بالنسبة لمن يمتلكون ذاكرةً طويلة، يُمكن تتبع جذور قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل -واتهامها بارتكاب أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة- إلى قبل نحو 50 عاماً. ففي التاسع من أبريل/نيسان عام 1976، حظي رئيس وزراء جنوب أفريقيا العنصري الأبيض بالتازار يوهانس فورستر باستقبال السجادة الحمراء الكامل داخل نصب "ياد فاشيم" لذكرى ما يُعرف بـ"الهولوكوست" في القدس المحتلة.
وفي الأيام الأخيرة للفصل العنصري أواخر الثمانينيات، كانت إسرائيل بمثابة شريان حياة لبريتوريا، العاصمة السياسية والإدارية لجنوب أفريقيا٬ كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية٬ التي بدأت تضربها العقوبات الأمريكية والانتفاضة الداخلية واسعة النطاق. وتمثَّل شريان الحياة في زيارة الجنرالات والمستشارين العسكريين الإسرائيليين البارزين للصفوف الأمامية، وكذلك الدعم الخطابي لبعض قادة بريتوريا.
وقد حثّ أرئيل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، الغرب على بيع الأسلحة لجنوب أفريقيا. بينما قال رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق رافائيل إيتان أمام جمهور جامعي في تل أبيب إن "السود يريدون السيطرة على الأقلية البيضاء كما يريد العرب السيطرة علينا هنا. ويجب أن نتحرك نحن أيضاً لمنعهم من السيطرة علينا، كما هو حال الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا".
إسرائيل أطالت في عمر نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا
بينما أصبحت العلاقات بين إسرائيل وجنوب أفريقيا سيئة اليوم. ولا خلاف هنا على تأثير الاستياء التاريخي من إسرائيل في صفوف حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي يحكم جنوب أفريقيا، وذلك بسبب دور إسرائيل في إطالة أمد حكم الأقلية البيضاء ودعم الحكومة التي كان المؤتمر الوطني يحارب للإطاحة بها. كما أن حركة مناهضة الفصل العنصري ومختلف حركات التحرر في جنوب أفريقيا لها تاريخ طويل من دعم القضية الفلسطينية أيضاً٬ كما تقول مجلة فورين بوليسي.
وعندما كانت إسرائيل تدعم العنصريين البيض مضطهدي السود في جنوب أفريقيا، كان المؤتمر الوطني الأفريقي يحظى بدعم منظمة التحرير الفلسطينية. ولا عجب في أن نيلسون مانديلا التقى بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بعد أسبوعين فقط من الإفراج عن الأول عام 1990، وأعلن حينها "أن هناك العديد من أوجه التشابه بين نضالنا وبين نضال منظمة التحرير الفلسطينية. فكلانا يعيش تحت شكلٍ فريد من أشكال الاستعمار في جنوب أفريقيا وكذلك في فلسطين المحتلة". وفي الخطابات التالية، صرّح مانديلا بأن "حريتنا ستظل منقوصةً في غياب حرية الفلسطينيين".
الدبلوماسية الأخلاقية لجنوب أفريقيا تستعيد بريقها
لكن السبب الآخر لرفع جنوب أفريقيا قضيتها أمام محكمة العدل الدولية هو إعادة إبراز صورتها العالمية باعتبارها من القوى الكبرى الأخلاقية، وهي السمعة التي اكتسبتها إبان أيام ما بعد الفصل العنصري في التسعينيات٬ بحسب فورين بوليسي.
وفي ما استعادت بريتوريا صورتها البطولية من جديد بفضل التجرؤ على تناول قضية عالمية شائكة يُحظر نقاشها داخل واشنطن فعلياً، لكنها تثير المشاعر القوية داخل العالم الإسلامي وخارجه؛ حيث أعدَّت القضية وناقشتها أمام أعلى محكمة في العالم، وتحدّت إسرائيل -وداعميها غير المشروطين في واشنطن بالتبعية- وأجبرتها على الدفاع عن نفسها. ولا نتحدث هنا عن دفاع أمام محكمة الشبكات الاجتماعية أو على صفحات الرأي، بل ضمن إطار القانون الدولي وداخل مكانٍ يتمتع برمزية وثقل كبيرين.
وحتى لو لم تحكم المحكمة بتورط إسرائيل في أي سلوك إبادة جماعية، فقد تم الاحتفاء بحكمها المؤقت على أنه انتصار غير مسبوق. لكن النتيجة لم تكن مهمةً فعلياً من بعض الزوايا٬ كما تقول "فورين بوليسي"٬ حيث إن الضربة الكبرى لجنوب أفريقيا تمثّلت في فكرة رفع القضية نفسها.
إذ ظلت جنوب أفريقيا تتمتع بحُسن نوايا العالم لسنواتٍ طويلة بعد تحولها إلى الديمقراطية، وصار يُنظر إليها باعتبارها نموذجاً للمصالحة السلمية وانتصار الخير على الشر. وافترض العديد من المراقبين أن الدولة التي برزت سليمةً معافاة من وسط الانقسام والقسوة دون سفك للدماء، أو تطهير عرقي، أو تقسيم سيكون لديها درس يمكن أن تعلمه للعالم.
وجرى الاحتفاء بلجنة الحقيقة والمصالحة على اعتبارها مثالاً تحتذي به المجتمعات الأخرى التي خرجت من جراح الحرب. وقدّمت بريتوريا نفسها -أو أصبحت تُقدَّم- كصانعة السلام.
لكن البوصلة الأخلاقية الجنوب أفريقية بدأت تتداعى على صعيد السياسة الخارجية. إذ لم تقل حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي الكثير وراء الأبواب المغلقة أو داخل المنتديات الدولية، وذلك عندما أغرق حليفها السابق روبرت موغابي دولة زيمبابوي المجاورة في الأزمة.
وفي مواجهة قمع النظام السوري الوحشي للمتظاهرين عام 2011 وما أعقبه من انفجار للحرب الأهلية، امتنعت جنوب أفريقيا عن المشاركة في تصويت رئيسي لمجلس الأمن. وعندما أصدرت محكمة العدل الدولية مذكرة اعتقال للزعيم السوداني السابق عمر البشير عام 2015، رفضت جنوب أفريقيا توقيفه في المطار بعد وصوله لأراضيها٬ بحسب فورين بوليسي.
وأعلنت محكمة العدل الدولية بعد عامين أن "جنوب أفريقيا انتهكت التزاماتها القانونية الدولية والمحلية عندما فشلت في القبض على البشير… ويتعين على جنوب أفريقيا الآن أن ترمي بثقلها وراء العدالة الدولية التي تواجه تحديات عالمية متزايدة".
ويمكن القول إن بريتوريا حصلت على فرصة لذلك حين رفعت أوكرانيا قضيتها ضد روسيا بعد يومين من غزو موسكو في فبراير/شباط عام 2022، وتدخلت أكثر من 30 دولةً لدعم القضية.
لكن أول تصريح رسمي من رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا نصّ على شكر "فخامة الرئيس فلاديمير بوتين" لتلقيه مكالمته الهاتفية، مع الإشارة إلى اتباع جنوب أفريقيا لـ"نهجٍ متوازن" يدعو "للوساطة والتفاوض بين الأطراف".
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، استقبلت جنوب أفريقيا وفداً من قادة حماس على أراضيها، وذلك بعد زيارة وزير خارجية جنوب أفريقيا الرسمية لإيران ولقائه بمسؤولي النظام.
وقبل أسبوع واحد من تقديم المحامين لاتهامات الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في لاهاي، استقبل الرئيس رامافوزا مُرتكب الإبادة الجماعية المعروف محمد حمدان دقلو (حميدتي).
لكن في هذا العصر الذي تظهر فيه المعايير المزدوجة للغرب بكل جلاء، بدت غالبية دول العالم سعيدةً بخطوات بريتوريا ضد الاحتلال الإسرائيلي. وربما يرجع السبب إلى أن العديد من الفلسطينيين وأنصارهم شعروا بأن صوتهم مسموع بحق للمرة الأولى منذ 76 عاماً من الاحتلال والاضطهاد٬ وهم يستمعون للمداولات القانونية، التي شهدت مشاركة قاضية أمريكية قرأت قرار المحكمة المؤقت من داخل قصر السلام في لاهاي.
أجندة بايدن الفارغة من حقوق الإنسان
من جهتها٬ تجاهلت الولايات المتحدة قضية جنوب أفريقيا كما كان متوقعاً؛ حيث جادل وزير الخارجية أنتوني بلينكن قبل بدء إجراءات التقاضي بأن القضية "تشتت انتباه العالم"، ووصفها بأنها "عديمة الجدوى". لكن رفض بلينكن العرضي للقضية ستكون له تداعياته الدبلوماسية بغض النظر عن الجدوى القانونية للقضية، سواءً بالنسبة لمصداقية إدارة بايدن في دعوتها لأجندتها الديمقراطية المزعومة أو في ما يتعلق بتعزيز الدعم لأوكرانيا على مستوى جنوب العالم.
وخير دليل على ذلك هو ما جادل به الكاتب البرازيلي أوليفر ستونكيل على صفحات مجلة Foreign Policy الأمريكية مؤخراً، عندما قال: "ينظر العديد من الدول النامية إلى موقف الغرب من القضية الفلسطينية باعتباره دليلاً على أنه يطبق القواعد والأعراف الدولية بصورة انتقائية -وبما يتوافق مع مصالحه الجيوسياسية وليس بناءً على معيار عالمي".
وبفضل رفع جنوب أفريقيا للقضية، أصبح من المقبول اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم فادحة داخل إطار دولي رسمي كبير، فضلاً عن إجبار إسرائيل على الرد على الاتهام قانونياً وليس خطابياً.
وتفتقر محكمة العدل الدولية إلى سلطة إنفاذ القرارات، لهذا من المرجح أن يكون الضغط الأمريكي على إسرائيل لإنفاذ التدابير المؤقتة هو السبيل الوحيد لذلك. لكن مظهر واشنطن وكأنها لا تفعل شيئاً في هذا الصدد سيعزز الانطباع السائد بأن الأجندة الديمقراطية للرئيس جو بايدن، وكل الأحاديث الأمريكية عن قدسية حقوق الإنسان، هي مجرد كلام فارغ. حيث كتبت نسرين مالك في صحيفة Guardian البريطانية: "هناك ثمن لرفض المفاهيم والإجراءات التي تدعم شرعية ادعاء تلك الدول للسلطة الأخلاقية".
جنوب أفريقيا تقود دول الجنوب العالمي
في النهاية٬ بينما تضع جنوب أفريقيا الجائزة الجيوسياسية الكبرى نصب أعينها؛ حيث منحتها قضية محكمة العدل الدولية أوسمة تكريم بطولة الجنوب العالمي، وتدخلت الحكومات من بنغلاديش إلى ناميبيا رسمياً لدعمها، ولم تعد حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي تخشى معارضة وتحدي واشنطن علناً. وبعد استضافة قمة البريكس في أغسطس/آب، أوضحت بريتوريا أنها لن ترضى بمجرد اتباع خط مناهض للغرب من صياغة موسكو أو بكين، بل تسعى إلى قيادة التكتل بأسلوبها الخاص٬ كما تقول "فورين بوليسي".
وبعد عامٍ شهد طرح تساؤلات شرعية حول أوراق اعتمادها كطرف عالمي جاد -سواءً بسبب الجدل حول توقيف بوتين، أو الخلاف الدبلوماسي الكبير مع واشنطن حول شحنات الأسلحة المزعومة لروسيا- استغلت جنوب أفريقيا صمت ونفاق القوى الأكبر في الغرب٬ في محاولةٍ لاسترداد سمعتها كمنارةٍ أخلاقية لهذا العالم. ولا شك أنها تحقق النجاح في مساعيها.