أصبحت المسيرات سلاحاً دبلوماسياً بيد إيران، فكيف تعيد الطائرات بدون طيار بلورة الصراعات والحروب حول العالم؟
وكالة Bloomberg الأمريكية رصدت القصة في تقرير لها يلقي الضوء على الانتشار السريع للطائرات بدون طيار إيرانية الصنع في المنطقة وحول العالم.
ففي يناير/كانون الثاني الماضي، أسقطت ميليشيات الدعم السريع التي تقاتل الجيش السوداني طائرة مُسيَّرة قرب الخرطوم. وحين نشر المسلحون المبتهجون مقطع فيديو للحطام على وسائل التواصل الاجتماعي، قدموا بذلك بيانات جديدة حول الكيفية التي تعيد بها التكنولوجيا الإيرانية تشكيل تجارة الأسلحة في العالم.
إذ كانت الطائرة المُسيَّرة في الفيديو قائمةً بوضوح على نموذج الطائرة الإيرانية "أبابيل"، وهي العمود الفقري للقوات شبه العسكرية في أرجاء الشرق الأوسط منذ تطويرها في التسعينات.
دبلوماسية المسيرات الإيرانية
يأتي هذا الكشف في أعقاب الكشف عن تكثيف إنتاج الطائرات المسيرة الإيرانية خلال العامين الماضيين في خمسة بلدان أخرى على الأقل، من أمريكا الجنوبية وحتى آسيا الوسطى. ومؤخراً بدأت روسيا في صناعة الطائرات المسيرة الإيرانية من أجل حربها في أوكرانيا، ما رفع عدد البلدان التي تستخدم التكنولوجيا أو المساعدة أو المكونات الإيرانية إلى ستة على الأقل.
تُكسِب دبلوماسية المُسيَّرات الإيرانية إيَّاها العملة الأجنبية اللازمة لتمويل صناعتها الدفاعية، وتعزيز تحالفاتها الاستراتيجية، وجعلها مُصدِّراً كبيراً للأسلحة، فضلاً عن إمكانية تغيير طبيعة الصراعات حول العالم.
وتزداد جودة الطائرات المسيرة الإيرانية وكذلك قدراتها الشبحية. فوفقاً لعضوين بمجموعة "إيتانا سوريا"، وهي مجموعة تراقب الصراع في سوريا وتتتبّع وتحلل البيانات من شبكة موثوقة من العلاقات العسكرية والمدنية في الشرق الأوسط، اخترقت الطائرة المسيرة التي استهدفت "البرج 22" الأمريكي في الأردن، في يناير/كانون الثاني الماضي، الدفاعات الأمريكية من خلال التخفي وراء مُسيَّرة أمريكية كانت تهبط هناك.
ووصف متحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) نشاط إيران في شراء وتطوير وبيع الطائرات المسيرة بأنَّه "تهديد متنامٍ للأمن والسلم الدوليين"، وأشار إلى أنَّ وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أنشأ الشهر الماضي، مارس/آذار، لجنة من كبار القادة من أجل إيجاد سبل فعالة للتعامل مع "هذا التحدي العملياتي المُلِحّ".
ونقلت صحيفة The Washington Post الأمريكية عن مصدر بوزارة الدفاع قوله إنَّ الطائرة التي استُخدِمَت في هجوم البرج 22 هي طائرة من طراز "شاهد 101″، وهي طائرة مسيّرة هجومية صغيرة لا تحتاج إلى تجهيزات خاصة للإطلاق، وتُحلِّق على ارتفاعات منخفضة من أجل تجنُّب الرادارات بصورة أكبر، ويمكنها التحليق مسافة 700 كم على الأقل. وشنَّت الطائرة شاهد 101 ضربتين ناجحتين أخريين على الأقل ضد القوات الأمريكية، في يناير/كانون الثاني الماضي.
اضطرابات البحر الأحمر
وفي البحر الأحمر، نجح الحوثيون اليمنيون المدعومون من إيران في تقليص التجارة عبر قناة السويس بأكثر من 50% هذا العام من خلال إطلاق الطائرات المسيرة والصواريخ على سفن الشحن. ومنذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قصفت الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق قواعد أمريكية بعيدة في المنطقة عشرات المرات، بما في ذلك هجوم يناير/كانون الثاني المميت.
تطوَّرت المسيرات الإيرانية أكثر بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018. وانهارت المفاوضات المتعلقة بتمديد القيود التي فرضها مجلس الأمن الدولي على مبيعات الصواريخ والمسيرات الإيرانية بعد أن اغتالت الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني بغارة طائرة مسيرة في بغداد، في شهر يناير/كانون الثاني 2020.
وانتهت القيود على إيران، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أيام من اندلاع الحرب في غزة. وبعد بضعة أسابيع كشف الحرس الثوري الإيراني عن أسلحته ومسيّراته الأكثر تطوراً حتى الآن أمام المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، في متحف الطيران الخاص بالحرس في طهران. وقد تضمَّنت مسيرات مثل المسيرة الأحدث "شاهد 139".
وجرى تصوير خامنئي نفسه بجوار المسيرة "شاهد 149" التي تحمل اسم "غزة"، والتي تتمتع باسم وتصميم يهدفان للبعث برسالة لا لبس فيها. إذ تتميز المسيرة بحمولة تزن 3 أطنان، وهي حمولة تصل إلى 13 قنبلة، ومدى يصل إلى 2500 كم، وهو كافٍ لبلوغ إسرائيل.
إيران.. تطور برامج إنتاج المسيرات
ووفقاً لوكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الرسمية، أعلن وزير الدفاع الإيراني، في 13 مارس/آذار الماضي، أنَّ إيران الآن باتت تتمتع بالاكتفاء الذاتي في إنتاج محركات الطائرات المسيرة، وكشف أنَّ إجمالي صادرات السلاح ازداد ما بين أربعة إلى خمسة أضعاف على مدى العامين الماضيين.
العقوبات أم الاختراع والتحايل. فبعدما مُنِعَت إيران من شراء التكنولوجيا الغربية ذات التطبيقات العسكرية المحتملة بموجب قيود على الصادرات لها، اعتمدت طهران على أي مكونات إلكترونية كان بإمكانها أن تشتريها من الموردين الآسيويين أو يمكنها تهريبها من الولايات المتحدة وأوروبا عبر شبكة من الشركات الوهمية.
والقصاصات التي جُمِعَت بهذا النهج الذي يشبه نهج نابش القمامة هي ما تُشغِّل اليوم أكثر المسيرات الإيرانية الانتحارية فتكاً، "شاهد 136″، والتي يتم إطلاقها في رشقات على ساحات القتال الأوكرانية.
فوفقاً لتحليل حطام إحدى المسيرات، أجرته اللجنة المستقلة لمكافحة الفساد في أوكرانيا، فإنَّ كل مكون تقريباً بالطائرة هو مكون أمريكي أو أوروبي الأصل. فعلى سبيل المثال تستخدم "شاهد 136" رقاقة اتصالات من صنع شركة Analog Devices Inc، التي يقع مقرها في مدينة ويلمنغتون بولاية ماساتشوستس، وهي رقاقة متاحة للبيع عبر الإنترنت مقابل 339 دولاراً.
ووصف ريتشارد بلومنتال، السيناتور الديمقراطي من ولاية كونيتيكت، التدفق المستمر للتكنولوجيا الأمريكية إلى روسيا، والذي يظهر في المسيرات الإيرانية والصواريخ الروسية في ساحات المعارك الأوكرانية، بالرغم من القيود المفروضة على الصادرات، بأنَّه "يرمز إلى فشل أكبر له تداعيات ضخمة على الأمن القومي للولايات المتحدة".
تاريخ ممتد من التحايل على العقوبات
أدخلت إيران أولى طائراتها المسيرة في ترسانتها خلال مواجهتها الطويلة مع العراق في الثمانينيات، حين كانت الولايات المتحدة والسعودية تغدقان بالسلاح والمال على صدام حسين. آنذاك كان المخططون العسكريون الغربيون لا يزالون يتناقشون حول أخلاقيات وتداعيات استخدام المسيرات في ساحة المعركة، لكنَّ إيران لم تتردد قط، فظهرت بيئة كاملة لتطوير الطائرات المسيرة، من الجامعات والشركات الخاصة ومراكز البحث العسكرية.
ووفقاً لتقرير غير منشور لمجموعة إيتانا، شاركت إيران في مطلع العقد الأول من القرن الحالي معظم تكنولوجيا الطائرات المسيرة لديها مع سوريا، أوثق حلفائها في الشرق الأوسط. فانتقل العشرات من العلماء الإيرانيين إلى حلب شمالي سوريا للعمل في مختبر الأسلحة الرئيسي في البلاد، وأسهموا مع نظرائهم السوريين في تطوير 4 نماذج لمسيرات انتحارية، بل وحوَّل الفريق طائرتين ثابتتي الجناح -طائرة من طراز ميغ 21 وطائرة صغيرة مُهندَسة عكسياً من طراز Cessna- إلى طائرتين انتحاريتين بدون طيار استُخدِمتا ضد المعارضين خلال الحرب الأهلية السورية.
ووفقاً لتقرير إيتانا، يجري تهريب المكونات وإرشادات التصنيع بصورة روتينية من سوريا إلى حزب الله في لبنان، والذي ينتج مجموعة من المسيرات لقتال إسرائيل. وأضاف التقرير أنَّ إيران وافقت في عام 2010 على تغطية كل تكاليف الطائرات المسيرة ذات الإنتاج المشترك والمكونات التي يتم إيصالها إلى حزب الله.
ووفقاً لتقرير إيتانا، جرى تصنيع نموذج مشترك، هو طائرة أبابيل 3DI لمهام الاستطلاع، في لبنان باستخدام معدات من صناعة شركتي سامسونغ وهيونداي، واستخدمت الطائرة جهازاً من صناعة شركة ATEN International Co، في تايوان لنقل صور عالية الجودة لمحطات حزب الله الأرضية. وأعلنت شركة ATEN في 2022 وقف كل صادراتها إلى إيران.
اختراق التكنولوجيا الأمريكية
حصلت تكنولوجيا الطائرات المسيرة الإيرانية على دفعة عام 2011، حين اخترقت القيادة السيبرانية في البلاد طائرة مسيرة من طراز RQ-170 Sentinel أمريكية من صناعة شركة لوكهيد مارتن كانت تعمل على الحدود الأفغانية الإيرانية.
أجرى خبراء الطيران والفضاء الإيرانيون عملية هندسة عكسية للطائرة المسيرة المصنوعة من ألياف زجاجية على شكل خفاش. وفي عام 2018، قامت نسخة من الطائرة الأمريكية، مُحمّلة بالمتفجرات، بأولى رحلاتها من سوريا إلى إسرائيل خلال لحظة بالغة التوتر في الشرق الأوسط، وأسقطتها المروحيات الإسرائيلية.
وفي إيران اليوم، توفر شبكات أجنبية تُستخدَم كواجهات وتديرها شركات خاصة قطع الغيار المستوردة وأحياناً المكونات تامة الصنع لمُصنِّعي الطائرات المسيرة الحكوميين. وظهرت تفاصيل سلاسل توريد القنوات الخلفية هذه في 6 لوائح اتهام أمريكية على الأقل، جرى تقديمها أو كُشِفَ عنها منذ عام 2020، والتي تزعم أنَّ الإيرانيين حاولوا غسل طلبيات قطع غيار أمريكية الصنع للطائرات المسيرة وأسلحة أخرى عبر شركات في الصين والإمارات وتركيا وأوروبا.
عادةً ما يتم إسقاط الطائرات المسيرة الصاخبة والبطيئة بتكلفة أعلى بكثير من سعر النموذج القياسي لطائرتي شاهد أو أبابيل. ففي أوكرانيا تتتبَّع فرق متطوعة لمطاردة المسيرات تلك الطائرات وتُسقِطها من الأجواء، بمؤشرات ليزر ذات أضواء كاشفة محمولة باليد ومدافع رشاشة من العيار الثقيل.
لكن في البحر الأحمر، تستخدم الولايات المتحدة وحلفاؤها صواريخ مضادة للطائرات، مثل صواريخ Sparrow، وSM-2، وSea Viper، التي يمكن أن تكلف ما يصل إلى مليون دولار للواحد. يقول إريك لين غرينبيرغ، وهو مؤرخ للتكنولوجيا العسكرية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي يبحث في ديناميات حروب المسيرات: "تستخدم الدول أصولاً باهظة الثمن لإسقاط أشياء رخيصة".
كيف يمكن التصدي للطائرات بدون طيار؟
قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، توم كروسون، في رد عبر البريد الإلكتروني، إنَّ البنتاغون "يعمل بنشاط من أجل تطوير وتوفير قدرات فعالة ومعقولة التكلفة مضادة للطائرات المسيرة".
ويقول الخبراء إنَّ الأمر قد يستغرق من الغرب 5 إلى 10 سنوات من أجل تطوير وسائل عسكرية فعالة للتصدي للمسيرات الإيرانية. فيقول دون بيرس، الرئيس السابق لقسم الحظر والمنع من التصرف في وزارة التجارة الأمريكية: "أفضل ما يمكن أن نفعله هو محاولة إبطاء إيران، وجعل الأمر أكثر كلفةً بالنسبة لها، وهو ما نجحنا في فعله".
تُشجِّع القيمة المُقدَّمة من الطائرات المسيرة المستخدمين على إطلاق وابل منها على أمل أن تصيب واحدة أو اثنتين هدفها. فأطلقت روسيا الموجة تلو الموجة من الطائرات المسيرة الانتحارية الإيرانية على منشآت الطاقة والمراكز الحضرية الأوكرانية في الأشهر الأخيرة.
وعلى سبيل المثال، أطلقت روسيا، في 6 مارس/آذار الماضي، 42 طائرة مسيرة. وفي حين قال سلاح الجو الأوكراني إنَّه أسقط 38 منها، تسللت 4 وألحقت أضراراً بالعديد من المباني، ما أسفر عن إصابة 7 أشخاص على الأقل وقطع الكهرباء عن 14 ألف منزل.
في هذا الإطار، كان تقرير لمجلة Popular Mechanics الأمريكية عنوانه "السر وراء أسراب روسيا من الطائرات المسيرة الفتاكة"، قد كشف عن معلومات جديدة تخص هذه المسيرات توصلت إليها منظمة بريطانية متخصصة في أبحاث التسليح. وكشف التحقيق البريطاني عن أسرار تتعلق بسلاح روسيا الفتاك، وهو المُسيّرات الانتحارية، حيث أطلقتها بكثافة بلغت أكثر من 400 طائرة خلال 5 أشهر فقط.
مسيرات إيرانية في 6 دول
من خلال مساعدة الحلفاء والوكلاء على إنتاج الطائرات المسيرة على أراضيهم -وهو نهج فريد في صناعة الطائرات المسيرة- يحصل شركاء إيران على التكنولوجيا والوظائف، في حين تحتفظ إيران بقدر من الإنكار حول الكيفية التي تُستخدَم بها الأسلحة.
وتُظهِر وثائق مخترقة سُرِّبَت مؤخراً من خلال "شبكة برانا"، وهي مجموعة للمُخترِقين الإلكترونيين، أنَّ روسيا تدفع لإيران 1.6 مليار دولار لتصنيع 6 آلاف طائرة انتحارية عالية التقنية من طراز شاهد 136 حتى عام 2025.
بعض صفقات الطائرات المسيرة تكون مُغامِرة أكثر من غيرها. إذ أعادت إيران مؤخراً إقامة العلاقات مع السودان بعد خلاف دام 7 سنوات، من أجل مساعدة الجيش على محاربة قوات الدعم السريع. ويقول الخبراء إنَّ المتمردين مدعومون من منافسة إيران على الضفة الأخرى للخليج، الإمارات، ولو أنَّ المسؤولين الإماراتيين ينفون ذلك. وقالت القوات المسلحة السودانية، في مارس/آذار 2022، إنَّها أنتجت طائرة "زاجل 3″، وهي على ما تبدو النسخة المعدلة من الطائرة أبابيل والمزودة بعجلتين.
وفي مناطق أخرى في أفريقيا، استخدمت إثيوبيا أيضاً مسيرات إيرانية لقمع التمردات على جبهتين. وفي طاجيكستان، وهي حليف متعاون مع الولايات المتحدة في مجموعة من القضايا المتعلقة بآسيا الوسطى، يتسبّب إنتاج الطائرات المسيرة الإيرانية بمأزق في واشنطن حول ما إن كان ينبغي معاقبة الحكومة لتعاونها مع الحرس الثوري الإيراني أم لا.
في غضون ذلك، يشعر المغرب بالغضب من إيران بسبب إرسالها طائرات مسيرة إلى الجزائر من أجل انفصاليي جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية. ويمكن لفنزويلا، التي تُصنِّع الطائرات المسيرة الإيرانية منذ عام 2007 وطوَّرتها مؤخراً لتشمل طائرات مسيرة انتحارية مثل تلك التي تُستخدَم في أوكرانيا والبحر الأحمر، أن تهدد جارتها ومنافستها، غويانا. وتسبَّب طلب بوليفيا الحصول على مسيرات من إيران لمراقبة حدودها ومراقبة مهربي المخدرات في إشعال خلاف دبلوماسي مع الأرجنتين.
يقول ولي نصر، المستشار السابق في الشؤون الأفغانية والإيرانية بإدارة الرئيس أوباما: "يجب أخذ إيران على محمل الجد باعتبارها قوة عالمية". وفي النهاية، يقول بيرس إنَّه ما لم تكن الصين مستعدة لتضييق الخناق على مبيعات التكنولوجيا لإيران، فإنَّ خنق صناعة الطائرات المسيرة الإيرانية سيكون قضية خاسرة.