جاء الدور على إسرائيل للرد، أمام محكمة العدل الدولية، على اتهامها بتنفيذ حملة "إبادة جماعية" في غزة هدفها القضاء على الفلسطينيين، فهل يسعف تل أبيب الاستناد إلى "حق الدفاع عن النفس"؟
كانت جنوب أفريقيا، التي رفعت الدعوى أمام المحكمة التابعة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، قد طلبت، الخميس 11 يناير/كانون الثاني، من هيئة المحكمة المكونة من 15 قاضياً، فرض إجراءات عاجلة تأمر إسرائيل بالوقف الفوري لحربها على القطاع.
كانت إسرائيل قد شنَّت منذ عملية "طوفان الأقصى" العسكرية، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة، تبعه اجتياح بري، معلنةً عن هدفين رئيسيين هما: تدمير المقاومة، وتحرير الأسرى بالقوة العسكرية.
إسرائيل وذريعة "حق الدفاع عن النفس"
"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر ذلك اليوم؛ رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنَّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وحتى الأربعاء 10 يناير/كانون الثاني، ارتقى أكثر من 23 ألف شهيد فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، إضافةً إلى إصابة عشرات الآلاف وتدمير كامل لغالبية مباني القطاع وبنيته التحتية المدنية، بخلاف الحصار المطبق وحرمان أكثر من 2.3 مليون فلسطيني فيه من أساسيات الحياة، فيما يصفه خبراء قانون دولي بأنه "عقاب جماعي" بحق سكان القطاع ترتكبه إسرائيل.
ومن المتوقع أن تستند مرافعات فريق الدفاع عن إسرائيل، الجمعة 12 يناير/كانون الثاني، على "حق الدفاع عن النفس"، إذ كان الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتسوغ قد قال إن تل أبيب ستكون في محكمة العدل الدولية و"سنعرض قضيتنا بفخر مستندين إلى حقنا في الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي الإنساني".
"حق الدفاع عن النفس" هو الذريعة التي تتمسك بها إسرائيل وداعميها، وبخاصة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، فماذا يقول القانون الدولي عن هذه الذريعة؟ في مرافعته أمام محكمة العدل الدولية، والتي تعرف أيضاً باسم "محكمة العالم"، تطرق البروفيسور البريطاني، فوغان لو، لهذه النقطة بالتفصيل، من وجهة النظر القانونية البحتة.
"يجب هنا أن أتناول سؤال الدفاع عن النفس. في رأيها الاستشاري في قضية الجدار العازل، أقرت المحكمة (محكمة العدل الدولية) أن ما تقوله إسرائيل بشأن وجود تهديد يبرر بناء الجدار لم يكن نابعاً من دولة أجنبية، ولكنه (التهديد) نابع من أراضٍ (الأراضي الفلسطينية المحتلة) تسيطر عليها إسرائيل. ولهذه الأسباب قررت المحكمة أن حق الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا ينطبق على هذه الملابسات في ظل تلك الظروف"، بحسب ما قاله فوغان لو، أحد أعضاء فريق الادعاء الذي مثل جنوب أفريقيا.
"وقبل 20 يوماً أكد مجلس الأمن الدولي مرة أخرى أن قطاع غزة هو أرض محتلة. ورغم أن إسرائيل تشير إلى انسحابها الكامل من غزة، إلا أنها استمرت في السيطرة على القطاع من خلال حصاره براً وبحراً وجواً بشكل كامل، إضافة إلى التحكم في المهام الحكومية الرئيسية وإمدادات المياه والكهرباء. قد يكون مستوى السيطرة على القطاع قد تنوع من وقت لآخر، لكن لا أحد لديه شك في حقيقة استمرار حصار إسرائيل على القطاع. ومن ثم، فإن موقف المحكمة القانوني من وضع غزة خلال الحكم الصادر عام 2004 يظل منطبقاً على أرض الواقع حتى اليوم"، أضاف فوغان لو.
"إذ إن المنطق نفسه ينطبق على قضية اليوم. إن ما تفعله إسرائيل في غزة وهي إجراءات تتخذها بحق أرض تابعة لسيطرتها. إن أفعالها هي تأكيد لسلطة الاحتلال في القطاع. ومن ثم فإن قانون الدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا ينطبق على إسرائيل دولة الاحتلال".
اتهامات جنوب أفريقيا لإسرائيل
محكمة العدل الدولية، والتي يطلق عليها أيضاً اسم المحكمة العالمية هي أعلى هيئة قانونية تابعة للأمم المتحدة، تأسست عام 1945 للتعامل مع النزاعات بين الدول. وتتعامل هيئة المحكمة المؤلفة من 15 قاضياً- والتي سيُضاف إليها قاضٍ واحد من كل طرف في قضية إسرائيل- مع النزاعات الحدودية والقضايا المتزايدة التي ترفعها الدول لاتهام أخرى بانتهاك التزامات معاهدة الأمم المتحدة.
وقَّعت كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل على اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للفصل في النزاعات على أساس المعاهدة. وبينما تدور القضية حول الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليس للفلسطينيين أي دور رسمي في الإجراءات، لأنهم ليسوا دولة عضواً في الأمم المتحدة.
وتُلزم اتفاقية الإبادة الجماعية جميعَ الدول الموقّعة، ليس فقط بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية، بل بمنعها والمعاقبة عليها. وتعرّف المعاهدة الإبادة الجماعية بأنها "الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية".
وفي ملف الدعوى، الذي يتكون من 48 صفحة، قالت جنوب أفريقيا إن قتل إسرائيل للفلسطينيين في غزة والتسبب في أذى نفسي وجسدي جسيم لهم وتهيئة ظروف معيشية تهدف إلى "تدميرهم جسدياً" يعد إبادة جماعية لهم.
ورصدت الدعوى أن إسرائيل تتقاعس عن توفير الغذاء والماء والدواء والوقود والمساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأشارت أيضاً إلى حملة القصف المستمرة التي دمرت جزءاً كبيراً من القطاع وأجبرت حوالي 1.9 مليون فلسطيني على النزوح.
كما جاء في الدعوي أن "جميع هذه الأعمال تُنسب إلى إسرائيل التي فشلت في منع الإبادة الجماعية وترتكبها في انتهاك لاتفاقية الإبادة الجماعية"، مضيفة أن إسرائيل تقاعست عن منع مسؤولين فيها من التحريض على الإبادة الجماعية؛ مما يخالف ما تنص عليه الاتفاقية. وتطلب الدعوى من محكمة العدل الدولية فرض تدابير طوارئ لوقف الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل.
ويعد طلب جنوب أفريقيا من المحكمة الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة خطوة أولى في قضية ستستغرق عدة سنوات لكي تكتمل. ويُقصد من التدابير المؤقتة هنا أن تصدر المحكمة قراراً بوقف فوري لإطلاق النار في القطاع.
وتركز جلسات هذا الأسبوع على التداول فقط بشأن ما إذا كان يمكن منح موافقة على اتخاذ "التدابير الطارئة". ووفقاً للإجراءات الاحترازية، ستقرر المحكمة أولاً ما إذا كانت تتمتع بالاختصاص القضائي للنظر في الدعوى، وما إذا كانت الأفعال التي تُتهم إسرائيل بارتكابها تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية.
وطلبت جنوب أفريقيا من المحكمة أن تأمر إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في غزة، ووقف أي أعمال إبادة جماعية أو اتخاذ إجراءات معقولة لمنع الإبادة الجماعية، وتقديم تقارير منتظمة إلى محكمة العدل الدولية حول مثل هذه الإجراءات.
ومع أن أحكام محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للطعن عليها، ليس هناك أي وسيلة لتنفيذها. ومن شأن صدور حكم بحق إسرائيل أن يضر بسمعتها دولياً ويشكل سابقة قانونية.
منع "الإبادة الجماعية" في غزة
تعرف اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، التي صدرت في أعقاب القتل الجماعي لليهود في المحرقة النازية، الإبادة الجماعية بأنها "أفعال مرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية".
ومنذ أن بدأت إسرائيل عدوانها على غزة، اضطر كل سكان القطاع تقريباً، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، إلى النزوح عن منازلهم مرة واحدة على الأقل مما تسبب في كارثة إنسانية.
وتزامن هذا العدوان على القطاع مع تصريحات علنية صادرة عن أعلى المسؤولين في حكومة إسرائيل، ومنهم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء ووزير الدفاع يوآف غالانت وغيرهما من الوزراء ونواب الكنيست، رصدتها دعوى جنوب أفريقيا أمام المحكمة الدولية كأدلة على "النية لارتكاب الإبادة الجماعية" في غزة بحق سكان القطاع.
وزير الدفاع غالانت وصف سكان غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، وأعلن "حرمانهم من الكهرباء والماء والطعام والوقود"، ووصف بنيامين نتنياهو المقاومة الفلسطينية بأنها "وحوش بشرية تحتفل بقتل النساء والأطفال وكبار السن"، بينما أعلن وزير التراث في الحكومة الإسرائيلية، عميحاي إلياهو، أن ضرب غزة بقنبلة نووية هو "أحد الخيارات المتاحة".
لكن هذه اللغة التحريضية، التي تكشف عن النية لارتكاب "إبادة جماعية" بحق الفلسطينيين، ليست وليدة العدوان الحالي على قطاع غزة أو محصورة في إطاره. ففي مطلع ثمانينات القرن الماضي، وصف مناحم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الفلسطينيين بأنهم "وحوش تمشي على قدمين"، وهي اللغة نفسها التي استخدمها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق رافائيل إيتان في حديثه عام 1983 أمام البرلمان الإسرائيلي حين وصف العرب بأنهم "صراصير مُخدرة في زجاجة". وفي عام 2013، وصف نائب وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إيلي بن دهان الفلسطينيين بأنهم "كالحيوانات بالنسبة لي، هم ليسوا بشراً".