أثارت حوادث متعلقة بأموال البلديات في تركيا جدلاً في البلاد، بشأن كيفية إدارتها، ومن أين تأتي، لا سيما أن ميزانية بعضها مثل إسطنبول وأنقرة أكبر من موازنة 7 وزارات مجتمعة.
حادثان بارزان متعلقات بتمويل البلديات في تركيا، أثارا الجدل، أولهما العثور على حقيبة مليئة بمئات الآلاف من الدولارات بغرفة أحد نواب مجلس الأمة التركي، عن حزب الشعب الجمهوري، وثانيهما مشاهد تجهيز حقائب أخرى بملايين الليرات التركية في أحد المقار التابعة للحزب ذاته قبل الانتخابات الداخلية للحزب، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، كان من بين المشرفين على تجهيزها مقربون من رئيس بلدية إسطنبول الكبرى الحالي أكرم إمام أوغلو.
المشهدان اللذان يتم تداولهما في عموم وسائل الإعلام التركية يأتيان قبل أقل من أسبوعين من الانتخابات المحلية، المقررة في 31 مارس/آذار المقبل، وسط تصاعد حدة المنافسة بين جميع الأحزاب التركية، في مقدمتها حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الشعب الجمهوري المعارض.
مع تزايد الحديث حول هذه المشاهد فتح المدعي العام في إسطنبول تحقيقاً خاصاً لمعرفة حقيقة هذه الأموال التي تم إعدادها، في حين تحدثت بعض وسائل الإعلام عن استخدامها من إمام أوغلو لشراء أصوات المندوبين في الانتخابات الداخلية للحزب، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
أموال بلدية إسطنبول
هذه الحوادث تزامنت مع اتهامات لكل من أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطبنول الكبرى، ومنصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة الكبرى، باستخدام أموال البلديتين اللتين تتجاوزان مجتمعتين أكثر من نصف تريليون ليرة تركية (500 مليار ليرة) لأغراض حزبية، دون إنفاقها على خدمة المواطنين، ما يعدل أكثر من موازنة 7 وزارات في البلاد.
ذكرت قناة "AHABER" التركية أن إمام أوغلو أنفق، في الفترة من 18 يناير/كانون الثاني إلى 3 مارس/آذار 2024، ما مجموعه 350 مليون ليرة تركية من أموال البلدية على حملته الانتخابية، بما في ذلك 250 مليون ليرة على إعلانات التلفزيون والوسائط الرقمية، و100 مليون ليرة تركية على الإعلانات الخارجية.
إضافة إلى ذلك، كشفت القناة المقربة من الحكومة التركية، أن إدارة إمام أوغلو قامت بتحويل العديد من الموارد المالية لبلدية إسطنبول الكبرى إلى حزب الشعب الجمهوري، وكان من بين ذلك تحويل 980 مليون ليرة تركية دفعة واحدة إلى حسابات مختلفة لأكبر أحزاب المعارضة التركية.
يذكر أن مجلس بلدية إسطنبول وافق، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023، على ميزانية المدينة لعام 2024 بمقدار 213 ملياراً و500 مليون ليرة تركية، تتكفل الدولة بتوفير المبلغ الأكبر منها، فيما تجمع البلدية بقية الأموال من الضرائب والمشروعات التي تتولى إدارتها.
بلدية أنقرة في دائرة الاتهام أيضاً
بلدية أنقرة الكبرى، وهي الأخرى تقودها المعارضة التركية منذ عام 2019، لم تسلم من اتهام تبديد أموال المواطنين على مناقصات ومصاريف وهمية، بحسب تقرير لجنة التدقيق البرلمانية حول أعمال بلدية أنقرة الكبرى.
من بين هذه الاتهامات ما يواجهه حالياً رئيس البلدية منصور يافاش، من تخصيص صفقات لشركة المجوهرات التي يملك بعض أسهمها، بحسب فواتير البلدية، التي وصلت أكثر من ربع مليون ليرة تركية، في صفقة بالأمر المباشر دون مناقصة بين الشركات الأخرى.
كشف تقرير لجنة التدقيق البرلمانية أنه تم شراء ما مجموعه 316 ألفاً و800 ليرة تركية من الهدايا التذكارية في 4 عناصر، وجميع هذه الهدايا التذكارية مصنوعة من الفضة، وغالبيتها كانت من مواد المجوهرات النسائية، وجميع الصفقات الأربع فازت بها شركة منصور يافاش.
إلى ذلك، وجَّه مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة بلدية العاصمة أسئلة إلى رئيس البلدية الحالي ومرشح حزب الشعب الجمهوري لرئاستها خلال السنوات الخمس القادمة، حول شرائه منزلاً في العاصمة البريطانية لندن، لم يكن قد اشتراه خلال فترة رئاسته بلدية العاصمة.
بلغت ميزانية بلدية أنقرة الكبرى لعام 2024 نحو 363 مليار ليرة تركية، ورغم ذلك لم يتم تنفيذ أي مشروعات في البنية التحتية داخل بلدية العاصمة التركية منذ عام 2019، رغم هذه الأموال التي تعادل ميزانية 7 وزارات تركية.
تمويل البلديات في تركيا
للبلديات في تركيا مصادر دخل مختلفة للقيام بالخدمات المطلوبة منها، وفق القانون رقم 5393، بتاريخ 3 يوليو/تموز 2005، الذي يحدد أساليب عمل البلديات، بحسب الدكتور أحمد فيدان، أستاذ الاقتصاد والعلوم الإدارية والمهتم بشؤون الحكم المحلي في تركيا.
وأوضح فيدان في تصريحات لـ"عربي بوست"، أن القانون حدد إيرادات البلديات في تركيا عبر الحصص المحولة من الموازنة العامة، وجمع الضرائب والرسوم التي يحددها القانون، والدخل من العقارات.
وأضاف أستاذ الاقتصاد والعلوم الإدارية أنه يتم أيضاً احتساب دخل العقوبات والفوائد والتبرعات والمساعدات المقدمة من الأفراد والمؤسسات الخاصة كدخل خاص، بالإضافة إلى ذلك يمكن أن يتم الاقتراض من خلال "بنك البلديات" الذي تم إنشاؤه لهذا الغرض.
تم تأسس بنك البلديات، في 11 يونيو/حزيران 1933، باسم "بنك الولايات" من أجل تلبية احتياجات البلديات في تركيا بموجب القانون رقم 2301، وتم تغيير اسمه بالقانون رقم 4759، في 23 يونيو/حزيران 1945، ليصبح "بنك البلديات" أو "İLLER BANKASI" بالقانون رقم 6107، بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2011.
وقال فيدان إنه إضافة لذلك تُرك تقدير تحصيل وجمع الضرائب العقارية المستوفاة بموجب القانون رقم 1319، المؤرخ 29 تموز/يوليو 1970، للبلديات بموجب اللائحة الصادرة عام 1985.
وتابع بأن إيرادات البلديات في تركيا زادت بشكل كبير، وفي الوقت ذاته أصبحت البلديات ذات المواقع القيمة مراكز للربح، ولا تختلف إيرادات البلديات الحضرية عن إيرادات بلديات المناطق، ويمنح القانون رقم 5216 بتاريخ 10 يوليو/تموز 2004، بحصة 25% من الضرائب العقارية للبلديات التابعة للبلديات الحضرية.
التمويل الأكبر لإسطنبول وأنقرة
تتزايد حصة الإدارات المحلية من الميزانية كل عام، وفي العام الماضي 2023 تجاوزت الموارد المخصصة للبلديات الحضرية من إيرادات الضرائب في الموازنة العامة لتركيا 228 مليار ليرة.
تم تحويل الموارد الأكبر إلى بلدية إسطنبول الكبرى، بقيمة 93.2 مليار ليرة، بزيادة قدرها 87%، وتلقت إسطنبول وحدها ما يقرب من 41% من إجمالي الموارد المحولة إلى المدن الكبرى، وكانت هناك أيضاً زيادة بنسبة 75% في المبلغ المحول إلى بلديتي أنقرة وإزمير في عام 2023.
صرَّح كذلك وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك بأنه في عام 2023 فقط، تم تخصيص أكبر الموارد بين البلديات لإسطنبول وأنقرة وإزمير.
وقال: "انظر، هناك أنطاليا ومرسين وأضنة في المراكز العشرة الأولى. وكما ترون، هذه المحافظات الستة في أيدي المعارضة"، مؤكداً أن "الحكومة لا تمارس التمييز بهدف خدمة الشعب".
في كلمته الأسبوع الماضي، في برنامج انتخابي لدعم مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى مراد كروم، قال شيمشك إن تحالف الشعب سيحل أهم المشكلات في إسطنبول، مثل النقل وعجز الإسكان ومخاطر الكوارث عبر الإدارة الجيدة لموارد البلدية.
وقال وزير المالية التركي في كلمته إن الحكومة، بقيادة الرئيس أردوغان، قامت باستثمارات كبيرة في البنية التحتية لإسطنبول، مذكّراً بأنه تم بناء مليون و319 ألف وحدة سكنية اجتماعية خلال حكومات حزب العدالة والتنمية، وأن مراد كوروم يمثل فرصة لإسطنبول، وأنه سينفذ التحول الحضري بأفضل طريقة بفضل خبرته كوزير سابق للتطور الحضري والبنية التحتية.
سلطات رؤساء البلديات في تركيا
وردت واجبات رؤساء البلديات في تركيا بالمواد 17-18 من القانون رقم 5216، الذي دخل حيز التنفيذ بعد نشره في الجريدة الرسمية، في 22 يوليو/تموز 2004.
ويتم انتخاب رؤساء البلديات مباشرةً من الناخبين داخل حدود كل بلدية، وفقاً للمبادئ والإجراءات المحددة في قانون انتخابات البلديات.
لا يجوز لرؤساء بلديات المدن الكبرى والمقاطعات والبلديات في تركيا ضمن نطاق البلديات الحضرية العمل في هيئات الإدارة والرقابة التابعة للأحزاب السياسية أثناء استمرارهم في مهامهم، كما لا يمكنهم شغل منصب الرئيس أو إدارة الأندية الرياضية المحترفة.
وتتلخص واجبات وصلاحيات رؤساء البلديات في تركيا فيما يلي:
1- بصفته الرئيس الأعلى للتنظيم البلدي في تركيا، يتولى توجيه وإدارة التنظيم البلدي وحماية حقوق ومصالح المدينة والبلدية.
2- إدارة البلدية وفقاً للخطة الاستراتيجية، ووضع الاستراتيجيات المؤسسية للإدارة البلدية، وإعداد وتنفيذ الميزانية وفقاً لهذه الاستراتيجيات، وتحديد ومراقبة وتقييم معايير أداء الأنشطة البلدية وموظفيها، ورفع التقارير ذات الصلة إلى المجلس.
3- رئاسة المجلس البلدي ومجلس العاصمة وتنفيذ قرارات هذه الهيئات، واتخاذ التدابير اللازمة للتنفيذ الفعال والكفء للواجبات والخدمات الموكلة إلى بلدية العاصمة بموجب هذا القانون.
4- لضمان الإدارة الفعالة والكفاءة لبلدية العاصمة والشركات التابعة لها، لإعداد مسودات الميزانية ومقترحات التغييرات في الميزانية والحسابات الختامية لميزانية بلدية العاصمة والشركات التابعة لها، والشركات.
5- مراقبة حقوق ومصالح بلدية العاصمة، والتأكد من تحصيل مستحقاتها وإيراداتها، وإبرام العقود نيابة عن بلدية العاصمة، وقبول التبرعات دون مقابل، وإجراء التصرفات اللازمة، على أن تتخذ الجهات المختصة القرار.
6- تمثيل البلدية في المحاكم كمدّعٍ أو مدعى عليه وفي الجهات الرسمية، وتمثيلها من محامي البلدية والمنظمات التابعة لها أو المحامين الخاصين، وتعيين موظفي البلدية والإشراف على البلدية والمنظمات التابعة لها.
7- القيام بالخدمات وممارسة الصلاحيات المتعلقة بواجبات البلدية، ومن بين الواجبات والصلاحيات الممنوحة لرؤساء البلديات بموجب القوانين الأخرى؛ تفويض واحدة أو أكثر من الواجبات والصلاحيات إلى المنطقة أو عمدة المستوى الأول عند الضرورة.
8- استخدام الأموال المخصصة للفقراء والمحتاجين في الميزانية وإنشاء مراكز للمعاقين لدعم الأنشطة المتعلقة بالمعاقين.
الشفافية في إدارة البلديات
تقع الحكومات المحلية في تركيا في المرتبة الثانية من بين أكثر الأماكن التي يعتقد أن الفساد فيها هو الأكثر، في ظل تزايد شيوع المناقصات المغلقة داخل مختلف البلديات في تركيا.
تعد البلديات أحد المراكز المهمة لتوزيع الموارد في تركيا.
ووفقاً لأحدث استطلاع للرأي العام أجرته منظمة الشفافية الدولية، فإن البلديات في تركيا هي الأماكن التي يعتقد أن الفساد فيها هو الأكثر في البلاد، بعد الأحزاب السياسية، بنحو 77% من عناصر المجتمع، الذين يقولون إن هناك فساداً في الحكومات البلدية والمحلية.
فتحت منظمة الشفافية الدولية التزام الشفافية أمام توقيع المرشحين لرئاسة البلديات لانتخابات 31 مارس/آذار 2024، كما فعلت في الانتخابات المحلية لعام 2019.
في عام 2019، وقع رؤساء بلديات أنقرة وإسطنبول وإزمير و70 رئيس بلدية مختلفة على الالتزام الذي أعلن فيه المرشحون الرئاسيون عن إرادتهم السياسية بشأن مبادئ الشفافية والمساءلة والمشاركة.
توقيع بيان الشفافية
تدعو منظمة الشفافية إلى الحصول على توقيعات من المرشحين الذين يعدون بالحكم الشفاف، ويطالبون بسياسة نظيفة.
بحسب ممثلة منظمة الشفافية الدولية في تركيا، أويا أوزارسلان، فإن الحكومات المحلية هي المؤسسات الأقرب إلى الجمهور، ويعد توزيع الموارد واستخدامها أمراً مهماً للغاية.
وأوضحت ممثلة منظمة الشفافية الدولية في بحثها حول أهمية الشفافية في إدارة البلديات العديد من الأمثلة على المحسوبية في البلديات، أنه عندما يأتي رئيس بلدية فإن أول فعل يقوم به هو استبدال الموظفين، لجلب الأقارب أو الأزواج أو الأصدقاء أو المعارف أو أعضاء الحزب.
وكان أقرب مثال لذلك ما حدث مع العاملين في بلدية إسطنبول الكبرى عام 2019، حينما تم فصل الآلاف منهم، واستبدالهم بأنصار الحزب الفائز حينها، حزب الشعب الجمهوري.
بحسب أوزارسلان، تبدو البلديات أكثر عرضة للفساد، نظراً لعدم تطبيق نظام المناقصة المفتوحة، ويتم تنفيذ نظام المناقصة في الغالب من خلال التفاوض والدعوة.
بحسب تقرير منظمة الشفافية، انخفض معدل المناقصات المفتوحة بين المشتريات العامة في تركيا إلى 59%، اعتباراً من عام 2022، وبات تنفيذ المشروعات في معظم البلديات في تركيا يتم بالأمر المباشر دون عقد المناقصات المفتوحة كما كان من قبل.