لا يزال النفط هو شريان الحياة لاقتصادات عديدة في الشرق الأوسط، لكن بعض عمالقة تجارة النفط في المنطقة التفتوا باهتمامهم مؤخراً إلى قطاع طاقة آخر تزايد ازدهاره وأهميته في السنوات الماضية: وهو قطاع المعادن الحرجة النادرة ذات الأهمية الاستراتيجية.
لماذا تتحول عمالة النفط نحو المعادن الحرجة؟
صارت معادن مثل الليثيوم والكوبالت ومعادن الأتربة النادرة أحد المحركات التي يعتمد عليها تشغيل مشروعات تكنولوجيا الطاقة النظيفة وإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية في العالم. ونظراً للمكانة التي صارت هذه الموارد تحتلها في التحول العالمي إلى الطاقة النظيفة، شرعت بعض البلدان الغنية بالنفط مثل السعودية والإمارات في زيادة استثماراتها في سلاسل توريد هذه المعادن المهمة، سعياً إلى تنويع محافظها الاقتصادية، واقتطاع حصة لها في هذه الصناعة المتنامية.
وفي هذا السياق، نقلت مجلة The Foreign Policy الأمريكية عن أحمد مهدي، العضو المنتدب في "رينيسانس إنيرجي" والزميل الزائر في مركز جامعة كولومبيا لسياسة الطاقة العالمية، قوله: "الأمر لا يتعلق باستبدال العمود الفقري لمحركهم الاقتصادي، والتخلي عن النفط من أجل الإقبال على المعادن الحرجة"، وإنما "يتعلق أكثر برغبة الحصول على مقعد لهم على طاولة التحول العالمي في الطاقة، خاصة وقد زادت الأوضاع الجيوسياسية من أهمية هذه الصناعة".
اجتذبت التوترات الجيوسياسية المتنامية مزيداً من الاهتمام بهذه المعادن والدول التي لديها نفوذ كبير على إمداداتها وإنتاجها. وتهيمن الصين خصوصاً على استخراج كثير من هذه المعادن ومعالجتها، وقد أدى ذلك إلى تفاقم المخاوف الغربية من أن يصبح هذا القطاع ثغرة ضعف استراتيجية، وأفضى بدولٍ عدة إلى تعزيز الجهود الرامية إلى تأمين سلاسل توريد بديلة.
ولما كانت بعض دول الشرق الأوسط النفطية لديها مخاوف قائمة بالفعل من تداعيات الإفراط في الاعتماد على عائدات الوقود الأحفوري، فقد أبَت أن تستبعد من هذا السباق الجديد.
دول الخليج تسعى لتكون مراكز للتعدين
ترى غرسلين باسكاران، الزميلة البارزة في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" الأمريكي أن "السعودية والإمارات ترغبان في أن تكونا دولتين ذواتي شأن في مجال المعادن الحرجة"، "فهذه الدول، وإن كانت تعتمد على النفط، فإنها تدرك أن التحول إلى الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية سيقلل من الطلب العالمي على النفط، ومن ثم إذا أرادت النمو الاقتصادي فلن يكفيها الاقتصار على نموذج الاقتصاد النفطي فقط".
وضعت الرياض نصب أعينها طموحات كبيرة في قطاع التعدين، وأبرزت اهتمامها بالتعدين وتقليل الاعتماد على عائدات الوقود الأحفوري في "رؤية 2030" للإصلاح الاقتصادي، وذكرت وكالة Reuters أن السعودية خصَّصت نحو 182 مليون دولار لبرنامج تحفيز لمشروعات التنقيب عن المعادن. وأشارت تقديرات حكومية إلى أن السعودية لديها احتياطيات معدنية غير مستغلة بقيمة 2.5 تريليون دولار. وقد أعلنت السعودية في عام 2021 عن إطلاق مؤتمر سنوي للتعدين، هو "منتدى معادن المستقبل".
وفي هذا الشأن، صرح خالد المديفر، نائب وزير التعدين السعودي، لموقع Semafor، بأن "السعودية تشهد تحولاً، ونريد بهذا التحول أن نصبح قوة اقتصادية ذات شأن، و"لكي نكون قوة صناعية نحتاج إلى المعادن، ولبناء المشروعات نحتاج إلى المعادن، لذلك فإن التعدين في السعودية هو الخطوة الأولى، وجلب المعادن من الخارج هو الخطوة الثانية، والخطوة الثالثة هي أن تصبح السعودية مركزاً لصناعة التعدين".
ولتنفيذ هذه الرؤية ركّزت الرياض على عقد شراكات جديدة، وتوقيع مذكرات تفاهم معنية بالتعدين مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومصر، وروسيا، والولايات المتحدة، والمغرب. وذكرت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، العام الماضي، أنّ واشنطن والرياض تجريان محادثات لشراء حصص تعدين في عدة دول أفريقية. وتدرس السعودية أيضاً الاستثمار في البرازيل، وأرسلت وفداً إلى الأرجنتين لمناقشة إمكانات الاستفادة من ثروة الليثيوم في البلاد.
وفي الوقت نفسه تُكثف الإمارات أيضاً جهودها للحصول على حصة في هذا القطاع، ووقعت من أجل ذلك شراكة تعدين بقيمة 1.9 مليار دولار مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، وعقدت اتفاقيات جديدة في زامبيا الغنية بالنحاس. وذكرت تقارير أن الإمارات وأستراليا تجريان محادثات بشأن اتفاقية تجارة حرة يمكن أن تشهد استثمار أبوظبي في قطاع المعادن الحرجة لدى كانبيرا. وقطعت قطر كذلك خطواتها الأولى في هذا المسار بتوقيع اتفاقيات تعدين مع نيجيريا، والتشديد على أهمية التعاون في مجال المعادن الحرجة في محادثات قطرية مع واشنطن.
دول الخليج تملك القدرة على العمل مع الجميع
قالت غرسلين باسكاران، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن أبوظبي والرياض "لديهما الكثير من رأس المال المتاح للإنفاق في هذا القطاع"، "لذلك ففي حين تتراجع معظم الشركات الغربية عن كثير من أعمال الحفر والتنقيب، بسبب انخفاض أسعار الليثيوم والنيكل والكوبالت، فإن دول الشرق الأوسط هذه تقول (لدي رأس المال)".
ومع ذلك، يحذر خبراء من أن هناك تحديات تنظيمية وبيئية واستثمارية تلوح في أفق هذه المشروعات. وكتب حميد بوران، خبير المعادن الحرجة في جامعة ولفرهامبتون، لـ"معهد الشرق الأوسط" الأمريكي: "إن جذب استثمارات دولية كبيرة يتطلب شروطاً مالية تنافسية، وأنظمة يمكن التنبؤ بمساراتها الاقتصادية لتحفيز مشاركة الشركات الخاصة". ويرى بوران أنه "لا بد من التمسك بشروط بيئية واجتماعية صارمة لتكون مشروعات التعدين أخلاقية ومستدامة".
من جهة أخرى، يرى بريان بيل، محلل السياسات في شركة Benchmark Mineral Intelligence البريطانية لاستشارات التعدين، أن القوى مثل السعودية لديها ميزة مهمة، وهي قدرتها على العمل مع الجميع، إذ "لديهم مساحة أكبر للمناورة والتعامل مع دول مختلفة، خلافاً لبعض القوى الأخرى، فهم يستطيعون التعاون مع روسيا والصين والولايات المتحدة في الوقت نفسه"، و"هذا مورد كبير" للتقدم في هذا المجال.