أطلق الإعلان عن زيادة المرتبات في مصر بشكل كبير تكهنات قوية بأن تعويم الجنيه بات قريباً في ظل تدهور سعره بالسوق السوداء، وسط تساؤلات: هل يكون التعويم نهاية لأزمة العملة المصرية، أم بداية لموجة جديدة من التدهور؟.
وسجل الجنيه المصري تراجعاً تاريخياً في السوق الموازية (السوق السوداء) الأسبوع الماضي؛ حيث وصل إلى نحو 74 جنيهاً للدولار (مقابل نحو 30.9 سعراً رسمياً)، قبل أن تسترد العملة المصرية جزءاً من خسائرها أمام الدولار في السوق الموازية، بعد تقارير إعلامية حكومية عن نية الدولة بيع منطقة رأس الحكمة بالساحل الشمالي للإمارات ومستثمرين آخرين بمبلغ 22 مليار دولار، الأمر الذي سيعني، وفقاً لهذه التقارير، توافر الدولار وتراجعه في السوق السوداء.
أدى ذلك لتراجع الدولار إلى 51 جنيهاً في بداية الأسبوع، قبل أن يرتفع مجدداً في نهاية الأسبوع إلى 61 جنيهاً، وسط تعاملات ضعيفة للغاية؛ حيث يترقب الجميع احتمالات ضبابية ومتباينة تتراوح بين حدوث تعويم جديد أو نزول الدولار بالسوق السوداء بشكل كبير، كما تتوقع وسائل الإعلام الحكومية أو ارتفاعه مجدداً لعتبة فوق السبعين دولاراً التاريخية، التي يراهن عليها حائزو الدولار.
زيادة المرتبات ترفع التكهنات بقرب حدوث تعويم في مصر
أدى قرار زيادة المرتبات بشكل كبير، بما في ذلك رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50%، إلى زيادة التوقعات بحدوث تعويم جديد في مصر، وهو ما نفته مصادر حكومية عبر عدد من المنافذ الإعلامية.
ويمثل تعويم الجنيه مطلباً أساسياً لكثير من رجال الأعمال والتجار، وصندوق النقد الدولي والداعمين الخليجيين، وكثير من خبراء الاقتصاد، بينما كلمة تعويم الجنيه لها وقع سيئ على المصريين حيث ينظرون إليه باعتباره سبب كل الشرور وأنه وراء تدهور الجنيه المصري.
ما المقصود بمصطلح تعويم الجنيه؟
في هذا التقرير نرصد مفهوم التعويم، وهل هو سبب تدهور الجنيه المصري، وما العلاقة مع زيادة المرتبات.
يقصد بكلمة تعويم الجنيه أو أي عملة أن البنك المركزي لن يقوم بتحديد سعر العملة الأمريكية مقابل العملة المحلية (الجنيه)، بل يترك العرض والطلب على الدولار بسوق العملات الأجنبية، فهو من يحدد سعر العملة من تلقاء نفسه، لا أن يكون ذلك بقرار إداري، ويعني ذلك أن من حق المواطنين الحصول على الدولار بهذا السعر من مصادره الرسمية، وفقاً لضوابط معقولة وألا يتدخل البنك المركزي في تحديد سعر الصرف إلا للضرورات وعادة عبر آليات السياسة النقدية المعروفة؛ مثل تغيير أسعار الفائدة، وكذلك تغيير نسب الاحتياط في المصارف، بهدف التحكم بالسيولة في الأسواق.
ويفترض هذا المفهوم أن التعويم الحقيقي يعني أنه لن تصبح هناك سوق سوداء أو تكون موجودة بشكل محدود للغاية.
إليك الحالة التي اقتربت فيها مصر من تنفيذ تعويم حقيقي
وقد تكررت كلمة تعويم الجنيه، أو تحرير سعر الصرف، خلال السنوات الماضية مراراً، ولكن لم يحدث على أرض الواقع تعويم حقيقي في أغلب الأحيان إلا مرة واحدة.
فأقرب حالة حدث فيها تعويم حقيقي في مصر، كانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
في ذلك الوقت، كانت هناك أزمة مماثلة في النقد الأجنبي، ولكن أقل حدة؛ إذ كان السعر الرسمي للدولار أقل من تسعة جنيهات، بينما كان يدور في السوق السوداء حول 15 أو أعلى قليلاً.
لكن في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أعلن البنك المركزي المصري تحرير سوق الصرف وتعويم الجنيه المصري مقابل الدولار ووضع سعر استرشادي عند 13 جنيهاً للدولار، في زيادة تقدر بأكثر من 46% مرة واحدة من سعره الرسمي، وبدأت البنوك العاملة في مصر بعد ذلك في تحديد سعر الدولار بشكل حر إلى أن قفز سعر صرف الدولار في نهاية العام إلى ما يقرب من 20 جنيهاً، مسجلاً زيادة نسبتها 53% منذ إطلاق السعر الاسترشادي في أول يوم من عملية تعويم الجنيه.
وصاحب القرار رفع لأسعار الفائدة، وإطلاق البنك الأهلي وبنك مصر الحكوميين (أكبر مصرفين في البلاد)، وديعة بفائدة تصل إلى 20%.
أدى ذلك إلى أن سعر الدولار في البنوك بات أعلى من السوق الموازية، وبدأ حائزو الدولار يبيعون الدولارات مقابل الجنيه المصري في البنوك دون أي قيود، وأدى ذلك إلى خنق السوق السوداء، واستقر الدولار لفترة عند نحو 18 جنيهاً، ثم انخفض لـ17 جنيهاً في نهاية 2017، وخلال تلك الفترة أصبحت الحكومة توفر الدولار للمستوردين. في المقابل، بات المغتربون والمصدّرون يقومون بتبديل العملات الأجنبية التي بحوزتهم عبر القنوات الرسمية، ثم واصل الجنيه صعوده أمام الدولار ليصل ثمن العملة الأمريكية إلى 15.5 جنيه.
نتائج تعويم 2016 قاسية على المواطنين ولكنها خلقت استقراراً لعدة سنوات
كان تعويم 2016، قاسياً، وأدى لارتفاع كبير للتضخم، ولكنه نجح في القضاء على السوق السوداء عبر استباقها أي عرض للمصارف لأسعار الدولار أعلى مما يطرحه المتعاملون في السوق الموازية، ومع الانخفاض التدريجي للدولار بدأ المكتنزون يتخلون عن الدولار؛ مما أدى إلى تراجعه، وهو ما شكل نجاحاً لهذا التعويم حتى لو بثمن باهظ ولكن مؤقت.
ولكن يعتقد أن هبوط سعر الدولار بشكل كبير بعد ذلك إلى 15.5 لم يكن فقط مرتبطاً بحركة السوق، بل مدفوعاً بشكل بكير بسياسات الحكومة المصرية والبنك المركزي، الرامية لتحقيق مكسب معنوي برفع الجنيه (وبهدف تقليل التضخم)، ولكن أدى ذلك لتقليل تنافسية السلع والصادرات المصرية مقابل تحسن تنافسية الواردات الأجنبية، جراء رفع سعر الجنيه بنسبة تقدر بحوالي 16% (من 18.5 إلى 15.5)، وساعد على ذلك ارتفاع أسعار الفائدة الذي شجع مستثمري الأموال الساخنة على الاستثمار في الأوراق المصرية التي كانت تقدم ربحية عالية خاصة في ظل صعود الجنيه.
ولذا يمكن القول إنه خلال الفترة من 2017 إلى 2022، تخلّت مصر تدريجياً عن التعويم الحقيقي، وعادت لشكل من أشكال التعويم المدار، الذي تحول لسعر صرف ثابت حتى لو لم يتم الإعلان عن ذلك رسمياً.
ولكن أدى تراكم الديون الساخنة مع اندلاع أزمة أوكرانيا إلى تداعي هذا النموذج في فبراير/شباط 2022، حيث تعرض الجنيه لضغوط، وبدأت السوق السوداء تظهر مجدداً.
مصر تنفذ تعويماً ثانياً في مارس/آذار 2022، ولكن تبين أنه شكلي
في ظل هذه الأوضاع، في 21 مارس/آذار 2022، نفذت مصر ما كان يوصف بالتعويم الثاني، الذي كان جزئياً؛ حيث خفضت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بنحو 15% ليصل الدولار إلى 18.15 و18.29، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بدلاً من 15.74 جنيه. وتزامن ذلك مع رفع سعر الفائدة بنسبة 1%.
ولكن هذا التعويم كان شكلياً، لأن السوق السوداء ظلت موجودة؛ ما جعل تدفق الدولار للبلاد -خاصة من المصدرين والمغتربين- يتم عن طريقها، وفي الوقت ذاته، لم تعد البنوك توفر الدولار للمستوردين والمسافرين بشكل كامل، بل فرضت قيوداً على التصدير عبر وقف الاعتمادات المستندية اللازمة لتمويل الواردات، وهو ما قلل من تدهور الجنيه، ولكن خلق أزمة في السلع بسبب تقييد استيراد مدخلات الإنتاج والعديد من السلع الغذائية (أدى ذلك لارتفاع أسعار السلع أكثر من الدولار).
وبدأت تعود السوق السوداء أو السوق الموازية فيما كان سعر الدولار مقابل الجنيه يدور حول 19.7، فإنه كان يدور حول 22 جنيهاً في السوق الموازية، ووصل إلى 23 جنيهاً.
ومرة ثانية خفضت مصر قيمة الجنيه، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، إلى 22.25 جنيه مقابل الدولار، فيما وُصف أيضاً بالتعويم، رغم أنه لم يكن كذلك، فلقد استمرت السوق السوداء، وتواصلت القيود على توفير الدولار.
وفي مطلع عام 2023، استجابةً لطلبات الصندوق ورجال الأعمال، خفضت مصر الجنيه مجدداً، إلى نحو 30 للدولار، فيما وصف بأنه تعويم مدار عبر سياسة سعر صرف مرن، بالتزامن مع العودة إلى نظام فتح الاعتمادات المستندية، ما يقلل القيود على الاستيراد، وقوبل القرار بإشادة من قِبَل رجال الأعمال.
السوق السوداء تعود بقوة أكبر
ولكن سرعان ما ثبَّت البنك المركزي الجنيه أمام الدولار عند سعر 30.9، وظلت عملية توفير العملة الأجنبية بشكل رسمي أمراً صعباً؛ ما أدى إلى لجوء المستوردين للسوق السوداء وبالتالي ارتفع الدولار تدريجياً بها، فأصبح المغتربون يحولون أموالهم عبر القنوات غير الرسمية، وخلق ذلك حالة قلق أدت إلى تزايد اكتناز الدولار، ليتم تداول الدولار بأكثر من 40 جنيهاً في الثلث الأخير من العام الماضي، وليختتم العام بسعر إلى 50 جنيهاً ثم سجل تدهوراً غير مسبوق في بداية العام؛ حيث أصبح يتداول الدولار في السوق الموازية في مدار يدور حول الـ60 جنيهاً قبل أن يخترق حاجز الـ70 الأسبوع الماضي ويسجل في بعض التعاملات قيمة الـ74.
تجدر الإشارة إلى أنه في يونيو/حزيران 2023، قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا إن إصرار مصر على دعم الجنيه وعدم تحرير سعره والدفاع عن سعر غير واقعي، يؤدي لاستنزاف احتياطيات مصر من العملات الأجنبية، وهو أشبه بسكب الماء في وعاء مثقوب. فيما حذر خبراء غربيون في ذلك الوقت من "أن مزيداً من التأخير في مراجعات اتفاق صندوق النقد الدولي مع مصر، يؤدي إلى زيادة الضغط الهبوطي على الجنيه".
مصر لم تشهد تعويماً حقيقياً خلال العامين الماضيين
يمكن ملاحظة أنه خلال العامين الماضيين لم يحدث تعويم حقيقي، (وفقاً للمفهوم العلمي للتعويم) عكس ما حدث في 2016، بل ما جرى منذ أزمة أوكرانيا، هو خفض قيمة الجنيه المصري، لسعر قريب من السوق السوداء، ولكن دون تنفيذ حزمة إصلاحات واسعة التي طلبها صندوق النقد الدولي ويؤيدها كثير من الاقتصاديين ومنها تخفيف البصمة العسكرية للجيش ورفع مؤثر لسعر الفائدة وترك سعر العملة للعرض والطلب.
وبالتالي عقب كل خفض، فإنه لم يحدث توفير للدولار، ولذا سرعان ما يعيد ذلك الزخم للسوق السوداء التي يؤدي السعر الجديد فيها لرفع القاع الخاص بها، ويجعل هذا التخفيض السوق السوداء أكثر جرأة في رفع أسعارها لأسقف جديدة، فتحديد سعر مرتفع جديد للدولار مع عدم توفيره يخلق نقاط مقاومة جديدة في السوق السوداء.
فبغياب تعويم حقيقي، يؤدي لتفاقم الأزمة خاصة في ظل تأخير حزمة القرارات المالية والاقتصادية القاسية اللازمة للحصول على تمويل خارجي، وتوفير بيئة استثمارية ملائمة لرجال الأعمال الوطنيين والأجانب.
ويتحفظ الرأي العام المصري على فكرة التعويم الحقيقي، ويبدو أن صناع القرار أيضاً يخشون تبعاته الاجتماعية، خاصة أنه قد يتبعه قرار بتخفيض دعم الوقود بنسبة كبيرة، ولكن استمرار الوضع الحالي يعني تواصل حالة الهلع حول الدولار التي تعزز السوق السوداء، وهذه السوق تمنع تدفق الاستثمارات الأجنبية وأموال العاملين، وفي نفس الوقت، فإن معظم السلع باتت مقومة بسعر الدولار في السوق الموازية، أي ارتفعت أسعارها بالفعل، باستثناء القمح والدواء تقريباً.
كما أن الاختلاف الكبير بين السعرين الرسمي والواقعي يتيح فرصة للتلاعب لكل من يستطيع الوصول للدولار بسعر رسمي، حيث يمكنه بيعه في السوق الموازية.
توقعات بأن تكون زيادة المرتبات تمهيداً للتعويم، وآخرون يتوقعون خفضاً قوياً للجنيه بالسوق الموازية
يتوقع كثيرون أن تكون زيادة المرتبات الكبيرة التي أقرها الرئيس المصري تمهيداً لتعويم حقيقي هذه المرة، بينما يتوقع آخرون أن الحكومة سوف تكون قادرة على تخفيض سعر الدولار في السوق السوداء، خاصة بعد تسرب التقارير عن صفقة بيع ساحل رأس الحكمة بشمال غرب مصر للإمارات (رغم أنه لا يبدو أن هناك تأكيداً إماراتياً لهذه الصفقة)، كما يراهن كثيرون على زيادة قرض صندوق النقد الدولي (هناك تقارير عن رفعه من 3.5 مليار دولار إلى 7 أو 8 مليارات) إضافة لحزمة المساعدات لمصر التي تحدث عنها الاتحاد الأوروبي.
ولكن التكهنات بشأن السعر الذي يتم التعويم عليه، تتحدث عن خفض الجنيه لمنتصف الأربعينات مقابل الدولار استناداً لقدرة الحكومة على توفير الحكومة للدولار من عدة مصادر، من بينها صفقة رأس الحكمة المرتقبة، حسبما قال مصدر مصري مطلع على الموقف الحكومي لـ"عربي بوست".
ولكن حتى لو تمكنت مصر من الحصول على تمويلات خارجية لتلبية الطلب على الدولار، فلا مناص من تعويم حقيقي بسعر واقعي يراعي السوق الموازية والتغييرات التي حدثت في الأسعار، فتخفيض الدولار، بعيداً عن السعر الواقعي المستقر لن يؤدي إلى خفض كبير في التضخم كما يعتقد، فالتضخم لا ينخفض عند تراجع سعر الدولار بنفس معدلات صعوده بارتفاع العملة الأمريكية.
وسبق أن قال هشام عز العرب، مستشار محافظ البنك المركزي (وأحد أبرز المصرفيين المصريين)، أن تثبيت سعر الجنيه المصري ليس هدفاً في حد ذاته، وأن كل زيادة 10% في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه تترجم إلى ارتفاع التضخم في مصر 4%، أما تراجع الدولار 10% مقابل الجنيه يخفض التضخم 0.5%.
كما أن خفضاً كبيراً لقيمة الجنيه سيؤدي مجدداً لتعزيز الواردات الأجنبية وتقليل الصادرات.
إذ يجب أن يكون التحرير حقيقياً وبسعر مناسب لسحب الدولار من السوق السوداء على أنه يصاحبه حزمة السياسات المقترحة بما في ذلك ترشيد للمشروعات القومية والدعم مع إطلاق برنامج دعم اجتماعي واسع يتضمن مساعدات نقدية للمواطنين للتعامل مع التضخم المتوقع، (وهو أعلن عنه جزئياً في حزمة زيادة المرتبات)، خاصة أن أي تعويم قد يعقبه رفع لأسعار الطاقة، وفقاً لشروط صندوق النقد الدولي.