بعد 6 أشهر من الحرب على غزة، يجد الرئيس جو بايدن نفسه في مأزق ليس له حلول مقبولة، والسبب النفوذ الأمريكي المتقلص على إسرائيل وتضارب المصالح مع نتنياهو، فما قصة هذه المعضلة؟
صحيفة The Washington Post الأمريكية نشرت تحليلاً يرصد مأزق بايدن الذي يواجه حدود النفوذ الأمريكي على إسرائيل بعد مرور أكثر من 6 أشهر على الحرب على غزة.
فقد شاهد الرئيس الأمريكي، صبيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لقطات مباشرة للصواريخ وهي تنهمر على إسرائيل من غزة، وأخبره كبار مساعديه أن مقاتلي "حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية" (حماس) اجتاحوا المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية المحيطة بالقطاع.
وسرعان ما أدلى بايدن ببيانٍ قوى اللهجة من البيت الأبيض في ذلك اليوم، قال فيه إنه تحدث هاتفياً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقال له: "الولايات المتحدة تقف في صف إسرائيل.. ولن تقصِّر أبداً في مساندتها"، ووصف دعم إدارته للأمن الإسرائيلي بأنه "راسخ لا يتزعزع". ووجه بايدن على الفور أوامره لمسؤولي الدفاع والمخابرات الأمريكيين "بإمداد إسرائيل بكل شيء تحتاج إليه" للدفاع عن نفسها، بينما كانت المقاتلات الإسرائيلية أمريكية الصنع تقصف قطاع غزة بالفعل.
حرب إسرائيل على غزة
لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي يتعرض لها المسؤولون الأمريكيون، سواء الحاليين أو السابقين ممن لهم باع طويل باضطرابات الشرق الأوسط، والذين شهدوا عقوداً من المعارك التي تشتعل كل حين وآخر بين إسرائيل وأعدائها في المنطقة. وفي هذا السياق، حين اندلعت هذه الحرب في غزة قبل 6 أشهر، ظن بايدن ومسؤولو إدارته أنها ستنتهي على الأغلب في غضون أسابيع، أو شهرين على الأكثر، ولن تحل أعياد الميلاد إلا وتكون تلك الحرب قد انتهت.
كان بايدن نفسه وكبار المسؤولين في إدارته قد توقعوا أن تنتهي الحرب الإسرائيلية على غزة بنهاية العام الماضي أو مطلع يناير/كانون الثاني 2024 على أقصى تقدير، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، لكن ذلك لم يحدث.
إلا أن العدوان الإسرائيلي استمر بلا هوادة، واستُشهد عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وبدأت إدارة بايدن ينتابها الإحباط، والغضب أحياناً، من حكومة نتنياهو التي تجاهلت في كثير من الأحيان مشورتها بشأن العمليات العسكرية في غزة، ورفضت علناً التصورات الأمريكية عن السلام الدائم بعد الحرب، ومن ثم وجدت الإدارة الأمريكية نفسها الآن في مأزق سياسي بلا مخرج سهل، ومعضلة ذات خيارات أحلاها مر، بحسب تقرير واشنطن بوست.
بنت الصحيفة الأمريكية تحليلها عن الأشهر الستة الماضية من الحرب القاسية ومعاركها الدبلوماسية من التقارير الواردة طوال مدة الصراع، واستندت فيه كذلك إلى التصريحات العامة ومقابلات أجرتها حديثاً مع خبراء إقليميين ومسؤولين بارزين في الإدارة الأمريكية، تحدث بعضهم بشرط عدم الكشف عن هويتهم لأنهم تناولوا مداولات داخلية.
مأزق بايدن في مواجهة نتنياهو
تزعم الصحيفة الأمريكية أن إسرائيل قتلت كثيرين من مقاتلي حماس، لكن آلافاً منهم ما زالوا قادرين على القتال، ويُعتقد أن كبار القادة متمركزون -والمحتجزين الإسرائيليين- في أنفاق عميقة تحت الأرض. وفي حين أن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة يطالبون بهدنة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين وإدخال كميات أكبر من المساعدات إلى سكان غزة الذين يعانون من شبح المجاعة، فإن لإسرائيل وحكومتها المتطرفة برئاسة نتنياهو رغبة في استمرار الحرب.
قالت واشنطن بوست إن الدعم الدولي لإسرائيل في البداية ما لبث أن انقلب إلى حنق واتهامات بارتكاب جرائم حرب بعد ما أحدثته الهجمات الجوية والبرية الإسرائيلية من دمار في غزة، وصار كثيرون في أنحاء شتى من العالم يرون أن دعم الولايات المتحدة للآلة الحربية الإسرائيلية جعل الإدارة الأمريكية في حرج أخلاقي، بل شريكة في الدمار والموت الذي لحق بالفلسطينيين في غزة.
ومن جهة أخرى، فإن بايدن بات عالقاً بين الحزب الجمهوري الذي يطالب بالاستمرار في دعم إسرائيل مهما كان الثمن، وبين كتلة متزايدة من الديمقراطيين الذين يطالبونه بوقف التدفق المستمر للأسلحة إلى إسرائيل، وكثرت الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين حتى صارت تقطع حملاته الانتخابية باستمرار.
ونقل تحليل الصحيفة الأمريكية عن مسؤولين في إدارة بايدن تشديدهم على أن الأمور، وإن كانت سيئة، فإنها كانت ستشتد سوءاً لو لم ينجحوا في الضغط على إسرائيل من أجل تغيير بعض تكتيكاتها في الحرب، وإقناع نتنياهو بتخفيف الحظر الذي فرضته حكومته على إمدادات الغذاء والماء والوقود إلى غزة.
تاريخ النفوذ الأمريكي على إسرائيل
كانت الولايات المتحدة أول دولة في العالم تعترف بدولة إسرائيل في مايو/أيار 1948، بعد دقائق من إعلان قيامها على جزء من أرض فلسطين. لكن، وعلى الرغم من الدعم الأمريكي الممتد لإسرائيل بالسلاح والعتاد، فإن واشنطن ضغطت على إسرائيل أحياناً للحيلولة دون التمادي في استخدامه، فعندما احتلت القوات الإسرائيلية مناطق من سيناء في 1956، تحدى الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور معارضة الكونغرس في أوائل 1957، وهدد بفرض عقوبات تجارية على إسرائيل، وتعليق المساعدات العسكرية إذا لم تنسحب من البقاع التي احتلتها.
وفي أوائل عام 1991، أرغمت الولايات المتحدة إسرائيل على عدم الرد على هجمات صواريخ "سكود" التي شنها صدام حسين على أراضيها، خوفاً من توسيع الصراع في الشرق الأوسط، وقالت إنها ستتكفل بالرد على النظام العراقي.
منذ أن فازت حماس بالانتخابات في عام 2006، فرضت إسرائيل حصاراُ على القطاع ورفضت الاعتراف بنتائج تلك الانتخابات، وطول نحو عقدين من الزمان اندلعت أربع مواجهات مباشرة ومتفرقة وقصيرة نسبياً بين دولة الاحتلال والمقاومة في غزة.
اقتصر التدخل الأمريكي على تأييد ما تصفه بحق إسرائيل في الدفاع عن أمنها، وحمايتها من العقوبات الدولية عن طريق الفيتو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومع ذلك، تزعم صحيفة "واشنطن بوست" أن ظروف المعركة الحالية، والدمار الذي أحدثته، وطول أمدها، كشفت أن سيطرة الولايات المتحدة على تصرفات إسرائيل ربما تكون أقل بكثير مما حسبته واشنطن.
آرون ديفيد ميلر، دبلوماسي أمريكي سابق في إسرائيل ويعمل الآن في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، قال لواشنطن بوست: "إن تأثير أي طرف خارجي -حتى الذي يفترض أنه يتمتع بنفوذ هائل على إسرائيل- محدود"، و"الشرق الأوسط تتناثر في كل ركنٍ به بقايا القوى العظمى التي ظنَّت ذات يوم أنها قادرة على فرض سيطرتها على تصرفات الناس الذين يعيشون هناك".
مع ذلك، يرى جيفري فيلتمان، كبير المسؤولين السابق بوزارة الخارجية الأمريكية، أن بايدن لديه ولاء شخصي عميق الجذور تجاه إسرائيل منذ السنوات الأولى له في مجلس الشيوخ الأمريكي، إلا أن نتنياهو "يحاول إنقاذ مسيرته السياسية من خلال استعراض مخالفته لبايدن في نهج التعامل مع غزة"، وكانت خسارة الدعم الأمريكي في الماضي "عقبة لا يمكن تجاوزها تقريباً للسياسي الإسرائيلي"، لكن هذه المرة تختلف عن تدخلات واشنطن السابقة لتحقيق السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب، فالولايات المتحدة ليس لديها أي نفوذ على حماس.
رسائل بايدن المتضاربة
تجلَّى التضارب الذي عصف بالسياسة الأمريكية منذ بدء الأزمة في حدثين تزامناً مع زيارة بايدن إلى إسرائيل لدعمها قبيل الاجتياح البري لغزة -وكانت إسرائيل قد قتلت حتى ذلك الوقت نحو 3 آلاف فلسطيني، وضربت حصاراً لمنع الطعام والماء عن السكان- ففي ذات اليوم الذي التقى فيه الرئيس الأمريكي نتنياهو، استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) على قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدعو إلى وقف إطلاق النار. وكانت الولايات المتحدة الدولةَ الوحيدة التي صوّتت ضد القرار.
لكن بايدن ادَّعى بعد يومين أنه ضغط على إسرائيل للسماح بدخول أول قافلة (20 شاحنة) مساعدات إلى غزة. وتذهب "واشنطن بوست" إلى أن رسالتي الرئيس الأمريكي كان بينهما تضارب واضح: فهو من جهة يحث إسرائيل على المُضي قدماً، وشن حرب شاملة على قطاع غزة، ومن الجهة الأخرى يحاول إضفاء الطابع الإنساني على هذه الحرب.
ولمَّا تجاوز عدد الشهداء المعلن عنه في غزة 13 ألف فلسطيني، خلال الأسبوع الأخير من نوفمبر/تشرين الثاني، قال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية لصحيفة "واشنطن بوست" إن الإدارة الأمريكية تضغط على إسرائيل لتوفير "مناطق منخفضة التوتر يتحصّن بها سكان غزة الباحثون عن مأوى"، وحثَّت الجيش الإسرائيلي على استخدام ذخائر أدق وأصغر حجماً. وقال مسؤولون إن إسرائيل "تقبلت" هذه الرسالة. ولكن نتنياهو خرج من شمال غزة بعدها بأيام، وأدلى بتصريحات تنمُّ عن رفضه للدعوات الأمريكية، وقال: "سنواصل حتى النهاية"، و"لن يوقفنا شيء". وفي الوقت نفسه، أوردت الصحيفة الأمريكية أن إدارة بايدن واصلت إرسال كميات هائلة من القنابل والذخائر إلى إسرائيل.
الضغوط على إسرائيل.. ما حدودها؟
زعم مسؤولون أمريكيون، الأسبوع الماضي، أن ضغوط الإدارة الأمريكية أثمرت بعض الشيء منذ بداية العام، فقد تناقص عدد الجنود الإسرائيليين في غزة، وقلَّت الغارات الجوية العشوائية، وزادت شاحنات المساعدات بالتدريج.
لكن في الأيام الأخيرة، ومع اقتراب الحرب من إتمام شهرها السادس، تغيَّر مضمون المناشدات الصاردة عن الإدارة الأمريكية لإسرائيل من الإيماء بأصابع الاتهام إلى الاستياء الغاضب. وامتنعت الولايات المتحدة لأول مرة في 25 مارس/آذار عن التصويت على قرار للأمم المتحدة يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة. لكن نتنياهو ما لبث أن دعا في خطاب شديد اللهجة إلى إبادة حماس، وقال إنه وافق على خطة اجتياح رفح.
ثم تجلّى تناقض رسائل الإدارة الأمريكية مرة أخرى، فعلى الرغم من تزايد المطالب من نواب ديمقراطيين في الكونغرس بتعليق المساعدات الأمريكية لإسرائيل أو تقييدها بشروط، فإن وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت عن إرسال آلاف القنابل الإضافية إلى إسرائيل.
شنَّت إسرائيل في الأول من أبريل/نيسان غارة جوية على منشأة قنصلية في دمشق وقتلت 7 مسؤولين عسكريين إيرانيين على الأقل، ثم قصفت في اليوم نفسه قافلة مركبات تابعة لمنظمة المطبخ المركزي العالمي "وورلد سنترال كيتشن" الإغاثية، فقتلت 6 من عمال الإغاثة الغربيين، وسائقاً فلسطينياً. فقال بايدن إنه "غاضب وقد أصابه حزن شديد" لمقتل عمال المساعدات، وهدد لأول مرة بتغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل.
أعلنت حكومة نتنياهو يوم الجمعة 5 أبريل/نيسان أنها وافقت على مطلبين تقدمت بهما الولايات المتحدة منذ مدة طويلة، وهما فتح ميناء أسدود، ومعبر إيريز (بيت حانون) لتسليم المساعدات إلى غزة؛ وأنها سوف تنشئ نظاماً جديداً ومحسناً لفصل مناطق نقل المساعدات عن مناطق الاشتباك، وتجنب استهداف مسارات نقل المساعدات الإنسانية.
ومع ذلك، تخلص "واشنطن بوست" إلى أن التناقض الجوهري بين ما تراه إسرائيل خطوات ضرورية لحماية نفسها وبين مطالب الولايات المتحدة بتخفيف المأساة الإنسانية القائمة في غزة، هذا التناقض لا يبدو أنه قريب من الحل.
ويرى آرون ديفيد ميلر، الدبلوماسي الأمريكي السابق، أن الإدارة الأمريكية تريد انتهاء المرحلة النشطة من الحملة العسكرية الإسرائيلية، والإفراج عن مزيد من المحتجزين الإسرائيليين، ودخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، ولكن لا أحد يستطيع أن يتجاوز عزم إسرائيل على قتل قيادات حماس.