زيارة أردوغان إلى ضريح الإمام الشافعي خلال زيارته لمصر قد تحمل الكثير من الدلالات الدينية والسياسية والتاريخية، إذ كان لافتاً اصطحاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لنظيره التركي وعقيلتيهما لهذا الضريح دون كل آثار القاهرة الإسلامية التاريخية.
وأظهر فيديو نشرته وسائل إعلام مصرية، مساء الأربعاء 14 فبراير/شباط 2024، الرئيس التركي بالطاقية الشبكية البيضاء خلال زيارته، فيما بدت مظاهر سعادته بزيارة المعلم التاريخي خلال زيارته القاهرة للمرة الأولى منذ 12 عاماً، وبعد توتر دام عقداً من الزمن بين البلدين الإسلاميين الكبيرين.
قصة ضريح الإمام الشافعي ذي المكانة الخاصة لدى المصريين
والإمام الشافعي هو الوحيد بين الأئمة الأربعة الذي عاش لفترة بمصر، وتوفي ودفن بها.
وضريح الإمام الشافعي الواقع بحي الخليفة جنوب شرقي العاصمة المصرية، شيده السلطان الكامل الأيوبي فوق قبر الإمام الشافعي، ويعد هذا الضريح المغطى بقبة خشبية مزدوجة، من أعظم مباني العصور الوسطى وأجملها زخرفة، وتم افتتاحه في أبريل/نيسان 2021، بعد إغلاق دام لنحو خمس سنوات، لدواعي الترميم.
ويحظى ضريح الإمام الشافعي بأهمية كبيرة في التدين الشعبي المصري، إذ اعتاد المصريون المجيء إلى الضريح لبث شكواهم، في طقس شعبي متعارف عليه، ويقع ضريح الإمام الشافعي في قلب قرافة الإمام الشافعي، بالقرب من ميدان السيدة عائشة وسط القاهرة، أعلى قبر محمد بن إدريس الشافعي، ثالث أئمة المذاهب السنية الأربعة للفقه الإسلامي السني.
وكشفت الدكتورة مي الأبراشي، المهندسة المعمارية ومنسقة مبادرة "الأثر لنا" المسؤولة عن تنفيذ ترميم ضريح الإمام الشافعي، لموقع "سكاي نيوز عربية" في عام 2021، كواليس العثور على ضريح قديم أثناء أعمال الترميم، قائلة: "اكتشفنا بقايا ضريح أقدم للإمام الشافعي يعود للعصر الفاطمي، إضافة إلى العثور على ألف قطعة من العناصر المزخرفة".
تعرّف على صاحب الضريح الرجل الوسطي بين الإمامين أبو حنيفة ومالك
الإمام الشافعي هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، ومؤلف كتاب "الرسالة" أول كتاب في علم أصول الفقه، وهو العالم الذي مزج في فقهه بين طريقة أهل العراق والحجاز. وهو أيضاً إمام في علم التفسير وعلم الحديث، كما عمل قاضياً وعُرف بالعدل والذكاء.
وُلد الإمام الشافعي في شهر رجب عام 150 هجرية (أغسطس/آب 767 ميلادية)، واتفق مؤرخو الفقهاء على أنه وُلد بمدينة غزة بفلسطين، بينما توفي في مصر في آخر يوم من شهر رجب عام 204 هـ الموافق لـ 20 يناير/كانون الثاني 820 م.
يعود نسب الشافعي إلى أجداد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث قيل عنه إنه "ابن عم النبي"، و"إمام قريش" الذي ذكره النبي بقوله: "عالم قريش يملأ الأرض علماً".
هاجر الشافعي إلى المدينة المنورة طلباً للعلم عند الإمام مالك بن أنس، ثم ارتحل إلى اليمن وعمل فيها، ثم ارتحل إلى بغداد سنة 184 هـ، حيث أخذ يدرس المذهب الحنفي، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز (المذهب المالكي) وفقه العراق (المذهب الحنفي).
ثم عاد الشافعي إلى مكة وأقام فيها تسع سنوات تقريباً، وأخذ يُلقي دروسه في الحرم المكي، ثم سافر إلى بغداد للمرة الثانية، فقدِمها سنة 195 هـ، وقام بتأليف كتاب الرسالة الذي وضع به الأساسَ لعلم أصول الفقه.
بعد تنقله بين العواصم الإسلامية الكبيرة آنذاك، تاقت نفسه للذهاب إلى مصر، فرحل إليها عام (199هـ) واستوطنها ناشراً ومدوّناً فيها مذهبه الجديد في الفقه والأصول.
وبقي في مصر حيث كانت محطته الأخيرة، وكانت وفاته بها، سنة (204هـ) عن أربع وخمسين سنة.
من كتبه المهمة كتاب (الحجة) وهو الكتاب الفقهي الذي دوّنه أولاً في العراق ثم أعاد تأليفه وغيّر مذهبه في بضع عشرة مسألة فقهية فيه عندما سكن القاهرة وسمى الكتاب (الأم)، ويقال أحياناً إنه له مذهبين العراقي ثم المصري وهو الأحدث، بسبب تغير الظروف التي لامسها في مصر.
قواعد المذهب الشافعي الوسيط بين الأحناف والمالكية
قال الإمام الشافعي عن منهجه في الفقه: الأصل قرآن أو سنة، فإن لم يكن، فقياس عليهما، وإذا صح الحديث فهو سنة، والإجماع أكبر من الحديث المنفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل الحديث معاني، فما أشبه ظاهره، وليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب، وكلا رأيته استعمل الحديث المنفرد، استعمل أهل المدينة..
وينظر لفقه الإمام الشافعي على أنه وسط بين فقه الإمامين أبو حنيفة مدرسة أهل الرأي ومالك (مدرسة أهل الحديث)، حيث وضع فقهه قبل انتشار فقه الإمام الرابع أحمد بن حنبل.
الإمام الشافعي الذي شغل الناس بعلمه، نجح في صياغة آرائه الفقهية في ظل مُناخ اتسم بالحوار الخصب بين مختلف التيارات في فترة مهمة في التاريخ الإسلامي، ولذلك تبدو آراؤه قريبة من آراء علماء الكلام لكنها ظلّت آراء فقهية محدثة، يؤكد على أنه لا بد له من استخدام العقل مع النقل عند الحديث عن العقيدة وقد تبلور هذا الاستخدام على نحو لافت في المرحلة الثالثة من حياته التي عاشها في مصر حيث قدم مراجعة للكثير من أفكاره.
وفوق كون الشافعى من أئمة الفقه الأربعة، فقد كان شاعراً قديراً يغلب على شعره الحكمة الإنسانية والنظرة الفلسفية والتأمل ما جعل من شعره ما يشبه الأمثال السائرة أو الحكم التي يتداولها الناس مثل قوله: "ما حك جلدك مثل ظفرك.. فتول أنت جميع أمرك"، ومثل: "ما طار طير وارتفع.. إلا كما طار وقع"، ومثل "نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا".
لم يسلم الإمام الشافعي من ظلم الحكام والتعرّض للمحن، لأنه كعالم راح ينقد والي نجران في جنوب الجزيرة العربية، لذا راح الوالي يكيد له بالدسّ والوشاية عند الخليفة العباسي، وقد نجح في ذلك وكاد أن يقتله الخليفة هارون الرشيد، لولا حجته وشهادة القاضي بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة الذي أخذ الشافعي عنه العلم بالعراق.
مصر بين مذهبي الإمامين الشافعي وأبو حنيفة
يتركز الفقه الشافعي اليوم في مصر (خاصة الدلتا) وجنوب الشام، واليمن، وشرق أفريقيا، وكردستان، وفي جنوب شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا)، حيث جاء عبر تجار اليمن.
انتشر المذهب الشافعي في مصر على مرحلتين الأولى عقب استقرار الإمام نفسه في مصر، فعلى خلاف المذهبين الحنفي والمالكي يرجع الفضل في نشر المذهب الشافعي في مصر إلى مؤسسه بعد قدومه إليها في أول خلافة المأمون، واستوطنها حتى مات بها، وكثر أصحابه بمصر.
ثم ضعف المذهب الشافعي وسائر المذاهب السنية، بعد سيطرة الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية العبيدية على مصر.
ولكن بعد سقوط الدولة الفاطمية أخذت الدولة الأيوبية في إنعاش مذاهب أهل السنة بمصر، ببناء المدارس لفقهائها، وغير ذلك من الوسائل جعلت للشافعي الحظ الأكبر من عنايتها فخصت به القضاء لكونه مذهب الدولة (صلاح الدين كردي والأكراد أغلبهم شافعية).
أما المذهب الحنفي فقد ترسّخ في مصر بالقضاء تحديداً بعد ضم الدولة العثمانية لمصر عام 1517م، حيث كان مذهبها الرسمي وكان القضاة يعينون من قبل قاضي القضاة في إسطنبول.
ولذا حالياً، فإن المذهب الفقهي، المتبع في مصر رسمياً في القضاء هو مذهب الإمام أبي حنيفة، كما يؤخذ بالراجح من أقول المذاهب الأربعة: (الأحناف، المالكية، والشافعية، الحنابلة) في بعض القضايا.
ولكن ينظر للمذهب الشافعي تاريخاً على أنه المذهب الأكثر انتشاراً في غير أمور القضاء والأحوال الشخصية، في الدلتا، بينما المذهب المالكي منتشر في هذه الحقول في الصعيد.
وبصفة عامة مصر من أقل الدول الإسلامية تعصّباً لمذهب معين، وبعض المحققين من العلماء المصريين لا يلتزم مذهباً في فتياهم، وإنما يدورون مع الراجح من أقوال أهل العلم أينما وجدوه، كما تأثر الفقه بمصر في السنوات الأخيرة بالمذهب السلفي.
ولكن مما يؤكد على غلبة المذهب الشافعي تاريخياً في مصر أنه من بين 44 إماماً تقلدوا منصب شيخ الجامع الأزهر، منذ إنشائه في آخر القرن الـ 11 الهجري، هناك 20 شافعيون، 11 أحناف، و10 مالكيون منهم الإمام الحالي الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف الحالي، والباقي لا ينتمون لمذهب بعينه، بينما لم يوجد بينهم شيخ واحد يتبع المذهب الحنبلي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشروق المصرية.
دلالات زيارة أردوغان إلى ضريح الإمام الشافعي
الخلفية الإسلامية للرئيس التركي تجعل زيارة المساجد لها دلالات سياسية وتاريخية ودينية كبيرة، وهو الرجل الذي تحدى الغرب وأعاد إقامة الصلاة في مسجد أيا صوفيا.
ورجح موقع القاهرة 24 أن زيارة أردوغان إلى ضريح الإمام الشافعي برفقة الرئيس السيسي، دون بقية مساجد القاهرة التاريخية إلى الدور الذي لعبته أنقرة في ترميم مسجد الإمام الشافعي في مشروع ضخم عام 2012، فحينها قرر الأزهر الشريف وتركيا إنشاء مركز فكري للاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي لمواجهة التشدد والإسلاموفوبيا.
كما لفت كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي إلى دلالة أخرى محتملة وهي إظهار التضامن مع غزة التي وُلد بها الإمام الشافعي.
بينما قال الصحفي سمير العركي الذي يعمل في هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية TRT في محاولته لتفسير زيارة أردوغان إلى ضريح الإمام الشافعي، إن أردوغان حنفي المذهب مثل معظم الشعب التركي لكن الشوافع في تركيا هم الأكراد بصفة خاصة وتأكيداً فإن هذه الزيارة ستلقى قبولاً واسعاً لديهم.
وأشار إلى أن المصريين ينقسمون إلى مالكية خاصة في صعيد مصر وشوافع في القاهرة وباقي الأنحاء وعلى مسافة من المذهبين يأتي المذهب الحنفي.
قد تكون كل هذه الدوافع صحيحة وراء زيارة أردوغان، ولكنه قد يضاف إليها أن الزيارة بمثابة إشارة احترام من تركيا أكبر دولة تعتنق المذهب الحنفي في المنطقة إلى مصر معقل المذهب الشافعي في المنطقة، وخاصة أن هناك علاقة خاصة تربط تركيا ومؤسس مذهبها أبو حنيفة النعمان بالإمام الشافعي، فالمذهب الشافعي هو أقرب المذاهب الأربعة للمذهب الحنفي، وينتشر في مناطق مهمة تاريخياً لتركيا مثل مناطق الأكراد وبلاد الشام ومصر واليمن.