في مقابلة حديثة مع صحيفة Haaretz الإسرائيلية، لخَّص فرانشيسكو تشيتشي، أستاذ علم الأوبئة والصحة الدولية في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، الوضع الرهيب والمتفاقم باستمرار في غزة منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وفي الأسابيع الأخيرة تعاون تشيتشي مع الدكتور بول شبيغل، مدير مركز الصحة الإنسانية في كلية جونز هوبكنز بلومبرغ للصحة العامة، لرئاسة مجموعة من علماء الأوبئة الذين يقومون بتدريبٍ على تسليط الضوء على الوفيات الزائدة في غزة، أي الوفيات التي لم تكن لتحدث لولا الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل على 2.3 مليون إنسان في القطاع.
آلاف الضحايا سيموتون في غزة حتى لو توقفت الحرب غداً
ووفقاً للنموذج الإسقاطي المعقد الذي وضعوه، حتى لو انتهت الحرب غداً، وتمكّن سكان غزة من "الحصول على قدر أكبر بكثير من المساعدات الإنسانية"، فمن المرجح أن تحدث 6500 حالة وفاة زائدة خلال الأشهر الستة المقبلة، نتيجة لإصابات الحرب التي لم تُعالَج، والأمراض المعدية التي تتفاقم بسبب المجاعة، ونقص الرعاية الطبية للأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة. وإلى جانب ما يقدر بنحو 33,000 ألف فلسطيني استشهدوا حتى الآن وآلاف آخرين في عداد المفقودين ويُفتَرَض أنهم مدفونون تحت أنقاض المباني المدمرة، يقدِّر الباحثون أن الحرب لن تنتهي بأقل من 44 ألف شهيد.
ومع ذلك، فإن التقرير الذي نشره فريق تشيتشي وشبيغل الشهر الماضي، بعنوان "الحرب في غزة: توقعات الأثر الصحي المبني على السيناريوهات"، يقدم نموذجاً يعتمد على سيناريوهين آخرين من شأنهما أن يؤثرا على معدل ضحايا الاحتلال الزائد. ففي حالة حدوث تصعيد عسكري -بما في ذلك الاجتياح الإسرائيلي المُتوقَّع لرفح- وتفشي الأوبئة في القطاع، يمكن توقُّع أكثر من 85 ألف حالة وفاة زائدة، ليصل إجمالي عدد الشهداء إلى أكثر من 120 ألفاً.
ومع ذلك، حتى لو استمر الوضع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى منتصف يناير/كانون الثاني، دون توغل أو تفشٍّ للأوبئة، فإن النموذج يتوقَّع 58 ألف حالة وفاة زائدة حتى أوائل أغسطس/آب، وهو ما سيؤدي إلى 100 ألف ضحية في المجموع.
إسرائيل فعلت بغزة ما فعلته أمريكا بناغازاكي اليابانية
في 9 أغسطس/آب 1945، أُلقِيَت قنبلة ذرية على مدينة ناغازاكي اليابانية. ووفقاً لتقديرات متحفظة للباحثين في جامعة ييل، كجزءٍ من "مشاريع أفالون: وثائق في القانون والتاريخ والدبلوماسية"، قتلت أمريكا حوالي 39 ألف شخص على الفور. وقدَّر علماءٌ آخرون إجمالي عدد القتلى بعد الانفجار وعواقبه المباشرة بما يتراوح بين 60 ألفاً و80 ألفاً.
وعندما قال وزير التراث الإسرائيلي أميخاي إلياهو المتطرف، في نوفمبر/تشرين الثاني، إنه لا يستبعد إسقاط قنبلة نووية على غزة، أثار هذا التصريح غضباً شديداً، حتى إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سارع إلى إدانته، قائلاً إن هذه التصريحات منفصلة عن الواقع. ولكن بعد ستة أشهر من الحرب، وبينما تتزايد أعداد الشهداء في غزة، ربما لا تكون هذه الأرقام بعيدة عن الواقع على الإطلاق.
ورغم أن البيانات المتعلِّقة بالشهداء توفِّرها وزارة الصحة في القطاع، يشير المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم إلى أرقام مماثلة. وفقاً لبحث الفريق، فإن السبب الأكثر شيوعاً للضحايا في القطاع هو الإصابات الناجمة عن القصف الإسرائيلي المدمر. ويوجد حالياً مئات المُصابين في غزة، يتلقون رعايةً طبيةً جزئية جداً في أحسن الأحوال. خلال الحرب، تضرَّر ودُمر 36 مستشفى و100 عيادة أخرى ومؤسسة طبية أخرى، ما أدى إلى نقص حاد في الأسرّة والمعدات والأدوية، ناهيكم عن العاملين في المجال الطبي.
وصف الدكتور غسان أبو ستة، جراح التجميل الفلسطيني الذي ترك ممارسته في لندن وعالج ضحايا الحرب الإسرائيلية في غزة، ابتداءً من 9 أكتوبر/تشرين الأول ولمدة 40 يوماً، في منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي والمقابلات الإعلامية، كيف اضطر هو وزملاؤه إلى إجراء عمليات بتر للأطراف في ظل ظروف مروعة. كما أفاد موقع Voice of America، قال أبو ستة: "أسوأ ما في الأمر هو نفاد المورفين والمسكنات القوية المناسبة في البداية، ثم نفاد أدوية التخدير لاحقاً، ما يعني أنه كان يتعين القيام بعملياتٍ جراحية مؤلمة بدون مخدر".
آلاف الجرحى ينتظرون الخروج من غزة.. وآلاف يموتون بسبب الأمراض المعدية
وفي الوقت الذي تُكتَب فيه هذه السطور، وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، هناك 8 آلاف من سكان غزة على قائمة الانتظار لمغادرة القطاع لتلقي العلاج الطبي العاجل في بلدان أخرى، مثل تركيا أو إيطاليا وغيرهما. وقد أعلنت مصر أنها تسمح بالمرور من غزة إلى أراضيها، عبر معبر رفح، فقط للأفراد الذين وافقت السلطات المصرية والإسرائيلية على مغادرتهم، بمعدل 22 شخصاً يومياً حتى الآن.
السبب الثاني الأكثر شيوعاً للوفيات الزائدة هو الأمراض المعدية في القطاع، التي تسببت بها الحرب الإسرائيلية على القطاع. وأشار تقرير صدر في 19 فبراير/شباط عن مجموعة التغذية العالمية، واستشهدت به منظمة الصحة العالمية، من بين جهات أخرى، إلى أن 70% من الأطفال دون سن الخامسة أُصيبوا بالإسهال في الأسبوعين السابقين -وهي زيادة قدرها 23 ضعفاً مقارنةً بخط الأساس لعام 2022- ما يجعلهم عرضةً لخطر الجفاف والموت.
وأضاف التقرير الذي أعدته مجموعة التغذية العالمية، والتي تشترك معها مختلف منظمات الأمم المتحدة، أن 90% على الأقل من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من واحد أو أكثر من الأمراض المعدية. وقد أُبلِغَ عن تزايد حالات الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي الحادة وجدري الماء والأمراض الجلدية والتهابات المسالك البولية في القطاع وغيرها.
شبح الأمراض المعدية والمجاعة يهددان آلاف الفلسطينيين في غزة
يشير البروفيسور تشيتشي إلى أنه قبل الحرب كانت هناك نسبةٌ عالية من التطعيم بين سكان غزة، وخاصةً الأطفال، ضد بعض الأمراض المعدية. وهذا هو السبب وراء "عدم تسجيل أمراض مثل الكوليرا، التي تُعتَبر متكرِّرةً في الأزمات الإنسانية، في غزة قبل ذلك"، على حد قوله. وأضاف: "لكننا نعلم من تجربتنا الوبائية أن الكوليرا تجد طريقها إلى كل أزمة إنسانية، وإذا وصلت إلى غزة فإنها ستتسبب في وفاة الآلاف. والأوبئة الثلاثة الأخطر بعدها هي الحصبة وشلل الأطفال وأمراض الجهاز التنفسي".
ويضيف: "إن العديد من الأوبئة هي أمراضٌ يستطيع الأطفال الأصحاء التعافي منها، ولكن عندما يتضوَّر الطفل جوعاً فإن جهاز المناعة لديه لا يعمل بشكل جيد، ومن ثم يكون هناك خطرٌ حقيقي على حياته".
وأفادت وزارة الصحة في غزة مؤخراً أن 27 شخصاً -من بينهم 23 طفلاً- تُوفوا بسبب المجاعة التي تفرضها إسرائيل، وسوء التغذية في المستشفيات في شمال القطاع. ووفقاً لتقرير مجموعة التغذية العالمية، وجدت فحوصات التغذية التي أجريت في يناير/كانون الثاني في الملاجئ والمراكز الصحية هناك، أن 15.6% من الأطفال دون سن الثانية -أي واحد من كل ستة- يعانون من سوء التغذية الحاد. علاوة على ذلك، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 50 ألف امرأة حامل في غزة، وأكثر من 90% منهن، والنساء المرضعات أيضاً، يواجهن انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، ويتناولن الغذاء مرتين أو أقل كل يوم.
ويؤدي هذا النقص في الأدوية في غزة عموماً إلى كلفةٍ باهظة في الأرواح البشرية، وفقاً للبروفيسور تشيتشي. أما السبب الثالث للوفيات الزائدة فهو عدم علاج الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة، مثل تلك التي تصيب القلب والكلى، وكذلك المصابون بمرض السكري وبعض أنواع السرطان. ويوجد حوالي ألفي مريض بالسرطان مسجلون في غزة، وفقاً لمسؤولي الصحة هناك، منهم 122 طفلاً.