في ظل حالة الحرب غير المعلنة بين روسيا وأمريكا، تشهد حدود حلف الناتو الشرقية حالة من التصعيد المكثف، من حفر خنادق وتخزين أسلحة، فما قصة هذه الاستعدادات؟
تتهم الدول الغربية، وبخاصة واشنطن ولندن، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يريد اجتياح دول مثل لاتفيا وإستونيا وغيرهما من دول شرق أوروبا، كما فعل في أوكرانيا، لكن موسكو تنفي تلك الادعاءات وتتهم الغرب بأنه يسعى لتقويض أمنها القومي.
وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً يرصد حالة التأهب التي تسيطر على "دول خط المواجهة" مع روسيا، متسائلة إذا ما كانت الاستعدادات سوف "تردع بوتين".
خوف من اجتياح الدبابات الروسية
في أوائل التسعينيات، سُئل ضابط في الجيش اللاتفي عن المدة التي يمكن أن تكون قواته قادرة على الصمود فيها ضد أي غزو روسي محتمل، فأجاب: "حوالي 12 دقيقة".
وفي عام 2016، خلصت سلسلة من المناورات الحربية التي أجرتها مؤسسة راند، وهي مؤسسة فكرية استراتيجية قريبة من الحكومة الأمريكية، إلى أن الدبابات الروسية ستصل إلى ضواحي ريجا وتالين -عاصمتي لاتفيا وإستونيا- في غضون 60 ساعة.
أما اليوم، فيبدو الوضع مختلفاً بصورة جذرية. إذ يعِد حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالدفاع عن "كل شبر" من الأراضي في دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا)، ويقوم الحلف العسكري الغربي بتجميع ثلاث قوات على مستوى الألوية لحمايتها، مع خطوط تعزيزات من ألمانيا وبولندا وفنلندا.
والآن تعمل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا على تعزيز امتداد حدودها البالغ طوله ألف ميل، وهو الجزء الأكثر عرضةً لمواجهات عسكرية في الجهة الشرقية لحلف شمال الأطلسي، مع تحصينات "خط دفاع البلطيق".
100 مخبأ خرساني على الحدود
سيكون العنصر الأساسي في تأمين تلك الحدود الممتدة عبارة عن أكثر من 100 مخبأ خرساني على حدود الدول الثلاث مع روسيا وبيلاروسيا وجيب كالينينغراد الروسي العسكري، الذي يقع بين بولندا وليتوانيا.
وتخطط إستونيا وحدها لإنفاق حوالي 60 مليون يورو على بناء 600 منشأة على طول حدودها مع روسيا التي يبلغ طولها 180 ميلاً. تبلغ مساحة كل مخبأ حوالي 37 متراً مربعاً، مع مساحة تتسع لحوالي عشرة جنود، وسوف تُعزَّز ضد ضربات المدفعية، وفقاً لما صرحت به سوزان ليليفالي، وكيلة وزارة الحكومة الإستونية لشؤون الاستعداد الدفاعي، للصحيفة البريطانية.
سيكون هناك أيضاً مخازن ذخيرة قريبة وإجراءات لصد أي غزاة، مثل الألغام المضادة للدبابات والخنادق والأسلاك الشائكة والأهرامات الخرسانية المعروفة باسم "أسنان التنين"، والتي تتناثر في ساحة المعركة لعرقلة المركبات المدرعة.
وقال الجنرال كايدو تيتوس من قوة الاحتياط التابعة لرابطة الدفاع الإستونية ومستشار ليليفالي للتايمز البريطانية: "إنها تشمل جميع الوسائل الضرورية للقتال ضد العدو".
يسير المشروع بسرعة كبيرة، مدفوعاً بالمخاوف من أن يحول الكرملين اهتمامه إلى دول البلطيق بعد أوكرانيا. وفي الشهر الماضي، قال كاجا كالاس، رئيس الوزراء الإستوني، لصحيفة The Times البريطانية إن روسيا قد تكون في وضع يسمح لها بشن هجوم على الناتو في أقل من ثلاث سنوات.
وحذرت وكالة الاستخبارات الخارجية في البلاد، الثلاثاء 13 فبراير/شباط، في تقريرها السنوي من أن روسيا كانت في طريقها لنشر ما يصل إلى ضعف عدد القوات بالقرب من حدود دول البلطيق مقارنة بـ19 ألف جندي كانت لديها قبل الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وهو الهجوم الذي يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر" بينما تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة".
هل توجد خطط روسية لحرب جديدة؟
وصفت الوكالة أيضاً الخطط الروسية لإنشاء فيلق جيش جديد، ربما يكون متمركزاً في بتروزافودسك إلى الشمال الشرقي من سان بطرسبورغ، لتغطية الحدود البالغة 830 ميلاً مع فنلندا. وقد طُوِّرَت النماذج الأولية لمخابئ البلطيق، ومن المتوقع أن تبدأ أعمال البناء في أقرب وقت مع بداية العام المقبل.
كانت فنلندا قد انضمت رسمياً إلى حلف الناتو في أبريل/نيسان 2023، وهو ما يمثل ضربة استراتيجية كبيرة لروسيا، وقد تفوق في خسائرها الجيوسياسية الخسارة الناجمة عن التحاق أوكرانيا بالناتو الذي كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحذر منه.
ومؤخراً قامت دول البلطيق الثلاث ببناء سياج على طول أجزاء كبيرة من حدودها مع روسيا وبيلاروسيا، رغم أن الهدف منها هو ردع المهاجرين والمهربين وليس الدبابات، فالغالبية العظمى من بنيتها التحتية العسكرية تقع في الداخل.
لكن تظل المقارنات بين ما يجري الآن وبين مع خط ماجينو، وهو شبكة كثيفة من التحصينات التي أقامتها فرنسا على حدودها الشرقية والتي فشلت في ردع ألمانيا النازية من الغزو، ليست في محلها، بحسب الصحيفة البريطانية.
والفكرة، وفقاً للرائد دوناتاس بالافينيس، وهو ضابط في الجيش الليتواني وزميل باحث في معهد البلطيق للتكنولوجيا المتقدمة في فيلنيوس، هي إبطاء القوة الغازية وتوجيهها إلى مناطق يمكن لحلف شمال الأطلسي أن يقاتل فيها بشروط أكثر ملاءمة.
لكن السيناريو الذي يسبب أكبر قدر من القلق لمخططي حلف شمال الأطلسي هو السيناريو الذي تشن فيه روسيا هجوماً "سريعاً وبعيد المدى" ضد دول البلطيق وتحقق مكاسب كبيرة قد يجد الحلف صعوبةً في عكس اتجاهها.
ومن هذا المنطلق، يهدف الخط الدفاعي إلى إيقاف أي غزو من هذا القبيل في المرحلة الأولى. وتقدِّر وزارة الدفاع الإستونية أن المهاجم يحتاج إلى ما بين أربعة إلى سبعة أضعاف القوة البشرية للاستيلاء على هذا النوع من المواقع مما قد يحتاجه بدون التحصينات.
ما الهدف من تقوية الحدود بين البلطيق وروسيا؟
وحتى لو لم يكن من الممكن الحفاظ على الخط في نهاية المطاف، فالهدف على الأقل هو أن يمنح الخط وقتاً ثميناً للمدافعين لإعادة تجميع صفوفهم وتلقي التعزيزات من الدول الأعضاء الأخرى في حلف شمال الأطلسي.
تستند الخطة بقوة إلى مسار الحرب في أوكرانيا، حيث واجه الجانبان صعوبةً كبيرة في التغلب على المواقع الدفاعية المُعدَّة جيداً خلال العام الماضي؛ مما أدى إلى جبهات استنزاف وثبات إلى حد كبير.
ينبغي أن يسمح هذا النوع من الحروب لحلف شمال الأطلسي من الناحية النظرية بحشد موارده الأكبر بكثير لتحمل التقدم الروسي وإيقافه قبل أن يتمكن من بناء أي زخم ذي معنى. وتحرص دول البلطيق بشكل خاص على حرمان روسيا من فرصة إقامة دفاعاتها الخاصة على أي منطقة تستولي عليها.
ومن المتوقع أن تصل غالبية حلفاء الناتو، بما في ذلك ألمانيا لأول مرة منذ الحرب الباردة، إلى الحد الأدنى المستهدف للإنفاق العسكري وهو 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول يوليو/تموز.
أشاد ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، بالأرقام التي تُظهِر "زيادةً قياسية" في الإنفاق الدفاعي للحلف قبل قمته السنوية الخامسة والسبعين في واشنطن في يوليو/تموز 2024. وهذا يعني أن 18 دولة من أصل 31 دولة في الناتو قد استوفت أو تجاوزت عتبة الإنفاق، بما في ذلك ألمانيا وست دول أخرى منذ عام 2023.
وقال ستولتبيرغ: "هذا رقم قياسي آخر وزيادة ستة أضعاف عن عام 2014 عندما حقق ثلاثة حلفاء فقط الهدف"، مشيراً إلى أن الدول الأوروبية ستنفق إجمالي 380 مليار دولار على الدفاع هذا العام. وأضاف: "نحن نحرز تقدماً حقيقياً. الحلفاء الأوروبيون ينفقون أكثر".
جاءت تصريحات الأمين العام لحلف الناتو في أعقاب تصريحات للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قال فيها إنه إذا أصبح رئيساً فإنه لن يدافع عن حلفاء الناتو الذين فشلوا في إنفاق ما يكفي على الدفاع، بل إنه سيشجع روسيا على مهاجمتهم.
وأثارت تصريحات ترامب ردود فعل غاضبة من العواصم الأوروبية واستغلها البيت الأبيض للتحذير من مخاطر عودة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض مرة أخرى في حالة فوزه بالانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
يتصدر ترامب حالياً السباق الجمهوري للفوز بترشيح الحزب ولا تنافسه سوى نيكي هيلي، لكن الفارق بينهما ضخم لصالح الرئيس السابق وتمارس عليها الضغوط للانسحاب وإعلان دعمها له، شأنها شأن باقي مرشحي الحزب الذين انسحبوا بالفعل.