذاته قناعة بأن تراجع مصر في معدلات السعادة العالمية وتخوف المواطنين من المستقبل لديه مردوده على قرارات الإنجاب، لأن وضع قيمة الجنيه غير المستقر وارتفاع معدلات البطالة كلها أزمات تجعل المواطنين يفكرون قبل اتخاذ القرار، خاصة أن هناك 35% من الأسر التي تعيلها السيدات مع هرب الأزواج أو تخليهم عن الإنفاق على الأبناء.
بلغ عدد سكان جمهورية مصر العربية بالداخل 106 ملايين نسمة، يوم 8 فبراير/شباط 2024، وكان عدد السكان قد بلغ 105 ملايين نسمة، في 3 يونيو/حزيران 2023، وفقاً لما أعلنته الساعة السكانية بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المرتبطة بقاعدة بيانات تسجيل المواليد والوفيات بوزارة الصحة والسكان، لتكون الزيادة السكانية المتحققة (الفرق بين أعداد المواليد والوفيات) مليـون نسمة خلال 250 يوماً.
قال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري في بيان له في ذلك، إنه من الملاحظ تزايد الفترة الزمنية للوصول إلى 106 ملايين نسمة لتصبح 250 يوماً مقابل 245 يوماً خلال المليون السابق، و221 يوماً خلال فترة تحقق المليون الأسبق نظراً لتراجع متوسط أعداد المواليد اليومية إلى 5599 مولوداً، مقابل 5683 مولوداً خلال فترة الوصول إلى 105 ملايين نسمة، و6089 مولوداً للوصول إلى 104 ملايين نسمة.
ويرى الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أطلق المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية، في فبراير/شباط 2022، أن أكبر خطرين على مصر هما "الإرهاب والزيادة السكانية"، ونوّه إلى سياسة الإنجاب في الصين التي حددت النسل بطفل واحد بين عامي 1968 و2015، وأثنى على نجاحها.