أدت هجمات الحوثيين خلال الشهرين الماضيين في مضيق باب المندب الاستراتيجي، الذي يربط البحر الأحمر ببحر العرب، إلى دفع أكبر شركات الشحن العالمية إلى تعطيل عبورها لقناة السويس لعدة أسابيع. بينما غيّرت شركات أخرى مسار سفنها بالتزامن مع شن الولايات المتحدة وبريطانيا لضربات جوية على اليمن وتصاعد الأوضاع، وفتحت الأزمة الباب لازدهار الطرق البديلة لباب المندب بما فيها مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وبدأت أزمة الملاحة في البحر الأحمر، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد الإعلان عن استيلاء الحوثيين على سفينة تدعى "Galaxy Leader"، مملوكة جزئياً لرجل أعمال إسرائيلي، رداً على الحرب الإسرائيلية على غزة، وأعلنوا عن استهدافهن للسفن المرتبطة بإسرائيل لحين انتهاء الحرب، وتوصيل الإمدادات للقطاع، ولكن الولايات المتحدة وسعت الأزمة بقصفها للحوثيين، الذين ردوا باستهداف السفن المرتبطة بواشنطن ولندن، وتفاقم التوتر الذي أدى لارتفاع في أسعار الشحن بشكل كبير، مهدداً سلاسل التوريد العالمية.
وإبان تسكُّع السفن في البحر المتوسط أو بحر العرب لدراسة الخيارات المتاحة، انشغلت شركات أخرى بفكرة تجاوز المضيق بالكامل، حسب ما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وبدأت تظهر بدائل برية أو برية بحرية لطريق البحر الأحمر شبه الحصري للتجارة بين آسيا والغرب، والذي يمر به نحو 10% من التجارة العالمية.
السعودية والإمارات تقدمان بديلاً لطريق البحر الأحمر ومصر متضررة
في منتصف ديسمبر/كانون الأول، سارعت السعودية للموافقة على إنشاء "جسر بري" من بحر العرب إلى البحر المتوسط، وذلك عبر السماح للسلع الراسية في موانئ الخليج العربي (مثل جبل علي في الإمارات أو سلمان في البحرين) باجتياز أراضيها على متن الشاحنات، وصولاً إلى ميناء حيفا في إسرائيل.
ويمثل هذا المسار أحد الطرق البديلة لباب المندب وقناة السويس.
ويزعم تقرير المجلة الأمريكية أن هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يوقف اتفاقيات أبراهام. حيث يقول إن السعودية والإمارات سارعتا لتعزيز تعاونهما مع إسرائيل على صعيد البنية التحتية من أجل التكيّف مع الاضطرابات البحرية، رغم دعمهما القوي لحل الدولتين، فضلاً عن أنهما ستجمعان بذلك رسوم العبور التي كانت تتدفق على الخزائن المصرية في المعتاد. والأفضل من ذلك هو أن ممر الخليج-إسرائيل هو الأقصر من طريق البحر الأحمر البحري بعشرة أيام، ما يعزز فكرة النقل البري.
لقد أدت الصدمات الجيوسياسية، بدايةً من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر ووصولاً للحرب الروسية-الأوكرانية، إلى رفع تكاليف الخدمات اللوجستية وأسعار الغذاء. وجاء ذلك بالتزامن مع مكافحة الاقتصاد العالمي -وخاصةً في الدول النامية- من أجل التعافي من الآلام المالية الناجمة عن جائحة كوفيد 19.
هناك حاجة لعدد من الطرق البديلة لباب المندب
وتقول المجلة الأمريكية: "إنه لا شك في أن حل التقلبات الدائمة المعاصرة لن يخرج من القمم العرضية التي تعقدها بكين مع واشنطن، أو جلسات العلاج الجماعي الخاصة بمجموعة السبع، أو المؤتمرات الحوارية مثل المنتدى الاقتصادي العالمي أو مؤتمرات المناخ".
وتضيف أن هناك في الواقع طريقاً واحداً محدداً يناسب العالم الذي ضربته آفة فقدان الثقة الشديدة والأزمات غير المتوقعة، ويُتيح له التحرك جماعياً بأسلوب هادف لخدمة المصلحة العامة العالمية.
ويتمثل هذا الطريق في بناء المزيد من الممرات لمساعدة العرض على تلبية الطلب. ويكمن حل صدمات الإمداد في زيادة سلاسل الإمداد. وهذا يعني المزيد من الأحزمة، والمزيد من الطرق.
الصين سبقت عصرها
وقد كانت الصين هي الدولة الوحيدة التي أدركت هذا الأمر منذ سنوات، وبدأت التحرك بناءً عليه، حسب المجلة الأمريكية.
إذ أثارت الصين استياء العديد من قادة الغرب في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وذلك عندما اجتمعت بقادة وممثلي أكثر من 130 دولة في بكين للاحتفال بالذكرى العاشرة لإطلاق مبادرة الحزام والطريق البارزة. وكان استياء قادة الغرب من الاحتفال مشابهاً لما حدث مع إطلاق المبادرة قبل عقدٍ من الزمن، وذلك على اعتبارها تمثل خطةً سرية لتقويض النظام العالمي الذي يقوده الغرب، بهدف وضع الصين في مركز شبكات التجارة العالمية.
لكن مبادرة الحزام والطريق تمثل من المنظور العملي ما يجب على كافة الدول أن تفعله لخدمة مصالحها الوطنية: بناء أكبر عدد من الممرات لتمكين العرض من تلبية الطلب، وذلك كوسيلة تحوط ضد الاضطرابات غير المتوقعة، ولتعزيز تواصل الدولة ونفوذها، وفقاً لوجهة نظر المجلة الأمريكية.
إذ لا يوجد ما يبرر بقاء أكبر مناطق الاقتصاد العالمي رهينةً للأحداث المتفرقة الخارجة عن السيطرة، سواء انكشف ضعف نقاط الاختناق البحرية بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، أو حصار الحبوب الروسي في البحر الأسود، أو جفاف قناة بنما، أو الصراع المحتمل في بحر الصين الجنوبي قرب مضيق ملقا.
التجارة بين بكين أوروبا تتدفق بالفعل عبر مبادرة الحزام والطريق
ومن المؤكد أن بإمكان السفن اللجوء إلى طريق ما قبل ظهور قناة السويس والسفر حول رأس الرجاء الصالح في أفريقيا، ليضيفوا بذلك 10 إلى 14 يوماً لزمن الشحن الذي يستغرق 20 إلى 30 يوماً في المعتاد. لكن الصين وأوروبا سلكتا الطريق المقابل الأكثر حكمة؛ حيث تضاعف حجم شحنات السكك الحديدية عبر أوراسيا ليصل إلى 1,000 قطار شحن شهرياً أوائل عام 2021، ما وفّر قدراً أكبر من الاعتمادية والانضباط.
والعالم بحاجةٍ إلى المزيد من الطرق السريعة والسكك الحديدية بطول أوراسيا، وكذلك المزيد من الموانئ بطول المحيطين الهندي والمتجمد الشمالي، وذلك حتى تتوفر المرونة والطرق البديلة أمام تجارة الشحنات والسلع العالمية التي يعتمد عليها الأداء السليم للاقتصاد العالمي. وتُعد هذه الاستثمارات بمثابة تدابير استباقية ضد الصدمات التضخمية الناجمة عن السياسات الحمائية، والجغرافيا السياسية، وتغير المناخ.
الممر الهندي المنافس سيتحول إلى مجرد فرع من المبادرة الصينية
ومن الصعب الزعم بأن مبادرة الحزام والطريق لم تحدث تحولاً. فمنذ عام 2013، تدفق مبلغ تريليون دولار تقريباً من رؤوس الأموال على الدول الأعضاء في مبادرة الحزام والطريق، من أجل تغطية مشروعات البناء والاستثمارات غير المالية.
وفي الوقت ذاته، شهدت قمة العشرين في نيودلهي شهر سبتمبر/أيلول الماضي احتفاء الولايات المتحدة بمقترح الممر الاقتصادي متعدد الوسائل بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بتكلفةٍ تبلغ 20 مليار دولار، وذلك على اعتبار أنه سيكون منافساً لمبادرة الحزام والطريق. لكن هذا المشروع سيكون في الواقع أشبه بفرعٍ محلي لمبادرةٍ الحزام والطريق.
نيودلهي تتقرب من روسيا وإيران ودول الخليج تنسج علاقة وثيقة مع الصين وأمريكا
ويرجع أحد الأسباب إلى أن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يروج كذلك لممر تجاري مع روسيا مروراً بإيران، وهو أمر لن يلقى إعجاب واشنطن بالتأكيد. وعلى نحو مماثل، لا تنحاز دول الخليج الواثقة لأي من طرفي الحرب الباردة الجديدة بين الصين وأمريكا وحتى روسيا، كما يتجلى من العلاقات السعودية والإماراتية مع الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين والهند واليابان في الوقت نفسه. وبدلاً من الانحياز، تبني منطقة الخليج تحالفات متعددة بارعة لتعزيز دورها كمفترق طرق جغرافي بين أوروبا وأفريقيا وآسيا.
وعادت أفرو-أوراسيا اليوم لتصبح مركزاً للتركيبة السكانية، والاقتصادية، والجيوسياسية العالمية. وتريد جميع دول هذه المنظومة الخاصة بالمحيطين الهندي والهادئ عولمةً أكبر، وليس أقل. حيث ستفوز أكثر القوى اتصالاً عن طريق إقناع الدول التجارية باستخدام جغرافيتها بدلاً من جغرافيّة الآخرين.
وتركيا تطرح طريقاً بديلاً من البصرة إلى أوروبا عبر أراضيها
وستستفيد الدول ببناء عالمٍ أكثر تشابكاً ومتعدد الطبقات، وليس أكثر تقسيماً. ولرغبته في ألا يتخلف عن الركب، اقترح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال قمة العشرين نفسها تأسيس ممر عبور تجاري آخر، بحيث يمتد من ميناء البصرة جنوبي العراق وصولاً إلى أوروبا عبر تركيا.
كما أنه من الطرق البديلة لباب المندب، هناك طريق للنقل البري تسعى تركيا لتعزيزه، وهو طريق الممر الأوسط الذي تنقل عبره بضائع الصين وآسيا الوسطى إلى أوروبا، والذي أصبح مرشحاً للتحول لواحد من أهم ممرات النقل في العالم.
وتزايد الحديث عن هذا الممر مع استمرار الأزمة الأوكرانية والحصار الغربي على روسيا، الأمر الذي يشجع اتجاهات النقل بين آسيا إلى أوروبا دون المرور بالأراضي الروسية الشاسعة، من خلال تطوير الطرق الجنوبية التي تتجنب روسيا وتتجه من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر الموانئ البحرية في كازاخستان وتركمانستان عبر بحر قزوين إلى ميناء باكو الأذربيجاني، ومنها لجورجيا ثم إلى تركيا، أو عبر الموانئ الجورجية على البحر الأسود وما بعده إلى الاتحاد الأوروبي.
الغرب يصور مبادرة الحزام والطريق على أنها مبادرة شريرة
وقد توسعت ميزانية الصين الدفاعية، وصادراتها من الأسلحة، وعلاقاتها الاستراتيجية مع الأنظمة المناهضة للغرب ومع حلفاء الولايات المتحدة على حدٍ سواء. ونتيجةً لذلك، أصبح يُنظر إلى مبادرة الحزام والطريق على اعتبارها عنصراً أساسياً في الاستراتيجية الصينية الكبرى، أو مؤامرتها الشريرة لتمهيد العالم.
وعلى صعيد البنية التحتية والتجارة؛ فقد جرى إطلاق العديد من البرامج المصممة لإقناع الدول بالاقتراض بأسعار ميسرة من جهات متعددة بدلاً من اللجوء إلى المقرضين الصينيين، أو التعاقد مع الشركات الغربية بدلاً من الصينية لبناء شبكات الجيل الخامس أو مدّ كابلات الإنترنت.
وتشمل تلك البرامج قانون المنافسة الاستراتيجية وقانون أشباه الموصلات والعلوم داخل الولايات المتحدة، وشركة تمويل التنمية الدولية الأمريكية، ومبادرة البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي، ومبادرة مرونة سلاسل الإمداد العالمية، ومبادرة "إعادة بناء عالم أفضل" من مجموعة السبع.
الصين تستحق الثناء لأنها لفتت نظر العالم لأهمية الاستثمار في البنية التحتية
بدأ الغرب يدرك أن عليه استثمار الأموال لتأييد التصريحات التي يتشدّق بها. وقد أصبح سباق التسلح بالبنية التحتية جارياً اليوم على قدم وساق. وربما تستحق الصين الثناء لأنها أعادت مسألة تطوير البنية التحتية إلى الأجندة العالمية بعد عقود من إهمال القوى الغربية، لكن زيادة استثمار العالم جماعياً في البنى التحتية الحيوية سيقلل احتمالات أن تؤدي كل الطرق إلى بكين. وربما تأخر الغرب في هذه الجولة الأخيرة من اللعبة الكبرى، لكنه بدأ يحرز بعض النجاحات على صعيد تحقيق تكافؤ الفرص.
وعلى الرغم من تصوير المبادرات التي تقودها الصين على أنها تخوض منافسة صفرية المحصلة أمام المبادرات التي يقودها الغرب؛ سنجد أن البنى التحتية مثل الموانئ وشبكات الكهرباء ليست حصرية أو تنافسية في أغلب الحالات. إذ إنها متاحة أمام أي مستخدم تجاري، وتقدم خدمات متساوية لجميع المستخدمين. ويؤدي كل مشروع في هذه المنافسة إلى إحراز تقدمٍ غير مقصود للمشروع الأكبر، الذي يستهدف تحويل العالم إلى منظومة سلاسل توريد مترابطة، سواء أكان مشروع خط أنابيب أم شبكة كهرباء أك كابل إنترنت.
وتقول المجلة الأمريكية: "إنه لا شك أن القدرة على تحويل حركة الشحن عفوياً من قناة السويس إلى سكك حديد أوراسيا، أو حتى الممر البحري القطبي الأسرع، هي السبيل أمام الاقتصاد العالمي ليُصبح أكثر مرونة في مواجهة الصدمات، أو "مقاوماً للهشاشة"، على حد تعبير نسيم نقولا طالب".