استفادت ماليزيا من الصراع الجيوسياسي المحتدم بين أمريكا والصين من جهة، وجائحة كورونا من جهة أخرى، لتصبح حلقة رئيسية في سلسلة توريد أشباه الموصلات، فما قصة هذا الصعود؟
رصد تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية قصة صعود ماليزيا كحلقة وصل حيوية في سلسلة توريد الرقائق، فكيف استعد النمر الآسيوي منذ عقود لاقتناص الفرصة؟
شركات أوروبية وأمريكية في ماليزيا
لا تزال رافعات البناء تُحيط بالمصنع الجديد في منطقة كوليم الصناعية بماليزيا، بينما يعمل في الداخل جحافل من العاملين لصالح شركة التقنية النمساوية العملاقة AT&S، الذين يستعدون للإنتاج بكامل طاقة المصنع مع حلول نهاية العام الجاري 2024.
تُعد AT&S مجرد شركة واحدة من سيل الشركات الأوروبية والأمريكية التي قررت مؤخراً الانتقال إلى ماليزيا، أو توسيع عملياتها داخل وجهة تصنيع الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية هناك.
حيث تستثمر كل من عملاقة صنع الرقائق الأمريكية Intel وشركة Infineon الألمانية مبلغ 7 مليارات دولار في ماليزيا.
كما تتعاون شركة Nvidia، مُصنِّعة رقائق الذكاء الاصطناعي الرائدة في العالم، مع ائتلاف المرافق في البلاد من أجل تطوير سحابة ذكاء اصطناعي ومركز حاسوب فائق بقيمة 4.3 مليار دولار. وتتوسع شركات Texas Instruments، وEricsson، وBosch، وLam Research في ماليزيا أيضاً.
حرب أشباه الموصلات بين أمريكا والصين
تمثل هذه الطفرة دليلاً على مدى تأثير الاحتكاكات والمنافسة الجيوسياسية في إعادة تشكيل الساحة الاقتصادية العالمية، وتحريك قرارات استثمارات بمليارات الدولارات. لهذا تتطلع الشركات إلى تقوية سلاسل توريدها وقدراتها الإنتاجية، بالتزامن مع احتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في كل ما يتعلق بالتقنيات المتطورة، وفي ظل تراكم القيود التجارية.
فبعد أن أصبح الصراع الجيوسياسي بين أمريكا والصين مفتوحاً على مصراعيه، وبعد أن سعت إدارة جو بايدن إلى الإضرار بالنمو الصيني من خلال "حظر" أشباه الموصلات المتقدمة، وردت بكين برصد تريليون يوان (143 مليار دولار) حتى لا تفقد زخم تقدمها التقني، بدأت حركة هجرة شركات التقنية الكبرى بعيداً عن الصين وتايوان، أو على الأقل إيجاد أماكن أخرى على سبيل التحوط.
فالعلاقات بين الولايات المتحدة والصين كانت قد بدأت في التوتر خلال حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي شن حرباً تجارية شرسة ضد بكين، لكن ذلك لم يمنع التنين من أن يصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، بينما يعاني الاقتصاد الأمريكي بشدة من التضخم، بفعل تداعيات جائحة كورونا، ثم حرب روسيا في أوكرانيا.
ومع تولّي جو بايدن المسؤولية، وحديثه المتكرر بأن "أمريكا عادت لقيادة العالم"، أصبحت "المنافسة" علنيةً بين بكين وواشنطن، وأصبحت الحرب الباردة بينهما أمراً واقعاً، ليعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الوقت قد حان لنظام عالمي جديد، ليحل محل النظام القديم أحادي القطبية، أو بمعنى آخَر النظام الذي تقوده أمريكا وتهيمن عليه.
سعى ترامب إلى أن يُلحق بالصين جروحاً غائرةً من خلال حربه التجارية، لكن تلك الحرب لم تكُن فعالة، وبعد نحو عامين من دخوله البيت الأبيض بدا أن جو بايدن قد وجد السلاح الذي قد يكون فتاكاً ويعيق بكين بالفعل، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، عنوانه "بايدن يعزل الصين عن الرقائق الإلكترونية".
"وأخيراً وجدت إدارة بايدن سلاحاً أكثر حدة، ويمكنه أن يعيق طموحات الصين التكنولوجية لما يصل إلى عقد من الزمان. ويتمثل الهدف في رقائق أشباه الموصلات، خاصةً الصنف المتطور المستخدم في الحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي"، بحسب تقرير فورين بوليسي.
ماليزيا.. أحد المستفيدين
وهنا ينطبق المثل العربي "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فماليزيا أصبحت ملاذاً للشركات الساعية لتجنب أسوأ السيناريوهات. فقد كانت AT&S تمتلك مواقع إنتاج في النمسا، والهند، وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى أكبر مصانعها في الصين عندما بدأت البحث عن مواقع جديدة.
أندرياس غيرستنماير، الرئيس التنفيذي لـAT&S، قال لنيويورك تايمز: "كان من الواضح أننا بحاجة لتنويع أماكن تواجدنا بعد الاستثمار في الصين لمدة 20 عاماً". وتصنع هذه الشركة لوحات الدارة المطبوعة والركائز عالية التقنية، التي تُشكِّل أساس المكونات الإلكترونية المتقدمة المُشغِّلة للذكاء الاصطناعي والحواسيب الفائقة.
ولا شك أن موقع منطقة جنوب شرق آسيا الاستراتيجي المطل على بحر الصين الجنوبي، وعلاقاتها الطويلة مع الصين والولايات المتحدة، يجعلانها وجهةً جذابةً للتوسع. كما تبذل بعض دول المنطقة، مثل تايلاند وفيتنام، جهوداً كبيرة في التودد إلى شركات أشباه الموصلات حتى تتوسع على أراضيها -من خلال تقديم الحوافز الضريبية ووسائل الجذب الأخرى.
لكن ماليزيا تتمتع بأفضلية البداية المبكرة
فقد امتطت ماليزيا حصان التقنية منذ السبعينيات عندما جذبت بعض الشركات الكبرى في الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية مثل Intel وLitronix (أو ams Osram حالياً). وأنشأت منطقة تجارةٍ حرة في جزيرة بينانق، وقدّمت الإعفاءات الضريبية، وشيّدت المناطق الصناعية والمستودعات والطرق. ولعبت العمالة الرخيصة دور عنصر الجذب الإضافي، بالإضافة إلى العدد الكبير من السكان الذين يتحدثون الإنجليزية والحكومة الداعمة للاستثمار الأجنبي.
وازداد الاهتمام بماليزيا في أعقاب جائحة كوفيد-19، التي كشفت عن نقاط الضعف المدمرة في سلاسل التوريد العالمية.
وتسارع هذا الاتجاه بالتزامن مع تفاقم صراعات القوى الكبرى. حيث قال وزير الاستثمار، والتجارة، والصناعة الماليزي تنكو ظفرول عبد العزيز: "أرادت الشركات الأمريكية، والأوروبية، وحتى الصينية تنويع سلاسل توريدها خارج الصين".
وأوضح أن المخاوف حيال الأزمة الخاصة بتايوان، وهي أكبر منتج لأشباه الموصلات في العالم، قد ساهمت في تعزيز الاستثمار داخل ماليزيا أكثر. إذ تُعد ماليزيا سادس أكبر دولة مصدرة لأشباه الموصلات في العالم حالياً، وهي المسؤولة عن تعبئة 23% من إجمالي الرقائق الأمريكية.
ماذا تمتلك ماليزيا في هذا المجال؟
قال ديفيد لاسي، مدير التطوير والخدمات المتقدمة في Osram، لنيويورك تايمز: "من المذهل أن يكون لدولة بهذا الحجم هذا القدر الكبير من التأثير على سوق أشباه الموصلات العالمية".
ويلعب وجود العديد من شركات التقنية في مكانٍ واحد دور عنصر الجذب أيضاً. إذ توجد أكثر من 300 شركة في بينانق وكوليم اللتين يربطهما جسران طويلان متعرجان.
وأوضح إيريك تشان، نائب الرئيس والمدير العام لشركة Intel في ماليزيا: "كل شيء موجود هنا". فبعد أن أمضت ماليزيا نحو نصف قرن في هذا المجال، أصبح من الصعب تقليد شبكتها وبنيتها التحتية. وأشار تشان كذلك إلى تعاون الحكومة بشكلٍ حيوي إبان الجائحة لإبقاء المصانع مفتوحة.
بلغ حجم الاستثمارات المباشرة في ماليزيا نحو 40 مليار دولار في العام الماضي، أي أكثر من ضعفي إجمالي عام 2019.
وصرّح ماريو لورينز، المدير الإداري لشركة الخدمات اللوجستية الألمانية DHL Supply Chain في ماليزيا، بأن "غالبية استثماراتنا الكبرى جرت في العامين الماضيين". وخلال تلك الفترة، نما قطاع أشباه الموصلات ليُهيمن على أعمال الشركة في ماليزيا. وأردف: "قررنا مواكبة هذا الاتجاه".
4 منشآت توريد قيد الإنشاء
واليوم، توجد أربع منشآت سلاسل توريد قيد الإنشاء في ماليزيا. إذ ركّزت الدولة الآسيوية في الشطر الأعظم من تاريخها على الواجهة الخلفية لسلسة توريد أشباه الموصلات، التي تتضمن التعبئة والتجميع واختبار المكونات -وهي أنشطة كانت تُعتبر أقل تعقيداً وقيمة.
لكن الصناعة باتت تركز الآن على تعبئة الرقائق الأصغر في مساحات أضيق لزيادة قوة الحوسبة، ما زاد قيمة تلك الأنشطة ودرجة تعقيدها الفني.
حيث تبني Intel أولى منشآتها الخارجية لتعبئة الدارات المتكاملة المتقدمة ثلاثية الأبعاد في ماليزيا. ولا شك أن إدخال التقنيات المتطورة يؤدي إلى حدوث "تأثير متموج" بحسب إيه كي تشونغ، نائبة الرئيس والمديرة العامة لشركة Intel في ماليزيا. وسيسفر هذا التطور عن جذب عشرات الشركات الجديدة والمساعدة في تطوير مجموعة مهارات القوى العاملة بالكامل.
وتتطلب مثل هذه التطورات توسعاً مهولاً في منشآت مثل الطاقة النظيفة، والصرف الصحي، والماء، والبنية التحتية الرقمية للجيل الخامس.
وتُشكل هذه الأمور تحدياً لأي دولة، خاصةً مع دولةٍ لديها تاريخ ملطخ بفضيحة فساد وصل حجمها لعدة مليارات من الدولارات وتضمنت صندوق الثروة السيادي هناك. ورغم ذلك، قال عدد من المديرين التنفيذيين للشركات إنهم على ثقة في الدور الذي ستلعبه ماليزيا داخل سلسلة التوريد.
وأوضح غيرستنماير: "لديهم مشروعات لتوفير الطاقة النظيفة ببناء مزارع الطاقة الشمسية الكبيرة. وتسلك ماليزيا مساراً جيداً سيجعلها وجهةً جاذبة في صناعة الإلكترونيات على مستوى العالم".