بعد شهر من تقديم جنوب أفريقيا عريضة دعوى تاريخية ضد إسرائيل، متهمة إياها بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، أصدرت محكمة العدل الدولية، تحت تدقيق عالمي مكثف، حكماً دامغاً، كما يقول موقع Middle East Eye البريطاني.
بأغلبية ساحقة، حكمت محكمة العدل الدولية بأنَّ هناك أسباباً "معقولة" تثبت أنَّ التدابير المؤقتة التي حكمت بها -والتي تعادل إصدار أمر قضائي مؤقت- ضرورية لتجنب "التحيز الذي لا يمكن إصلاحه" ضد حقوق الفلسطينيين في غزة، الناشئ عن مذابح إسرائيل، وذلك بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
ورفضت محكمة العدل الدولية التماس إسرائيل برفض القضية، وأمرت إسرائيل بالتوقف عن أية أعمال إبادة جماعية محتملة والحفاظ على الأدلة على مثل هذه الأعمال. ومنع الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين ومعاقبة التحريض عليها، والسماح فوراً بتقديم المساعدات الإنسانية إلى السكان الذين يعانون من المجاعة في غزة، وتقديم تقرير إلى المحكمة خلال شهر عن الخطوات التي اتخذتها.
هل يمكن أن يمثل حكم محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة نقطة تحول؟
انطلاقاً من المصلحة العامة الدولية لدعم أحد ركائز النظام الدولي القائم على قواعد ما بعد الحرب العالمية الثانية، اتخذت جنوب أفريقيا هذه الخطوة الجريئة بعد عقود من الحملة الإسرائيلية من القمع المؤسسي والهيمنة المنهجية والقهر والحرمان من حقوق الإنسان الأساسية، والفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني، كما يقول الموقع البريطاني.
وبذريعة "التصرف دفاعاً عن النفس"، اختارت إسرائيل طريقاً ينحرف عن القانون الدولي. فقد أطلقت العنان لقوة تصل إلى مستوى الإبادة ضد غزة: حملة إبادة جماعية من الموت والدمار بالجملة، والتهجير القسري والنقل الجماعي للسكان، والمجاعة، والجفاف، والأمراض المعدية، وهي أعمال عدوانية صارخة ضحاياها مدنيون أبرياء يحتاجون إلى الحماية.
وفي غضون ما يقرب من 4 أشهر، تسببت الحرب في مقتل أكثر من 27 ألف شخص، بما في ذلك ما لا يقل عن 10 آلاف طفل، أي ما يعادل أكثر من 1% من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة. وفُقِد آلاف آخرون تحت الأنقاض، في حين أُصيِب أو شُوِّه حوالي 66 ألف شخص. وأدت الحرب أيضاً إلى نزوح نحو 1.9 مليون فلسطيني، وتدمير جزء كبير من القطاع؛ ما جعله غير صالح للسكن.
وقد أثار الهجوم الإسرائيلي غضباً عالمياً. وفي عالم منقسم بشدة حول منطقة الصراع، فإنَّ صدور حكم قضائي قائم على التدقيق بحسن نية في الحقائق، وبدعم أخلاقي من أعلى محكمة في العالم، سيمثل نجاحاً كبيراً.
وقد ذكّر حكم المحكمة العالم بأنَّ استحضار إسرائيل المتكرر لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول ليست له أية صلة، من الناحية القانونية، بسبب المبدأ المُلزِم المتمثل في أنَّ الفظائع التي يرتكبها طرف في صراع لا تبرر الفظائع التي يرتكبها الجانب الآخر. والحقيقة أنَّ ادعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس لا لزوم له؛ لأنَّ الدفاع المشروع لا يسمح بالإبادة الجماعية، المعروفة باسم "أم الجرائم" في القانون الدولي، كما يقول موقع MEE.
والأهم من ذلك، أنَّ وضع إسرائيل، باعتبارها قوة احتلال، يستلزم تطبيق اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي تفرض التزامات واجبة الإنفاذ ومُلزِمة قانوناً على قوة الاحتلال فيما يتعلق بسكان الأراضي المحتلة، وفي هذه الحالة فلسطينيو غزة؛ فالسكان الأسرى يحق لهم الحصول على حماية خاصة ومعاملة إنسانية.
ونظراً للوحشية غير العادية والمخاطر المستمرة المتمثلة في حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه لحقوق الفلسطينيين في غزة، طلبت جنوب أفريقيا عدداً من التدابير المؤقتة من محكمة العدل الدولية.
حكم العدل الدولية يخلق التزامات قانونية على إسرائيل واجبة التنفيذ
وسارعت المحكمة، المعروفة على نطاق واسع بالعمل بوتيرة هادئة، إلى إصدار أوامر قضائية فورية تتماشى إلى حد كبير مع طلبات جنوب أفريقيا. وعلى الرغم من أنها لم تصل إلى حد الأمر صراحةً بوقف إطلاق النار المطلوب، ومنحت إسرائيل شهراً لتقديم تقريرها بدلاً من أسبوع، إلا أنَّ حكم المحكمة الذي صدر بالإجماع تقريباً يخلق التزامات قانونية على إسرائيل واجبة التنفيذ.
وشددت المحكمة على أنَّ جميع أطراف النزاع في غزة مُلزَمة بالقانون الإنساني الدولي. وفي خطوة استثنائية، خاطبت المحكمة حماس شبه صراحةً، ودعتها إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين على الفور. وأكدت أيضاً أنَّ أوامرها لإسرائيل "لها أثر مُلزِم، ومن ثم تنشئ التزامات قانونية دولية".
وفي حين قالت جنوب أفريقيا إنَّ تعليمات المحكمة تُترجَم ضمنياً على أنها دعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، أشارت إسرائيل إلى غياب تلك الصياغة المحددة، وأكدت أنها ستواصل هجومها على غزة. وحتى لو تجاهل قادة إسرائيل قرار المحكمة، فقد أُخطِر داعموها الدوليون رسمياً بأنهم قد يواجهون احتمال التورط في المساعدة والتحريض على الإبادة الجماعية.
ما الخطوة التالية؟
قد يستغرق صدور حكم نهائي بشأن دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل عدة سنوات، لكن قرار المحكمة بشأن التدابير المؤقتة مُلزِم على الفور ونهائي وغير قابل للاستئناف.
ومع ذلك، فإنَّ مدى إنفاذ التدابير أقل قابلية للتحديد. ولا تملك المحكمة وسيلة مباشرة لتنفيذ حكمها. وتنتقل أوامرها تلقائياً إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لأغراض الإشراف على الامتثال، وتلتزم جميع الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية، وعددها 153 دولة، بمنح الحكم أثراً فورياً للمساهمة في منع الإبادة الجماعية.
وبناءً على طلب الجزائر، العضو غير الدائم المُنتخَب حديثاً في مجلس الأمن وممثلها العربي، عُقِدَت جلسة للمجلس لمناقشة القوة المُلزِمة لحكم محكمة العدل الدولية. وإذا مُنِع تدخل مجلس الأمن باستخدام الفيتو الأمريكي، تماشياً مع دعمها الثابت غير المتزعزع لإسرائيل، فقد تلجأ جنوب إفريقيا إلى رفع الأمر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي صوتت في السابق لصالح وقف إطلاق النار في غزة.
خطوة جريئة قد ترفع الحصانة عن إسرائيل
وبغض النظر عن التحديات التي تواجه تنفيذ أوامر محكمة العدل الدولية، فإنَّ الإجراء الجريء الذي اتخذته دولة جنوب أفريقيا في زمن ما بعد الفصل العنصري لمواجهة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي أمام المحكمة العليا في العالم قد كشف صراحةً عن الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل منذ فترة طويلة، ومراوغاتها وإنكارها المتعب للحقائق المؤلمة، أمام عملية علنية من الطعن القانوني والتدقيق القضائي والبت القانوني في نهاية المطاف.
والحقيقة أنَّ إجراءات محكمة العدل الدولية تقدم نوعاً من ممارسة تحديد الحقيقة، وهو ما يشكل في حد ذاته قيمة كبيرة فيما يتصل باحتمالات نجاح القضية استناداً إلى أسسها الموضوعية. إنَّ الحكم النهائي ضد إسرائيل يمكن أن يمنع الإبادة الجماعية في المستقبل، ويقدم تعويضات يمكن أن تشمل تعويضات مالية للضحايا؛ وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي واضطهاد الفلسطينيين؛ ومنح الفلسطينيين حقوقهم الكاملة، بما في ذلك إقامة دولتهم وممارسة حق تقرير المصير.
ومن المهم أيضاً أن يحمل هذا الأمر آثاراً بعيدة المدى على جميع الدول الأخرى فيما يتعلق بواجب منع الإبادة الجماعية وعدم التواطؤ فيها، أو السلبية في مواجهة مخاطرها الجسيمة.
وتميل محكمة العدل الدولية، باعتبارها محكمة تتمحور حول الدول، إلى تهميش الضحايا، لكن مع إعادة توجيه نفسها للتعامل مع المزيد من القضايا المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، توفر المحكمة مكاناً مناسباً يسهل الوصول إليه لتحقيق العدالة وضمان نجاة الشعوب من الهجمات الوحشية. والتهديدات المستمرة بالقتل والدمار وحتى المحو الجماعي، سواء كلياً أو جزئياً.
وبأخذ زمام المبادرة في هذه القضية التاريخية، تكون جنوب أفريقيا قد أسست لقدوة حسنة. وفي ضوء شجاعتها السياسية الملحوظة، يجب على جميع الدول الأطراف الأخرى في اتفاقية الإبادة الجماعية أن تقرر الآن أين ستصطف، وما إذا كانت تريد أن تكون على الجانب الصحيح من التاريخ من خلال دعم مساعيها لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني الذي طالت معاناته.