يقول الرئيس جو بايدن إن إدارته تسعى لإقرار حل الدولتين في فلسطين، لكن الائتلاف الحاكم بزعامة بنيامين نتنياهو يريد تطهيراً عرقياً في قطاع غزة.
صحيفة Haaretz الإسرائيلية، في مقال لها بعنوان "على طريق التطهير العرقي"، رصدت تغييراً لافتاً في أهداف الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة من جانب الشخصيات النافذة التي يعتمد عليها تحالف حكومة نتنياهو.
ففي يوم الثلاثاء، 30 يناير/كانون الثاني 2024، أقام قادة الأحزاب اليمينية مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وكبار نشطاء الليكود مثل حاييم كاتس، ورئيس المجلس الإقليمي للضفة الغربية يوسي داغان، تجمعاً لأنصارهم؛ وذلك لعرض الهدف الجديد للحرب، والاحتفاء بذلك من خلال الرقصات.
التطهير العرقي في قطاع غزة
تقول الصحيفة العبرية في تقريرها إن هؤلاء لم يعودوا راضين عن أهداف الحرب التي أعلنتها الحكومة، وهي "تدمير حماس" وتحرير الأسرى المحتجزين في القطاع، إذ يطالب اليمين المتطرف الآن بالتطهير العرقي لقطاع غزة، وطرد السكان الفلسطينيين منه، وتأسيس مستوطنات يهودية في مكان البلدات والقرى الفلسطينية التي دمرها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
كانت إسرائيل قد شنَّت منذ عملية "طوفان الأقصى" العسكرية، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة، تبعه اجتياح بري، تسبب في ارتقاء أكثر من 26 ألف شهيد، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، من نساء وأطفال، كما دمرت البنية التحتية للقطاع بشكل كامل.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر 7 أكتوبر/تشرين الأول، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني"، والتي تجاوزت كل الخطوط الحمراء منذ تولي أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً المسؤولية أواخر عام 2022.
من جانبه، شاهد بنيامين نتنياهو في صمت رقصات الانتقال ومنصات التسجيل في مستوطنات "مدينة غزة الخضراء، والتقنية، والعبرية". ولا شك أن صمته وصمت العديد من مسؤولي الليكود كان معبّراً عن شكل العلاقة بين القوى السياسية داخل التحالف ومجلس الوزراء السياسي الأمني: حيث تقزّم دور رئيس الوزراء وأصبح أشبه بالمسؤول الإعلامي لابن غفير وسموتريتش، بحسب مقال هآرتس.
إذ سيتصرف نتنياهو وفقاً لما يرضيهم، وسيطيع وينفذ تعليماتهم خلال مؤتمراته الصحفية وأثناء محادثاته الخاملة مع الرئيس الأمريكي، "وإذا تجرّأ على تغيير كلام أسياده؛ فسوف يختصر بذلك الطريق إلى الانتخابات، وإلى لجنة التحقيق الرسمية، وإلى تحقيق مخاوف نتنياهو من محاكمته كرئيس وزراء سابق"، بحسب الصحيفة العبرية.
أرسل نتنياهو قادة الموساد والشاباك وأهالي المختطفين إلى باريس لبحث صفقة تبادل الأسرى، لكن حكام إسرائيل الحقيقيين أوضحوا له أن هذه مجرد أحلامٍ كاذبة. حيث أعلن بن غفير بالفعل أن نهاية الحرب ستعني نهاية الحكومة.
وليس لدى بن غفير، وزير الأمن الداخلي في الحكومة، ما يخسره في الواقع، إذ تتوقع استطلاعات الرأي نجاحه في صناديق الاقتراع، وستتحسن أرقامه أكثر إذا قدّم نفسه كشخصٍ أراد القتال حتى النهاية بعكس نتنياهو المهزوم. وبعد أن أعجزه الخوف، نفَّس رئيس الوزراء عن إحباطه في وجه أهالي المختطفين الذين حكم عليهم باستمرار الجحيم في غزة.
وترى هآرتس في مقالها أنه لا يجب تجاهل مبادرة التطهير العرقي والاستيطان في غزة على اعتبارها مجرد استعراض من نجوم الروك السياسيين في المستوطنات، الذين يسعون إلى لفت الأنظار واحتلال عناوين الأخبار.
إذ يتمتع المستوطنون بالتنظيم والقوة السياسية، وقد طردوا العديد من الفلسطينيين من "المنطقة ج في الضفة الغربية" منذ اندلاع الحرب على غزة. وهم جادون فيما يقولونه، وسيستخدمون قوتهم السياسية قدر المستطاع لتحقيق "نكبة ثانية" للفلسطينيين في غزة. حيث يرون أن تهجير غالبية سكان غزة بأمر الجيش الإسرائيلي، وتدمير غالبية منازل القطاع، سيمثل فرصةً لا تُعوّض للتطهير العرقي على أبعاد تاريخية.
ولن يتوقف هؤلاء بسبب تشبُّث نتنياهو بمقعده. لهذا يجب على الإسرائيليين المؤمنين باحترام حقوق الإنسان ومنع جرائم الحرب الخطيرة -سواءً التزاماً بمبادئ القانون الدولي أو لضرورة التعايش مع الفلسطينيين- أن يتحدوا ضد هذه المبادرة الكارثية، تقول هآرتس.
ماذا عن بايدن وحل الدولتين؟
هذا هو الموقف في إسرائيل الآن، فماذا عن موقف الحليف الأكبر، أي الولايات المتحدة الأمريكية؟ تقول إدارة جو بايدن إنها تسعى جاهدة من أجل التوصل إلى "حل الدولتين" لحسم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أو هكذا تدّعي. فقد أصر بايدن على أنَّ الحرب على غزة يجب أن تنتهي بالطريق إلى الاستقلال الفلسطيني، وهو اقتراح رفضه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشدة. وقد حاولت الحكومات العربية تحسين الصفقة، من خلال عرض تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل خطوات "لا رجعة فيها" نحو إقامة دولة فلسطينية.
هناك خطوة واحدة لا رجعة فيها يمكن أن يتخذها بايدن، سواء مع وجود صفقة أم لا؛ وهي منح الاعتراف الدبلوماسي للسلطة الفلسطينية. ويقول الخبراء إنَّ الرئيس الأمريكي لديه سلطة الاعتراف بدولة فلسطين، مع سريان الآثار القانونية لهذا القرار على الفور، ومن المرجح أنه قادر على دفع الأمم المتحدة للاعتراف بفلسطين أيضاً. ولن يحتاج الرئيس إلى إذن من الكونغرس ولا إسرائيل، بحسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
خالد الجندي، المستشار السابق للمفاوضين الفلسطينيين والرئيس الحالي لبرنامج فلسطين والشؤون الإسرائيلية الفلسطينية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، قال للموقع الأمريكي: "حتى لو لم تُرسَّم حدود دقيقة، فقد اعتُرِف بإسرائيل دولة بدون حدود محددة؛ لذا فهي ليست عقبة لا يمكن التغلب عليها".
لكن من المستبعد أن يتخذ بايدن مثل هذه الخطوة الجذرية، فقد عارضت إدارته خطوات أساسية مثل وقف إطلاق النار في غزة، وتجاوزت الكونغرس لإغراق إسرائيل بالمساعدات العسكرية السخية، بما في ذلك إعادة تعبئة الذخيرة ودعم عمليات الاستهداف. وعلى الرغم من أنَّ مسؤولي إدارة بايدن يصورون أنفسهم على أنهم متفرجون عاجزون أمام الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويبذلون قصارى جهدهم لتهيئة الظروف للحل، إلا أنَّ الخبراء والمسؤولين السابقين يقولون إنَّ الإدارة لديها مجموعة متنوعة من الأدوات التي اختارت حتى الآن عدم استخدامها –ومنها الاعتراف الدبلوماسي وتحركات أخرى أقل مستوى.
قالت محامية حقوق الإنسان زها حسن، والزميلة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "على أرض الواقع في فلسطين، لن يغير الاعتراف بالدولة الفلسطينية الكثير، لكن سيغير على الأرجح كيفية تعامل الدول الأخرى مع القضية مُتبعَة نهج الولايات المتحدة".
كان المسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية جوش بول قد استقال من منصبه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بسبب مخاوف من أنَّ "الإمداد الموسع والسريع بالأسلحة الفتاكة لإسرائيل… لن يؤدي إلا إلى معاناة أكثر وأعمق لكل من الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني". وفي مقال نشرته صحيفة Los Angeles Times الشهر الماضي، دعا بول إدارة بايدن إلى الاعتراف بفلسطين وتأييد الدولة الفلسطينية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة باعتبارها "الخطوة الأولى" نحو عملية سلام جديدة.
كانت الولايات المتحدة قد عرقلت في السابق محاولة السلطة الفلسطينية الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة في عام 2014. (وهي تملك حالياً مقعد مراقب لا يحق له التصويت). وقال بول لموقع Responsible Statecraft إنَّ "أي عضو دائم في مجلس الأمن لن يستخدم حق النقض ضد ترشيح تدعمه الولايات المتحدة لمنح فلسطين عضوية الأمم المتحدة".
وقال بول إنَّ كل شيء، من حقوق المياه إلى استخدام موجات الراديو والمجال الجوي فوق إسرائيل وفلسطين، "سيصير محل تفاوض بين طرفين متساويين وليس تنازلات من سلطة احتلالية إلى المُحتَل. وبالنسبة للعديد من هذه الحقوق، توجد منتديات تحكيم دولية ستصبح على الفور مصدراً للفصل في تلك القضايا".
هل حان وقت الاعتراف بدولة فلسطين؟
قالت محامية حقوق الإنسان زها حسن إنَّ جعل فلسطين عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة سيجعل إسرائيل "دولة معتدية على دولة عضو أخرى" بموجب ميثاق الأمم المتحدة. ويمكن أن يكون لذلك آثار فورية بموجب القانون الأمريكي. ويتطلب قانون مراقبة تصدير الأسلحة، الذي ينظم مبيعات الأسلحة الأمريكية والمساعدات العسكرية، من المشترين الأجانب استخدام الأسلحة أمريكية الصنع "للدفاع المشروع عن النفس" بما يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة.
في عام 1981، بعد أن قصفت القوات الجوية الإسرائيلية مفاعلاً نووياً عراقياً، علَّقت إدارة ريغان مؤقتاً شحنات الطائرات المقاتلة إلى إسرائيل على أساس أنَّ إسرائيل تجاوزت حدود الدفاع عن النفس. ومن ثم، إذا اعتُرِف بفلسطين دولة منفصلة عن إسرائيل، فقد تدخل حسابات مماثلة في الاعتبار.
ومن الآثار المباشرة الأخرى للاعتراف بدولة فلسطين هي السماح بفتح سفارة في الولايات المتحدة. في السابق، كان الدبلوماسيون الفلسطينيون يعملون من مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، التي أغلقتها إدارة ترامب في عام 2018. لكن بإعلان فلسطين دولة مستقلة، فيمكنها فتح سفارة يحميها القانون الدولي.
ولأنَّ أية إدارة أمريكية مستقبلية يمكن أن تلغي الاعتراف بالحكومة الفلسطينية، كما حذر فينوكين، لذلك "أنت بحاجة إلى نوع من الإجماع السياسي الذي يدعم" الاستقلال الفلسطيني حتى يستمر. ومنذ التسعينيات فصاعداً، تبنت الولايات المتحدة سياسة دعم الدولة الفلسطينية باعتبارها نتيجة نهائية للمفاوضات، وليس خطوة مسبقة.
وقال المستشار السابق خالد الجندي: "من شبه المؤكد أنَّ ذلك سيخلق أزمة في العلاقات الثنائية مع إسرائيل، وهذا هو السبب الأساسي لعدم حدوث ذلك". ومع ذلك، أصر الجندي على أنَّ هناك إجراءات لا ترقى إلى مستوى الاعتراف يمكن أن تتخذها إدارة بايدن. فقد فرض بايدن حتى الآن حظراً على منح تأشيرات دخول لمستوطنين إسرائيليين ارتكبوا أعمال عنف ضد المدنيين الفلسطينيين. ويمكنه أن يدفع بعقوبات اقتصادية أكثر جدية ضد المستوطنات. وأشار الجندي إلى أنَّ العديد من الجمعيات الخيرية الأمريكية تحول الأموال إلى المستوطنات، ويمكن لبايدن بسهولة إلغاء وضع الإعفاء الضريبي الخاص بها. ويضغط العديد من المشرعين في ولاية نيويورك من أجل اتخاذ هذا الإجراء.
إضافة إلى ذلك، رفض بايدن التراجع عن بعض تحركات إدارة ترامب لترسيخ السيطرة القانونية الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. وكان وزير الخارجية السابق مايك بومبيو قد أصدر مذكرة أعلن فيها أنَّ المستوطنات الإسرائيلية "لا تتعارض في حد ذاتها مع القانون الدولي"، وأمر سلطات الجمارك الأمريكية بوضع علامة على منتجات المستوطنات بأنها "صنعت في إسرائيل". ولم تتراجع وزارة خارجية بايدن عن أي من القرارين.
وكثيراً ما يستشهد النقاد بالمساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل باعتبارها نقطة ضغط أخرى ترفض الولايات المتحدة استخدامها. إذ يخصص الكونغرس حالياً نحو ثلاثة مليارات دولار سنوياً مساعدات لإسرائيل ويدرس تقديم مساعدات إضافية بقيمة 14.5 مليار دولار هذا العام. وهناك دلائل على أنَّ بايدن سيكون لديه شريك مؤيد في الكونغرس إذا قرر تقييد تلك المساعدات. وقد وقع كل الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تقريباً على تعديل من شأنه إضافة تأييد لحل الدولتين إلى حزمة المساعدات العسكرية.
وتابع الجندي: "الخطوة الأولى هي إدراك أنه لا يوجد حل عسكري لهذا الأمر، وأنَّ معالجة البعد السياسي وحده كفيلة بحل المسألة. وفي الوقت الحالي، هم يتابعون البعدين العسكري والسياسي معاً. فهم يقولون إنَّ هناك حلاً عسكرياً للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكننا نريد أيضاً أن يكون لدينا حل دبلوماسي. ولا يمكن تطبيق الحلين معاً؛ فهذا ليس له أي معنى. ففي الواقع، هم يخلقون الظروف التي تجعل التسوية الدبلوماسية شبه مستحيلة".
وفي مواجهة المفاضلة بين الإجراءات العسكرية والدبلوماسية، يبدو بايدن ملتزماً بمواصلة الحرب الإسرائيلية، إذ قال في إحدى فعاليات حملته الانتخابية في ديسمبر/كانون الأول: "لا يمكن القول إنه لن تكون هناك دولة فلسطينية على الإطلاق في المستقبل. وسيكون الوصول لذلك هو الجزء الأصعب. لكن حتى ذلك الوقت، لن نفعل أي شيء حالياً سوى حماية إسرائيل".